دبلوماسیة الأنفاق السریة!
دبلوماسیة الأنفاق السریة!
نقولا ناصر
بدءا من الوعد الذی قطعته بریطانیا "فی العلن" بدعم استقلال العرب عن الدولة العثمانیة فی دولة متحدة و"فی السر" أعطت وعودا مناقضة وأبرمت اتفاقیات مع حلفائها نسفت وعدها العلنی مثل "وعد بلفور" للحرکة الصهیونیة، واتفاق سایکس – بیکو الشهیر الذی أبرمته مع فرنسا وروسیا، وکل ذلک خلال عامین تقریبا أثناء الحرب العالمیة الأولى أوائل القرن العشرین الماضی، وانتهاء بـ"اتفاق أوسلو" السری الذی نسف محادثات السلام العلنیة التی کان یقودها المرحوم د. حیدر عبد الشافی فی واشنطن أوائل عقد التسعینات من القرن الماضی، کان مصیر الأمة فی وطنها العربی الکبیر یتقرر فی الظلام داخل الأنفاق السیاسیة السریة بمعزل تام عن الجماهیر الشعبیة التی حرصت کل الأطراف المعنیة على تغییبها تضلیلا أو قهرا.
وما زالت دبلوماسیة الأنفاق السریة عبر القنوات الخلفیة هی سیدة الموقف حتى الآن، ومع ذلک ما زالت نخب عربیة طغى علیها التغریب تصدق بسذاجة ادعاءات الدول الغربیة بأن مصالحها الحیویة تکمن فی "دمقرطة" المنطقة، بالرغم من تجربة أکثر من مائة عام التی تؤکد بأن المصالح الحقیقیة لهذه الدول انما تکمن حقا فی استمرار تغییب الجماهیر العربیة والإسلامیة عن تقریر مصیرها بنفسها فی وضح النهار، والحالة الفلسطینیة هی المثال النموذجی فی الوقت الراهن وتاریخیا.
وقد کان اتفاق أوسلو بین دولة الاحتلال الإسرائیلی وبین منظمة التحریر الفلسطینیة عام 1993 حالة دراسیة نموذجیة دفعت الأستاذ بـ"الجامعة الأمیرکیة" فی واشنطن العاصمة والمستشار فی "معهد السلام الأمیرکی" - - "الذی للمفارقة یشغل وزیر "الدفاع" الأمیرکی الحالی روبرت غیتس منصب نائب رئیس مجلس إدارته بینما یقود حربین فی العراق وأفغانستان ویدعم أمن دول الاحتلال الإسرائیلی التی تسعى إلى تحویل المکاسب الإقلیمیة لحروبها إلى وضع دائم خلافا لمیثاق الأمم المتحدة" - - الذی سبق له أن قدم المشورة أیضا للبنک الدولی، أنتونی وأنیس – سانت جون، إلى تألیف ونشر کتابه المعنون "التفاوض عبر القنوات الخلفیة: السریة فی عملیة سلام الشرق الأوسط" لیخلص فیه بعد العرض والتحلیل إلى أن أسالیب المحادثات والمفاوضات السریة قد جعلت الصراع یستفحل وأطالت أمد استعصاء حله.
ومن یعش النتائج الکارثیة التی تمخض عنها نفق أوسلو فی الوقت الحاضر یجد فیها أدلة دامغة على صحة الاستنتاج الذی خلص إلیه سانت جون، لیس فقط بالنسبة لما آل إلیه وضع الشعب الفلسطینی تحت الاحتلال وفی المنافی والمهاجر وما آلت إلیه قضیته الوطنیة، بل أیضا بالنسبة للسلام الذی یبدو الیوم أبعد منه فی أی وقت مضى وبالنسبة لـ"عملیة السلام" ذاتها التی یحاولون الآن إحیاءها وهی رمیم.
وکان سانت جون نفسه فی سنة 2001 قدم أطروحة له لمدرسة الحقوق والدبلوماسیة بجامعة تفتس الأمیرکیة بعنوان "دبلوماسیة القنوات الخلفیة: الاستخدام الاستراتیجی لقنوات التفاوض المتعددة فی صنع السلام فی الشرق الأوسط" أوضح فیها أن المتفاوضین فی نفق أوسلو اعتمدوا المفاوضات السریة إستراتیجیة لاحقة لهم، وعرض وحلل تطور القنوات السریة التی قادت إلى الاتفاقیات التی انبثقت عن اتفاق أوسو الأول على "المبادئ" الذی وقع "علنا" فی واشنطن، ولم یترک مجالا للشک فی أن التفاوض السری هو منهج لا یمکن إلا أن یکون مستمرا حتى الآن.
