تفنید الاسطورة یوسع الضوء على اکاذیب الحرکة الصهیونیة
تفنید الاسطورة یوسع الضوء على اکاذیب الحرکة الصهیونیة
الوقائع الخفیّة لعملیة اختراع 'الشعب الیهودی':
أنطـوان شلحـت *
أدّى هذا الکتاب، 'اختراع الشعب الیهودی'، لمؤلفه البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاریخ المعاصر فی جامعة تل أبیب، منذ صدوره لأول مرة باللغة العبریة عام 2008، ولا یزال یؤدی، إلى مناقشات عاصفة فی إسرائیل وخارجها، نظرًا لکونه 'أحد أکثر الکتب إثارة وتحدیًا، مما لم تألفه الأبحاث الإسرائیلیة منذ فترة طویلة بشأن موضوعة الشعب الیهودی المشحونة'، على حدّ تعبیر مؤرخ إسرائیلی آخر ( توم سیغف ـ صحیفة 'هآرتس'، 27 شباط /فبرایر 2008).
وسیلاحظ القراء أن المؤلف یحاول، على امتداد صفحات الکتاب کلها، أن یجیب بأناة الباحث وعبر تمحیص دقیق عن أسئلة متفرعة من السؤال الرئیسی المتعلق بحیثیات ووقائع اختراع الشعب الیهودی، من قبیل ما یلی:
ـ متى وُجد الشعب الیهودی؟ هل کان ذلک بالتزامن مع نزول التوراة فی سیناء، أم مع احتلال أرض کنعان، أم بجرّة قلم بضعة مؤرخین یهود من القرن التاسع عشر تصدوا- فی ظل سیرورة تبلور الحرکات القومیة فی أوروبا- لمهمة اختراع هذا الشعب، على غرار باحثین من ذلک الوقت أبناء ثقافات أخرى انصرفوا إلى دراسة الماضی، واختلقوا شعوبًا مغایرة فی سبیل إیجاد أمم مستقبلیة وتثبیتها؟
ـ فی أی فترة زمنیة جرى نقل کتاب التناخ من خزانة الکتب الثیولوجیة - الدینیة إلى خزانة الکتب التاریخیة - القومیة؟
ـ هل تمّ تهجیر سکان 'ملکوت یهودا' بالتزامن مع دمار الهیکل الثانی فی سنة 70 میلادیة، أم أن ذلک کان مجرّد أسطورة مسیحیة تسربت رویدًا رویدًا إلى الإرث الیهودی وجرى استنساخها بقوة داخل الفکرة الصهیونیة؟ وإذا لم یتم تهجیر هؤلاء السکان، فما الذی حلّ بمصیرهم؟
ـ هل اعتنقت مملکة الخزر الغامضة الدیانة الیهودیة فعلاً؟ وکیف تکوّنت الجالیات الیهودیة فی أقطار أوروبا الشرقیة؟
ـ هل الیهود هم 'شعب عرقی' ذو جینات خصوصیة؟ أم أن من المعقول الافتراض، أکثر، بأن ما دجّج الحدیث عن 'الجینات الیهودیة' بیولوجیًا هو انعدام ذاکرة شعبیة واحدة أو تاریخ مشترک موثوق فیه ویتحلى بالصدقیة ویکون کافیًا بصورة بلیغة لإرساء دعائم هویة یهودیة جمعیة على المستوى القومی؟
ـ ما الذی یختبئ وراء مصطلح 'دولة الشعب الیهودی'؟ ولماذا لم یتحوّل هذا الکیان، حتى الآن، إلى 'جمهوریة إسرائیلیة'؟
ومع أن المؤلف یخلص، فی نهایة الکتاب، إلى استنتاج فحواه ضرورة الدفع قدمًا بفکرة جعل إسرائیل 'دولة جمیع مواطنیها'، وذلک فی إطار 'مقاربة الدولتین' باعتبارها حلاً مرغوبًا للصراع الإسرائیلی - العربی عمومًا، إلا أن الاستنتاجات التی یتوصل إلیها فی معرض تفنید أسطورة اختراع أو اختلاق الشعب الیهودی توسع دائرة الضوء کثیرًا من حول أراجیف روایة الحرکة الصهیونیة، بشأن تلک الأسطورة، من جهة وبشأن مشروع استعمار فلسطین وما ترتب علیه من آثار کارثیة مدمرّة بالنسبة لسکانها الفلسطینیین الأصلیین، من جهة أخرى موازیة. وهو یؤکد، فی هذا الصدد، أن الروایة التاریخیة القائلة إن 'الشعب الیهودی' قائم منذ نزول التوراة فی سیناء، وإن الإسرائیلیات والإسرائیلیین من ذوی الأصل الیهودی هم ذراری ذلک الشعب، الذی 'خرج' من مصر واحتل أرض إسرائیل واستوطن فیها لکونها 'الأرض الموعودة' من طرف الرب، وأقام من ثمّ مملکتی داود وسلیمان وبعد ذلک انقسم على نفسه وأنشأ ملکوت یهودا وملکوت إسرائیل، وأن هذا الشعب تشرّد نحو ألفی عام فی الدیاسبورا ( الشتات) بعد دمار الهیکل الثانی، ولکنه على الرغم من ذلک لم یذب فی الشعوب الأخرى ( الأغیار أو الغوییم) التی عاش بین ظهرانیها، هی روایة غیر موثوق فیها على الإطلاق، بل إنها انتفت کلیًا ولم یکن لها أی أنصار أو أی مریدین حتى نهایة القرن التاسع عشر. وفقط فی ذلک الوقت نضجت الظروف، التی أوجدت فرصة ذهبیة نادرة استفاق فیها هذا الشعب الشائخ من غفوته الطویلة وأضحى فی إمکانه أن یعدّ العدّة کی یستعید صباه ویجدّد عودته إلى 'وطنه' القدیم - الجدید. ولا یزال الکثیر من الإسرائیلیین یعتقدون أنه لولا مذابح النازیة فی القرن العشرین لکان ملایین الیهود سیهاجرون إلى إسرائیل بملء إرادتهم، لأن ذلک کان بمثابة حلم داعب مخیلتهم على مدى آلاف الأعوام. بکلمات أخرى فإن ساند یرى أن الحرکة الصهیونیة هی التی قامت، على رکام أبحاث مفبرکة، بالاستفادة القصوى من فکرة 'الشعب الیهودی الواحد' بهدف اختلاق قومیة جدیدة، وکذلک بهدف شحنها بغایات استعمار فلسطین.
وقد تمثلت النتیجة البدهیة لذلک کله فی أن هذا 'الوطن'- فلسطین - عائد إلى الشعب الیهودی وإلیه فقط، لا إلى أولئک 'القلائل'- الفلسطینیین - الذین أتوا إلیه بطریق الصدفة ولا تاریخ قومیًا لهم، وفقًا لمزاعم تلک الحرکة. وبناء علیه فإن حروبه لاحتلال الوطن وحمایته من کید الأعداء هی حروب عادلة بالمطلق، أمّا مقاومة السکان المحلیین الأصلیین فإنها إجرامیة، وتبرّر ما ارتکب ویُرتکب بحقهم من آثام وشرور، مهما تبلغ فظاعتها.
غیر أنّ بیت القصید فی ما یؤکده ساند هو ما یلی: إن الأکوام السالفة فی تلک الذاکرة المشترکة لم تتراکم فی دولة إسرائیل بصورة تلقائیة، وإنما حدث ذلک کله بفعل فاعل محدّد منذ نهایة القرن التاسع عشر، کومة فی إثر کومة، وبواسطة إعادة کتابة الماضی ( الیهودی)، على ید کتّاب أکفاء عکفوا على تجمیع شظایا ذاکرة یهودیة - مسیحیة واستعانوا بخیالهم المجنح کی یختلقوا، بواسطتها، شجرة أنساب متسلسلة لـ 'الشعب الیهودی'. وفی ضوء ذلک فإن عملیة 'التذکر' العامة لم تکن موجودة قبل ذلک التاریخ. غیر أن الأنکى من هذا، فی عرفه، هو أنه على الرغم من کونها عملیة مخترعة، یعوزها الصدق وتفتقر إلى القرائن العلمیة القاطعة، فإنها لم تتغیر قید أنملة منذ بدء تدوینها، وقد ساهمت فی هذا، على وجه الخصوص، الدراسات الأکادیمیة عن الماضی الیهودی، والتی دأبت على إنتاجها الجامعات الیهودیة فی فلسطین ومن ثم فی إسرائیل، وکذلک معاهد الدراسات الیهودیة التی انتشرت فی أنحاء العالم الغربی المختلفة، علاوة على عوامل أخرى. وکانت الإجنسیا الیهودیة، التی ضمت مدرسین وأدباء وشعراء وکتاب مقالات، قد سبقت المؤسسة الأکادیمیة فی فهم الصبغة 'الصحیحة' للماضی الیهودی ولقیمته فی الصیاغة الأیدیولوجیة للحاضر. فمع توسع الاستیطان فی أوائل القرن العشرین وإقامة المدارس العبریة الأولى، أضحى التناخ کتاباً تربویاً- قومیاً یدرس فی حصص تعلیم مستقلة، ولیس کجزء أساسی من تعلیم اللغة والأدب، والمدرسون المهاجرون، وأولئک الذین أصبحوا مدرسین بعد قدومهم إلى فلسطین، لم ینتظروا النخب الجامعیة والرسمیة کی یدرکوا الفائدة الکامنة فی تحویل کتاب التناخ إلى نص نموذجی فی تدریس ومعرفة الماضی الجمعی، وکی یدرکوا الوظیفة المزدوجة التی یمکن للکتاب المقدس أن یؤدیها فی نحت وتصمیم الهویة القومیة، والمتمثلة أولاً فی إیجاد نقطة انطلاق 'إثنیة' لوجود طوائف دینیة مشتتة ومتنوعة فی أرجاء العالم، وثانیا فی خلق القناعة الذاتیة بحق السیادة على البلد ( فلسطین).
بناء على ذلک فإن ما یمکن قوله هو: على الرغم من أن عملیة 'اختراع الشعب الیهودی' کانت جزءًا من عملیة اختراع شعوب وأمم أوسع وأشمل شهدتها أوروبا فی القرن التاسع عشر، إلا إن التمسک بالمتخیّل القومی لدى إسرائیل والحرکة الصهیونیة کان ولا یزال أشدّ هوسًا واستحواذًا مما لدى أمم وشعوب معاصرة أخرى. وثمة فارق نوعی آخر، وهو أن عملیات اختراع الأمم والقومیات فی أوروبا، التی بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر، تمت على مقاس جماعات کانت، فی معظم الحالات، مقیمة فی بقع جغرافیة متقاربة وتحلت کل منها بخصائص إثنیة مشترکة أو متشابهة ( مثل اللغة فی حالات کثیرة، لکن لیس فقط)، فی حین أن الیهود کانوا مفتقرین إلى هذه الخصائص کلیًا فی البلدان المختلفة التی عاشوا فیها. ولعل الجماعة الیهودیة الوحیدة، التی تحلت بسمات إثنیة مشترکة على مرّ التاریخ کله، هی تلک الجماعة التی یطلق علیها ساند اسم 'شعب الییدیش'، إلا أنها على الرغم من ذلک لم تتطلع إلى الاستقلال 'القومی'، وتمثّل أقصى ما طالبت به فی الحکم الذاتی الثقافی فی إطار روسیا القیصریة. وفی الوقت الذی تعیّن على القومیات الأوروبیة، برسم ما ذُکر، أن تخترع وعیًا قومیًا وتاریخًا قومیًا ورموزًا قومیة، على غرار علم ونشید قومی وطوابع برید ولباس وأبطال قومیین ولغة جدیدة أحیانًا، فإن ما تعین على الیهود اختراعه هو الشعب نفسه، وفی نهایة المطاف فإن المؤرخین الصهیونیین وجدوا 'ضالتهم' فی 'الشعب الإسرائیلی' فی فلسطین فحولوه إلى شعب یهودی، وحولوا 'دولة إسرائیل' من ثمّ إلى 'دولة الیهود' أو 'دولة الشعب الیهودی'.
وفی هذا الخضم کافة، یقوم المؤلف بتفکیک الأرکان کلها التی قامت علیها عملیة اختراع هذا الشعب، ولا سیما رکنین أساسیین منها ربما یعتبران الأکثر وقعًا وإفکًا، وبالتالی فإن محصلة تفکیکهما تتراءى فی الکتاب على الوجه الآتی:
أولاً، نفی ما یسمى بـ 'الشتات الیهودی'، والذی تقف وراءه فکرة قیام الرومان بطرد الیهود سنة 70 للمیلاد بعد تدمیر الهیکل.
ثانیًا، دحض الادعاء بأن الدین الیهودی لم یکن دینًا تبشیریًا، بل بقی محصورًا فی العرق الذی اعتنقه منذ بدایاته. وکانت الدلالة الرئیسیة المتوخاة لهذا الادعاء تتمثل فی أن 'الشتات الیهودی' الذی رحل إلى مناطق متعددة من العالم وکُتب له البقاء یعود من ناحیة جذوره العرقیة والقومیة إلى القبائل الیهودیة الأصلیة التی کانت فی فلسطین وطُردت منها، وأنه لم تدخل الیهودیة أجناس وقومیات أخرى أثرت فی نقاء العرق الیهودی.
