وعد بلفور.. مائة وتسع عشرة کلمة ومکر الأنجلیز!

وعد بلفور.. مائة وتسع عشرة کلمة ومکر الأنجلیز!

فتحی أحمد

رسائل حسین- مکماهون والدولة العربیة المنشقة عن العثمانیین والثورة العربیة الکبرى، السم الذی بثه الأنجلیز فی أجساد العرب، فکانت النتیجة أن أخضعت فلسطین للانتداب البریطانی تمهیدا لتحقیق حلم هرتزل، وهو الدولة الیهودیة.

کل رسائل النفخ التی بعثها السیر مکماهون إلى شریف مکة ما هی إلا إبر تخدیر جلبت للعرب الویلات والمصائب منذ أکثر من تسعین عاما ادعى الساسة الأنجلیز بعد التصریح، أن تصریح بلفور کان وعدا عفویا مرتجلا، ولم یصدر عن سوء نیة من قبل الحکومة البریطانیة. فنص تصریح بلفور یحتوی على مائة وتسع عشرة کلمة درست جمیعها بعنایة فائقة، وقد استغرق صیاغة الوعد ما یقارب عامین وشارک فی وضعه حوالی أربعة وعشرون خبیرا.

وجه آرثر جیمس بلفور رسالة إلى اللورد روتشیلد أحد الرعایا الأنجلیز، یقول فیها: یسرنی جدا أن أبلغکم بالنیابة عن حکومة جلالته التصریح التالی الذی ینطوی على العطف على أمانی الیهود، إن حکومة جلالة الملک تنظر بعین العطف إلى تأسیس وطن قومی للشعب الیهودی فی فلسطین، وستبذل أفضل جهودها لتسهیل تحقیق هذه الغایة على أن یفهم جلیا إن لم یؤت بعمل من شأنه أن یضر بالحقوق المدنیة والدینیة التی تتمتع بها الطوائف غیر الیهودیة المقیمة فی فلسطین ولا الحقوق أو الوضع السیاسی الذی یتمتع به الیهود فی أیة بلاد أخرى. انتهى النص.

ورد فی النص "ینطوی على العطف" "تنظر بعین العطف" رسالة للعالم توضح أن الیهود جماعات مضطهدة وهم بحاجة إلى عطف ومساندة، بجانب توفیر غطاء للحکومة البریطانیة من أی احتجاجات مستقبلیة، خصوصا وأنها لم تملک الحق فی التصرف بفلسطین.

أما دلالة وطن قومی فاعتبر هذا اصطلاحا غریبا یعود إلى الحرکة الصهیونیة، وحملته بریطانیا. ومن الجدیر بالذکر أن هذا المصطلح أی "وطن قومی" لم یرد إطلاقا فی أی بند من بنود القانون العالمی ولا حتى فی قاموس السیاسة الدولیة، مما یفسر على أنه مصطلح مرن غامض ومبهم، وهو بحاجة إلى شرح وتوضیح.

استخدم هذا المصطلح لحصد أکبر عدد ممکن من أصوات الیهود وجلبهم من أوروبا وأمریکا، وخصوصا المعارضین لفکرة حلم الدولة الیهودیة، بالإضافة إلى تخفیف المفهوم على أصحاب البلاد تجنبا لإثارتهم؛ فالوضع السیاسی فی ذلک الحین لم یکن ناضجا لاستیعاب فکرة الدولة الیهودیة على صعید الدولة العثمانیة التی کانت قائدة العالم الإسلامی.

حینما سئل بلفور فی جلسة مجلس العموم البریطانی هل موافقة الحکومة البریطانیة على إنشاء وطن قومی للیهود فی فلسطین تتضمن قیام دولة مستقلة أو دولة تتمتع بالحکم الذاتی فی ظل الانتداب البریطانی؟ أجاب: لیس فی الاستطاعة فی هذه المرحلة أن ننظر فی الوضع السیاسی للدولة المنوی قیامها فی فلسطین. فذهب اللورد روتشلد لیفسر الوطن القومی بأنه المکان الذی یستطیع الیهود فیه التکلم بلغتهم ویکون لهم تعلیمهم الخاص وحضارتهم الخاصة ومنشآتهم الدینیة تحت حمایة الحکومة المتحالفة.

ویقول لاوید کیرزون إن الوطن القومی معناه کیان سیاسی یؤلفه ویدیر شؤونه الیهود ویحکم وفقا لمصالحهم. ففی معرض رده على سؤال لوزیر خارجیة أمریکا لانسنج قال وایزمن فی مؤتمر الصلح فی باریس عام 1916 حول معنى الوطن القومی: معناه جعل فلسطین تقام فیها أحوال تؤدی فی النهایة أن تصبح فلسطین یهودیة کما أن امریکا أمریکیة وبریطانیا بریطانیة.

طلب بلفور وزیر خارجیة بریطانیا من وایزمن أن یتقدم بنص تصریح حسب رغبة الصهیونیة، ومن بین ما قدم مشروع روتشیلد، قبول الحکومة البریطانیة مبدأ إعادة فلسطین وطنا قومیا للشعب الیهودی، وأن الحکومة البریطانیة سوف تستخدم کل إمکانیاتها من أجل تحقیق الهدف. أما ملنر، أحد المتعصبین للحرکة الصهیونیة، فتقدم بمشروع یتضمن العطف على الیهود؛ وقد نص على "أن حکومة جلالة الملک تنظر بعین العطف إلى إنشاء وطن قومی فی فلسطین للجنس الیهودی وسوف تقوم بأقصى جهودها ووسائلها لتسهیل هذا الهدف، على أن یکون مفهوما إن لن یُعمل شیء من شأنه الإضرار بالحقوق المدنیة والدینیة للسکان غیر الیهود فی فلسطین أو الحقوق أو الوضع السیاسی الذی یتمتع به فی أی بلد".

هذا یقودنا إلى أن بریطانیا العظمى رغبت فی تسهیل وطن للیهود فی فلسطین ضمانا للاتصال البری بالشرق والاتصال الجوی والسیطرة على خلیج السویس والعقبة والبحر الأحمر، بالإضافة إلى رغبة بریطانیا فی استغلال الیهود لتنفیذ أغراضهم الصلیبیة وحل مشکلة بریطانیا الداخلیة التی تعانی منها، وذلک عن طریق تحویل الهجرة الیهودیة القادمة من أوروبا الشرقیة إلى خارج بریطانیا وأوروبا الغربیة.

على صعید التقارب الألمانی الصهیونی شکل الصهاینة الألمان نصیب الأسد داخل المجلس الصهیونی العام، کما کانت اللغة والثقافة الأمریکیتان قویتین، وکان مقر الحرکة الصهیونیة إبان الحرب العالمیة الأولى موجودا فی برلین، وهذا أدى إلى تشکیل لجنة أطلق علیها "لجنة الشرق" لوضع خبرة القاعدة الصهیونیة فی ألمانیا وعلاقتهم بیهود أوروبا الشرقیة وأمریکا تحت تصرف الحکومة الألمانیة للمساهمة فی هزیمة روسیا القیصریة.

هذا التقارب الألمانی الصهیونی کان له أهدافه لکی یظفر الصهاینة بوعد ألمانی بوطن قومی للیهود فی فلسطین وترأس هذا الجهد السیاسی بودنهایامر وادولف فردمان وفرانز اوبنهایمر. وقد ذکر لیتهایم، مدیر الوکالة الیهودیة فی إسطنبول، أنه أبلغ السفارة الألمانیة فی إسطنبول بتوثیق الرابطة بین مصلحة ألمانیا والتعاون مع الحرکة الصهیونیة. هذا وقد کشف ریتشارد لاختیم، أحد ممثلی الحرکة الصهیونیة فی إسطنبول، الجهود التی کانت تبذل للحصول على وعد ألمانیا للیهود، حیث قال لم أترک وسیلة مقنعة إلا استعملتها من حیث نشر اللغة الألمانیة والتجارة الألمانیة، وما لنا من نفوذ مالی وصحفی فی العالم لمؤازرة ألمانیا.

فالمائة والتسعة عشر کلمة التی شکلت وعد بلفور قسمت العالم العربی والإسلامی وشرذمته، وهوّدت مدینة القدس، وشردت الملایین من الشعب الفلسطینی.. فذکراه هو یوم لعنة على الأنجلیز حتى تتحرر فلسطین.

ن/25