فعلى سبیل المثال یستعرض مؤلف الأطروحة أنه مثلما تم التوصل إلى "إعلان المبادئ" سرا کذلک تم التوصل إلى اتفاق "وای ریفر" بعد مفاوضات سریة بین رئیس وزراء دولة الاحتلال بنیامین نتنیاهو اثناء ولایته الأولى عام 1996 وبین کبیر مفاوضی منظمة التحریر آنذاک أحمد قریع "أبو علاء" قبل أن "یعلن" الاتفاق فی المکان الذی حمل اسمه بواشنطن العاصمة. وهذه "السابقة" للتفاوض السری مع نتنیاهو تشکک کثیرا فی أی نفی قد یصدر عن مفاوضی المنظمة فی الوقت الحاضر لوجود مفاوضات سریة مع نتنیاهو أثناء ولایته الثانیة الحالیة.
وفی هذا السیاق لا یعود أمرا استثنائیا ما کشف الرئیس الأمیرکی السابق جورج دبلیو. بوش عنه فی مذکراته "نقاط القرار" التی نشرها مؤخرا، بأن رئیس دولة الاحتلال السابق ایهود أولمرت والرئیس محمود عباس قد توصلا إلى صفقة سلام سریة - - عبر أنفاق مؤتمر أنابولیس هذه المرة - - "قمنا بتصمیم عملیة لتحویلها .. إلى اتفاق معلن"، وتتضمن توکیل "لجنة حکماء غیر سیاسیة، تتولى المسؤولیة عن المقدسات الدینیة فی القدس، لکن عباس رفض المصادقة علیها "علنا" بعد أن أطاحت فضیحة فساد بشریکه أولمرت فیها. ولأن هذا الکشف ینسجم تماما مع نهج إستراتیجیة التفاوض المزدوج السری والعلنی المعتمد منذ توقیع اتفاق أوسلو فإن أهمیته الوحیدة تکمن فی الواقع فی تسلیطه الضوء على ما یدور فی ظلام الدهالیز المغلقة فی الوقت الحاضر.
إذ بینما یدور حالیا جدل ساخن "فی العلن" حول تجمید جزئی مؤقت للاستعمار الاستیطانی الیهودی فی الضفة الغربیة، یجدر التذکیر بحقیقة أن التفاوض السری قاد فی وقت مبکر إلى تفاهم حول تبادل الأراضی کحل لعقدة الاستیطان فی المفاوضات العلنیة منذ أنشأ المتفاوضون "قناة خلفیة سریة" قبل الافتتاح الرسمی العلنی لمحادثات الوضع النهائی عندما أشرف على هذه القناة الرئیس الحالی لمنظمة التحریر عباس ونائب وزیر خارجیة دولة الاحتلال فی حینه یوسی بیلین وواصلت هذه القناة عملها فی العاصمة السویدیة ستوکهولم منذ الأول من الشهر التاسع عام 1994 إلى نهایة الشهر العاشر من العام التالی 1995 وتوصلت إلى مسودة اتفاق إطار عمل للتفاوض على الوضع النهائی حال اغتیال اسحق رابین ومجیء نتنیاهو إلى رئاسة الوزراء بدلا منه دون الإعلان عنه، قبل خمس سنوات من انهیار محادثات قمة کامب دیفید الثلاثیة حول الوضع النهائی مع الأمیرکیین عام 2000.
وکانت هذه قمة علنیة لکن محادثاتها کانت سریة مثلها مثل سلسلة الاجتماعات کل أسبوعین على مدار أکثر من عام بین عباس وبین أولمرت بعد مؤتمر أنابولیس عام 2007 التی تمخضت عن "الصفقة" التی کشف بوش عنها فی مذکراته، مما یعنی أن معظم المفاوضات عبر القنوات العلنیة کانت سریة أیضا.
وهنا لا یمکن عدم التساؤل عما کان مفاوض المنظمة یفعله منذ توقفت المفاوضات باندلاع انتفاضة الأقصى عام ألفین طالما أن "الحیاة مفاوضات" کما قال کبیر المفاوضین الحالی د. صائب عریقات، وهل کان عاطلا عن العمل و"الحیاة" أم کان یحافظ على حیاته فی الأنفاق السریة للتفاوض !
لذلک فإن من المستغرب حقا أن یکرر إعلام عباس مؤخرا ما کان یکرره بخاصة منذ قاد الاختلاف الفلسطینی على المفاوضات السری منها والعلنی على حد سواء إلى الانقسام الراهن عن اتصالات ومحادثات سریة بین حرکة "حماس" ودولة الاحتلال وهی اتهامات شملت خلال الأسبوع الماضی حرکة الجهاد الاسلامی، وقد نفت الحرکتان هذه الاتهامات بینما لم یعد أی نفی مماثل فی وسع فریق مفاوضی منظمة التحریر، ومثار الاستغراب أن عباس بصفة خاصة قد بنى حیاته السیاسیة على الاتصال مع دولة الاحتلال أولا وکان هو فی نهایة المطاف الذی وقع باسمه على اتفاق أوسلو ثانیا ثم ان التفاوض السری کان ثالثا نهجا استراتیجیا ثابتا تم من خلاله حسم کل الاتفاقیات المبرمة بین الجانبین قبل التوقیع العلنی علیها، وعندما یحین الوقت للکشف التاریخی عنها لن یکون مستهجنا أن تمثل المفاوضات العلنیة مجرد نسبة مئویة ضئیلة من الوقت الذی استغرقه التفاوض السری.
إن السؤال الذی یکرر الإسرائیلیون طرحه حول ما استجد لکی یثیر هذا المفاوض قضیة الاستیطان فی الوقت الحاضر وهو الذی وقع اتفاقیات أوسلو ثم استمر فی التفاوض طوال العشرین عاما المنصرمة دون المطالبة بتجمیده هو سؤال فلسطینی ایضا لا جواب له من هذا المفاوض حتى الآن. وعدم إجابة مفاوض منظمة التحریر علیه یثیر الشک فی ما إذا کانت قضیة الاستیطان هی السبب الحقیقی للجدل العلنی الدائر حولها الآن أم أن هناک أسباب "سریة" أخرى یدور الجدل حولها فی الغرف المغلقة کما جرت العادة سابقا.
إن ما نقل ".." عن مصادر أیدها "مسؤول فلسطینی" فی التاسع والعشرین من الشهر الماضی بأن محادثات سریة کانت جاریة بین الولایات المتحدة وبین دولة الاحتلال حول إقامة دولة فلسطینیة مقابل استئجار الثانیة لأراض من سلطة الحکم الذاتی لمدد تتراوح بین 40 – 99 سنة یجعل هذا الشک مشروعا، وبالرغم من نفی السلطة والمنظمة لتأجیر الأراضی من حیث المبدأ، فإن تأکید "المسؤول الفلسطینی" ".." بأن تأجیر الأراضی قد بحث فی مفاوضات طابا عام 2001، التی یرید مفاوض المنظمة استئناف التفاوض بناء علیها، لکن "الحدیث جرى" عن التأجیر لمدة "بین 6 – 9 سنوات ولیس 99 عاما" هو تأکید یشکک بدوره فی صدقیة نفی السلطة والمنظمة.
أما اقتراح السلام الخطی السری الذی قدمه عباس إلى إدارة بوش فی أواخر عهدها وقال عریقات فی نیسان/ أبریل العام الماضی إنه زار واشنطن سرا فی 18/12/2008 لتسلیم نسخة منه إلى بوش دون ان یدری لا الشعب ولا المؤسسات الفلسطینیة شیئا عنه فکان أحدث مثال على أن أنفاق الدبلوماسیة السریة طویلة ولا نهایة لها وما زالت مفتوحة مثلها مثل عملیة السلام ووهم السلام الذی تلهث خلفه، دون أن یتحول إغلاق هذه الأنفاق السیاسیة إلى مطلب وطنی فلسطینی ملح بالرغم من کل النتائج العکسیة والمأساویة الملموسة التی تسللت منها.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS