عندما استأسد بنو صهیون على أحفاد العثمانیین
ثانیاً: النظام الترکی الذی وصل إلى الحکم عن طریق صنادیق الاقتراع الدیمقراطیة یسمح لنفسه أن یتصرف وفق منطقه ورؤیته لأنّه یتلقى الدعم الکامل من الشعب الذی أوصله إلى سدة الحکم، ومن المؤسسة العسکریة القویّة فی هذه الدولة، وبالتالی فإنّه لقنّ الدولة العبریة درساً لن تنساه بسرعة فی العلاقات الدولیة وفی الأعراف الدبلوماسیة وفی قضایا الکرامة الذاتیة والکبریاء والعنفوان والانتماء، هذه القضایا التی باتت مارکة نادرة جداً فی الوطن العربی، طلب الرئیس الترکی، عبد الله غول، وحصل على اعتذار رسمی من هذه الدولة المارقة التی حاولت الاستئساد على أحفاد العثمانیین، وسلک وفق المبدأ المعروف کیف تُعامل (بکسر المیم) تُعامل (بفتح المیم). ویمکن قراءة الاعتذار الإسرائیلی بأنّ الأتراک تعاملوا مع هذه القضیة بحسب المنطق الذی یُحتّم علیهم أن یعاملوا دولة الاحتلال باللغة التی تفهمها.
ثالثاً: لقد حاولت الإدارة الأمریکیة بقیادة الرئیس باراک حسین أوباما، احتواء الأزمة وهبّت لنجدة ربیبتها إسرائیل، ولکنّ الأتراک رفضوا هذا التدخل فی شؤونهم الداخلیة وذّکروا أوباما بأنّ الاستطلاعات الأخیرة التی نُشرت فی أمریکا، قائدة الإمبریالیة العالمیة، تؤکد على أنّ شعبیته وصلت إلى الحضیض، أی إلى أدنى نسبة منذ أن تسلم مقالید الحکم، الأتراک أبلغوا الإدارة الأمریکیة بأنّ الحدیث هو عن أزمة عمیقة فی العلاقات مع الدولة العبریة، ولیس عن صلحة عشائریة بین دولتین، وهذا الفشل الأمریکی یمکن اعتباره أنموذجاً لفشل سیاسة أوباما فی منطقة الشرق الأوسط، فحتى الیوم لم تتمکن إدارته من إقناع حکومة نتنیاهو- لیبرمان، والعکس صحیح، بإزالة حاجزٍ واحد فی الضفة الغربیة المحتلة، لا بل أکثر من ذلک، فإنّ هذه الإدارة الجدیدة، تُلغی صفقات أسلحة مع دول محور الاعتدال العربی: المملکة العربیة السعودیة، مصر والإمارات العربیة المتحدة، وهذه الصفقات تمّ التوقیع علیها فی عهد الرئیس السابق، جورج بوش ، لکنّ أوباما ارتعدت فرائصه عندما رفع اللوبی الصهیونی والیهودی رأسه وکشّر عن أنیابه معارضاً لإخراج هذه الصفقات إلى حیّز التنفیذ لأنّ من شأنها أن تضر بتفوق إسرائیل العسکری النوعی فی المنطقة.
رابعاً: الکاتب والباحث فی صحیفة (هآرتس) الإسرائیلیة، ألوف بن، کشف النقاب یوم الأربعاء (الثالث عشر من شهر کانون الثانی/ ینایر الجاری) عن أنّ الفخ الذی نصبه نائب وزیر الخارجیة دانی أیالون للسفیر الترکی فی جلسة 'التوبیخ' کان بالاتفاق مع وزیر الخارجیة، أفیغدور لیبرمان، ومع رئیس الوزراء، بنیامین نتنیاهو، الذی قال فی جلسات مغلقة، وفق الکاتب الإسرائیلی، إنّه یدعم تصرف الخارجیة الإسرائیلیة دعماً مطلقاً، علاوة على ذلک، نقل بن عن مصادر عالیة المستوى فی تل أبیب قولها إنّ رئیس الوزراء، نتنیاهو، عبّر فی جلسات مغلقة عن قلقه الشدید من توجه ترکیا نحو توطید علاقاتها مع الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ومع سوریة، وزاد نتنیاهو قائلاً إنّه خلال السنتین الماضیتین تقوم ترکیا بشکل منهجی وحثیث بتوطید العلاقات مع طهران ودمشق، بدل أن تقوم بتوطید علاقاتها مع الدول الغربیة، وتوجه ترکیا نحو هاتین الدولتین، یقلق الدولة العبریة بشدة، على حد وصفه، وهذه الأقوال تؤکد بشکلٍ غیر قابلٍ للتأویل بأنّ إسرائیل أرادت من وراء إهانة السفیر الترکی توجیه رسالة لأنقرة بأنّها غیر راضیة عن سیاستها الخارجیة، معتقدةً بأنّ الدولة الترکیة، هی دولة عربیة أخرى تتلقى الأوامر من واشنطن وتل أبیب، وکان الرد الترکی بمثابة صفعة مجلجلة لدولة الاحتلال.
خامساً: الاعتذار الإسرائیلی هذا ربما یخفف قلیلاًً من حدة التوتر فی العلاقات بین البلدین، ویمنع تفاقم الأزمة إلى مستویات أکثر خطورة، ولکنّ ترکیا تشهد فی الآونة الأخیرة تحولاً إستراتیجیاً فی سیاساتها الخارجیة، وبدأت تتجه نحو عمقها الإسلامی والعربی أیضاً، بعد أن توصلت إلى نتیجة مفادها أنّ أبواب الاتحاد الأوروبی أوصدت أمامها، بشکلٍ تامٍ، لأنّه على ما یبدو، أوروبا التی أنتجت الفاشیة والنازیة، ما زالت أسیرة هذه المعتقدات وترفض إدخال دولة مسلمة إلى نادی العرق الأبیض، المقصور على أبناء القارة العجوز. مضافاً إلى ذلک، توصل صنّاع القرار فی أنقرة إلى النتیجة الحتمیة بأنّ العلاقات مع إسرائیل لم تساهم فی فتح باب الاتحاد الأوروبی، لا بل ربما العکس، عادت سلباً على ترکیا.
سادساً:التصرف الترکی الحکیم فی هذه القضیة هو مدعاة للفخر والاعتزاز لکل عربی ولکل مسلم فی أرجاء المعمورة، فقد أعاد الکثیر، على الرغم من رمزیته، من الکرامة للعالم الإسلامی وللمسلمین فی العالم، وکنّا نتمنى على الدول العربیة أن تحذو حذو ترکیا، وأن تتعامل بندیةٍ مع الدولة المارقة، إسرائیل، ولکن للأسف الشدید، فإنّ الأنظمة العربیة غارقة من أخمص قدمیها حتى رأسها فی التعامل مع هذه الدولة، ولا نتحدث فقط عما یُسمى بدول محور الاعتدال، إنّما نتحدث أیضاً عن الدول التی لا تقیم علاقات دبلوماسیة مع الدولة العبریة مثل الیمن، فکیف یمکن أن نُفسّر لأنفسنا قیام بعثة خبراء 'زراعیین' من دولة الاحتلال خلال الأسبوع الأخیر بزیارةٍ رسمیةٍ إلى الیمن وتعلیم المزارعین هناک کیفیة التعامل مع الأرض؟ هل هذه بعثة زراعیة أم بعثة لزرع عملاء الموساد فی الیمن السعید؟
سابعاً: وزیر الخارجیة الإسرائیلی، أفیغدور لیبرمان، الذی تمکن منذ استلامه رئاسة الدبلوماسیة الإسرائیلیة من عزل نفسه ودولته عن العالم الخارجی بسبب مواقفه الفاشیة، شنّ هجوماً سافراً على السفراء الإسرائیلیین فی جمیع أصقاع العالم، وذلک فی مؤتمر السفراء، الذی أنهى أعماله نهایة الأسبوع المنصرم، وبحسب صحیفة (هآرتس) العبریة فقد هاجم لیبرمان السفراء وطالبهم باتخاذ مواقف صارمة فی الدول التی یخدمون فیها، والتوقف عن ما أسماه سیاسة الخنوع، والخضوع وإهانة أنفسهم أمام الأغیار، أی غیر الیهود، مشدداً على أنّ الدبلوماسیة الإسرائیلیة فی الفترة الأخیرة تعتمد خط الهجوم الناری على دولٍ مثل السوید، ترکیا، سویسرا، بریطانیا وحتى الولایات المتحدة الأمریکیة. وفعلاً کما یقول المثل: 'من أول غزواته کسر عصاته'، فقد حاول أن ینتهج هذه الطریقة مع الأتراک، ففشل، ولکن ماذا تریدون من هذا الفاشی الذی یصف رئیس الوزراء نتنیاهو بأنّه خرقة بالیة وغبی ومنبطح أمام العالم ومسحور بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطینیین؟ فإذا کان یصف رئیسه بهذه الألقاب البذیئة فلا عجب أن تتحول إسرائیل إلى دولة منبوذة، وعن لیبرمان یُقال من وجهة نظرنا: الإنسان الملائم فی المکان المناسب.
للکاتب الفلسطینی زهیر أندراوس
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS