المجتمع المدنی الفلسطینی والقطط السمان

المجتمع المدنی الفلسطینی والقطط السمان

نقولا ناصر

فی حوار صحفی له، قال الرئیس السابق لدیوان الرقابة المالیة والإداریة فی سلطة الحکم الذاتی برام الله، د.محمود أبو الرب، إن المنظمات والمؤسسات غیر الحکومیة تنفذ الأجندات السیاسیة لممولیها، ولا توجد "مرکزیة فی إدارة الأموال الممنوحة" لها التی قدرها بمبلغ "200 ملیون دولار سنویاً..تسمى مساعدات للشعب الفلسطینی" وأضاف أن "العدید منها لا قیمة مضافة لعملها" وفی بعضها "تکاد تکون صفرا"، وان هناک "حالة من الفلتان" فی انشائها.

وفی المقابل فإن الإجراءات التی اتخذتها السلطة بعد إعلانها "حالة الطوارئ" فی الرابع عشر من حزیران/یونیو عام 2007 تکاد تکون حرباً على المجتمع المدنی الفلسطینی فی الضفة الغربیة لنهر الأردن الذی تمثله المنظمات الأهلیة الممولة وطنیا.

فبعد ستة أیام من إعلان حالة الطوارئ المستمرة حتى الآن أصدر رئیس السلطة محمود عباس مرسوما رئاسیا منحت المادة الأولى منه "وزیر الداخلیة" سلطة مراجعة تراخیص عمل هذه المنظمات الصادرة عن وزارته أو عن أی جهة أخرى غیرها، ومنحته المادة الثانیة سلطة اتخاذ الاجراءات التی یراها مناسبة بحقها ومن ذلک إغلاقها أو تصویب أوضاعها، ومنحته المادة الثالثة صلاحیة اتخاذ الاجراءات القانونیة بحق تلک المنظمات التی لا تتقدم بطلب إعادة تسجیلها خلال اسبوع من تاریخه.وفی الثانی من شهر تموز/یولیو اعتبر وکیل وزارة الداخلیة والقیادی فی حرکة فتح أمین مقبول کل الهیئات والجمعیات التی لم تسجل أو تصوب أوضاعها طبقا للمرسوم الرئاسی مخالفة للقانون.

وفی الثامن والعشرین من آب/أغسطس من العام نفسه أعلن رئیس وزراء حکومة الطوارئ، د.سلام فیاض، أن حکومته قررت حل 103 منظمات غیر حکومیة لمخالفاتها القانونیة أو الاداریة أو المالیة لقانون الجمعیات الخیریة والهیئات الأهلیة رقم 1 لسنة 2000 وأحال المستفیدین من هذه الجمعیات والهیئات إلى وزارة الشؤون الاجتماعیة.

واعتبر المرکز الفلسطینی لحقوق الانسان فی بیان له هذه الاجراءات انتهاکا للمادة 37 من القانون نفسه الذی استند فیاض إلیه التی نصت على وجوب ارسال إخطار خطی للجمعیات المستهدفة بقراره وعلى منحها مهلة قانونیة لتصویب أوضاعها.

ویمثل وضع المنظمات غیر الحکومیة الفلسطینیة الممولة أجنبیاً نموذجاً مثالیاً للنتائج التی توصل إلیها تقریر أصدره معهد بروکینغز الأمیرکی فی العشرین من الشهر الماضی عن "المجتمع المدنی فی العالم العربی ومعضلة التمویل بین التبعیة للخارج وبین الاحتواء الحکومی" ویخلص التقریر إلى أن المجتمع المدنی الذی لعب دوراً حاسماً فی التحول الدیمقراطی فی أمیرکا اللاتینیة وأوروبا الشرقیة قد عجز عن لعب دور مماثل فی العالم العربی للأسباب الرئیسیة التالیة:

أولاً: ثمة استیعاب حکومی، فکثیر من المنظمات غیر الحکومیة العربیة ممن تدعی أنها "غیر حکومیة" هی "أقرب ما تکون إلى "منظمات أهلیة بإدارة حکومیة".

ثانیاً: وجود قیود قانونیة صارمة على تأسیسها مثل حصول جمیع أعضاء مجالس إداراتها على "موافقة أجهزة الأمن الداخلی" ومنح الحکومة وأجهزتها صلاحیة "تغییر مجالس إدارات المنظمات الأهلیة وإحلال مجالس مؤقتة من اختیارها بل إن لدیها الصلاحیات اللازمة لحل المنظمات نفسها".

ثالثاً: "منظمات المجتمع المدنی الداعیة إلى التحول الدیمقراطی نفسها لا تدعم الدیمقراطیة فی واقع الأمر، فالدیمقراطیة تستلزم "تداول السلطة" فی حین أن الغالبیة العظمى من المنظمات الأهلیة المعنیة بذلک فی المنطقة لا تفعل شیئا یمکن فهمه بأنه دعم لتغییر النظام القائم"..إضافة إلى هذا فإن القلیل جدا من المنظمات الأهلیة فی العالم العربی هی القادرة على تنظیم احتجاجات الشوارع وأعمال الرفض المدنی السلمیة.

رابعاً: معظم أموال المساعدات الأمیرکیة وجدت طریقها إلى منظمات أهلیة لیس لها نشاط سیاسی صریح، مع أن "الإصلاح السیاسی" هو ضمن أربع فئات تشملها برامج "مبادرة الشراکة الشرق الأوسطیة" الأمیرکیة، على سبیل المثال.

خامساً: فی أغلب الأحوال، یکون من الصعب على الدول الغربیة أن تمول منظمات أهلیة لا تحظى بموافقة السلطات العربیة مراعاة للعلاقات الثنائیة.

وتکاد هذه الأسباب جمیعها تنطبق على المنظمات غیر الحکومیة الممولة أجنبیا التی تتکاثر کالفطر دون أن یطالها ما طال الجمعیات الخیریة والهیئات الأهلیة الفلسطینیة الممولة وطنیا، وقد وصفها منتقدوها بـ"القطط السمان"، وقطاع توظیف أصحاب الامتیازات الاقتصادیة، وقالوا إنها تابعة لشبکة منظمات عالمیة غیر حکومیة تابعة بدورها للدول المانحة لسلطة الحکم الذاتی الفلسطینیة التی تقدم منحها ومساعداتها المشروطة سیاسیاً للسلطة ولهذه المنظمات على حد سواء، وإنها عجزت حتى الآن عن تطویر نفسها إلى منظمات شعبیة ووضع برامج عمل شعبیة، وإن قادتها ینتمون للمدن ونخبها ولم یستطیعوا الوصول إلى مخیمات اللاجئین والقرى التی کانت الحاضنة للانتفاضة الفلسطینیة الأولى والثانیة، ثم إن التمویل الأجنبی لکل منها على حدة قد حال دون توحیدها أو التنسیق بینها حتى على أساس قطاعی کما هو حال المنظمات المعنیة بحقوق الإنسان على سبیل المثال.

لکن الأهم أن المساءلة والرقابة المالیة على هذه "القطط السمان" ما زالت غائبة أو ضعیفة وطنیاً بینما رقابة المانحین الأجانب علیهم تخدم أهدافهم فحسب، بالرغم من کون هذه المنظمات مجرد آلیات لمساعدة الشعب الفلسطینی کما یدعی المانحون.

وتتجمع هذه القطط السمان فی مجموعتین رئیسیتین، وإذا کان "منتدى مؤسسات السلام الفلسطینیة - الإسرائیلیة" مجموعة یغنی اسمها عن بیان أهدافها وممولیها ودورها السیاسی، فإن "شبکة المنظمات الأهلیة الفلسطینیة" جدیرة بوقفة سریعة، فهذه الشبکة التی تجمع تحت مظلتها أکثر من 132 منظمة والتی اعتبرت فی بیان لها بعد الانقسام الفلسطینی أن "ربط التمویل بشروط وأجندات سیاسیة..

إعلان حرب مقاطعة ضد الشعب الفلسطینی" هی شبکة حث على التنسیق بین منظماتها البنک الدولی الذی اقر عام 1997 "مشروع المنظمات غیر الحکومیة الفلسطینیة" لمدة ست سنوات تجددت لاحقا للتمویل المباشر لهذه المنظمات من میزانیة قدرها 17 ملیون دولار آنذاک ولتوفیر مصادر تمویل أخرى لها ثنائیة ومتعددة الأطراف ثم ساعدها فی وضع مدونة سلوک لها لا یراقب أحد التزامها بها، وکان ذلک أول مشروع من نوعه فی العالم على الإطلاق یمول فیه البنک الدولی منظمات غیر حکومیة المفوض فقط بتمویل الدول والحکومات.

ویورد الباحثون ثلاثة أسباب رئیسیة لشلل المجتمع المدنی الفلسطینی ومنظماته، أولها اتفاق أوسلو الذی احل سلطة الحکم الذاتی الفلسطینی کآلیة بدیلة أو رئیسیة لإیصال المساعدات العربیة والأجنبیة للشعب الفلسطینی تحت الاحتلال "تقریر للبنک الدولی".

وثانیها سیاسة "تجفیف مصادر تمویلها" الوطنیة بحجة منع "تمویل الإرهاب" بهد هجمات الحادی عشر من أیلول/سبتمبر فی الولایات المتحدة طبقا للأمر التنفیذی الذی أصدره الرئیس الأمیرکی السابق جورج بوش و"توجیهات مکافحة تمویل الارهاب" الصادرة عن وزارة الخزینة الأمیرکیة اللذین التزم خلفه باراک أوباما بکلیهما.

وثالثها الانقسام الفلسطینی الراهن الذی قاد إلى التزام سلطة الحکم الذاتی برام الله بـ"الأمر والتوجیهات" الأمیرکیة فی مؤتمر أنابولیس عام 2007 ومؤتمر المانحین فی باریس أواخر العام التالی ـ الذی وصفته حرکة حماس بأنه "إعلان حرب" على الشعب الفلسطینی- ومؤتمر شرم الشیخ لإعادة اعمار قطاع غزة عام 2009 ثم فی موافقتها على استئناف المفاوضات المباشرة المتعثرة حالیا بواشنطن أوائل أیلول/سبتمبر الماضی، مما قاد بدوره إلى القضاء على أی استقلالیة "مدنیة" أو نقابیة أو إنسانیة أو خیریة أو شعبیة للجمعیات والمؤسسات التی تحولت إلى وسائط رئیسیة لتصریف المعونات وتقدیم الخدمات لأکثر من ثلاثة ملایین فلسطینی بعد الاحتلال عام 1967 والتی حولت المجتمع المدنی الفلسطینی إلى حاضنة وقائد للانتفاضتین الأولى والثانیة لتحولها الآن إلى مجرد أدوات فصائلیة لا حول لها ولا قوة ولا علاقة لها بالمجتمع المدنی وأهله.

ومن المعروف أن مؤتمر أنابولیس ومؤتمر المانحین فی باریس ومؤتمر شرم لإعمار قطاع غزة ثم المفاوضات المباشرة المستأنفة قد التزمت جمیعها بشروط دولة الاحتلال الإسرائیلی التی تبنها اللجنة الرباعیة الدولیة للسلام فی الشرق الأوسط "الأمم والولایات المتحدة والاتحادان الأوروبی والروسی" باعتبارها "شروط الرباعیة" التی ما زالت تمثل المسوغ الأساسی لاستمرار الحصار المفروض على قطاع غزة والأزمة الإنسانیة الخانقة المستمرة فیه التی دفعت ممثل اللجنة الرباعیة السابق جیمس وولفنسون إلى الاستقالة من منصبه لیخلفه فیه رئیس الوزراء البریطانی الأسبق تونی بلیر، واصفا هذه الشروط بأنها "محاولة لتجویع الفلسطینیین الذین تقودهم حماس حتى یرضخوا" لها.

ناهیک عن السبب الرابع المتمثل فی الاحتلال الذی یلاحق منظمات المجتمع المدنی الفلسطینی التی لا تطالها أیادی السلطة کما هی الحال فی القدس التی أغلقت سلطات الاحتلال حوالی ثلاثین منظمة فیها منذ عام 2001 حسب تقریر لجمعیة الحقوق المدنیة فی دولة الاحتلال فی أیار/مایو الماضی.

ن/25