وفی إطار ذلک فإنه یؤکد، من جملة أشیاء أخرى، أن طرد 'الشعب الیهودی' من وطنه لم یحدث أبداً من ناحیة عملیة، لکن روایة الطرد والتشرید کانت ضروریة من أجل بناء ذاکرة للمدى البعید وضع فی صلبها شعب عرقی متخیل ومنفی باعتباره استمرارا مباشرا للشعب التوراتی القدیم. ویمضی قائلاً: 'شرعت بالتفتیش عن کتب تبحث فی طرد الیهود من البلد، وکذلک عن سبب أو عن حدث مؤسس فی التاریخ الیهودی، کالمحرقة النازیة تقریبا، لکننی فوجئت حین تبین لی أنه لا وجود لکتب أو أدبیات توثق مثل هذا الحدث. والسبب بسیط وهو أنه لم یقم أحد على الإطلاق بطرد شعب البلد، فالرومانیون لم یطردوا شعوبًا ( عقب فتوحاتهم)، وما کان فی إمکانهم القیام بذلک حتى لو رغبوا فیه، إذ لم تتوفر لدیهم فی حینه قطارات أو شاحنات یمکن بواسطتها ترحیل أو نفی شعوب أو مجموعات سکانیة بأکملها' ( عوفری إیلانی، 'شلومو ساند: أنا خزری فخور'، مقابلة مع صحیفة 'هآرتس'، 17 آذار/ مارس 2008) .
إن کتاب ساند، طبقًا لذلک، یعد تحدیًا مهمًا للمؤسسة الأکادیمیة الإسرائیلیة والیهودیة أیضًا، لا للمزاعم الصهیونیة التضلیلیة فقط المتعلقة بـ 'الوطن' وسواه من قضایا خلافیة. وهو یعیب على هذه المؤسسة برمتها أن أیًا من 'رموزها' لم یکن شریکًا فی السجال الذی دار فی نهایة الثمانینیات من القرن العشرین فی شأن ما عرف باسم 'تیار المؤرخین الجدد'، والذی أنتج أبحاثًا مهمة شکلت جنبًا إلى جنب أبحاثاً نقدیة أخرى فی علم الاجتماع وعلم الآثار، الأرضیة الخصبة لکتابه، بحسب اعترافه. کما أنه یحاول أن یقدّم تفسیرًا خاصًا لأفول نجم 'تیار المؤرخین الجدد' خلال الأعوام القلیلة الفائتة ولا سیما فی إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطینیة الثانیة فی أیلول ( سبتمبر) 2000، أو بالأحرى لعدم قدرة هذا التیار، مع أنه کان الأکثر مدعاة للتعاطف فی منظومة العلاقات بین إسرائیل والفلسطینیین، على أن یترک بصمات تحویلیة فی الوعی الإسرائیلی العام. إن فحوى تفسیره هو أن استغراق دراسات 'المؤرخین الجدد' فی تحلیل النتائج المترتبة على حرب العام 1948، سواء بالنسبة إلى المجتمع الإسرائیلی أو بالنسبة إلى المجتمع الفلسطینی، لم ینطوِ على ما من شأنه أن یزلزل قناعات قارّة تعود إلى سنوات أقدم کثیرًا من وقائع تلک الحرب وما أسفرت عنه، وهی القناعات التی شکلت 'سورًا واقیًا' للوعی الإسرائیلی العام، بقدر ما شکلت متکأ ً لأسئلة تبدو، فی الظاهر، أکثر صمیمیة على غرار: ما هو وزن النکبة الفلسطینیة فی 1948 قیاسًا بالمحرقة النازیة ( الهولوکوست)؟ وکیف بالإمکان أن نقارن مشکلة اللجوء الفلسطینیة مع تشرّد شعب فی المنفى القسری لمدة ألفی عام؟ وهذان السؤالان وأسئلة مماثلة کثیرة أخرى زیّنت، ولا تنفکّ تزیّن، طریق الهروب إلى الأمام من نتائج حرب 1948 فی الذهنیة الإسرائیلیة وممارساتها العامة.
ومع أن ساند یبدی تشاؤمه الکبیر إزاء إمکان أن یمارس کتابه التأثیر المشتهى على الوعی الیهودی العام، فی ظل ما آل إلیه الواقع الإسرائیلی المحایث لأعوام العقد الأول من القرن الحادی والعشرین، إلا إنه یعرب عن الأمل فی أن یستنفر محتواه ومنهجه أفرادًا آخرین کی یأخذوا على کواهلهم الاستمرار فی ما یسمیه 'مجازفة المساءلة الأکثر رادیکالیة للماضی الیهودی، بما یساهم فی زعزعة الهویة المختلقة - التی تمسک بتلابیب السواد الأعظم من الإسرائیلیین الیهود'.
فی واقع الأمر فإن المساهمة الأساسیة لهذا الکتاب المهم تبقى کامنة فی نبش الماضی وفی إیضاح صیرورة الحاضر، بواسطة فتح النار على الاعتقاد الملفق بالأصل الواحد للشعب الیهودی العرقی. وهو یُعدّ الإیضاح المحدّث، من حیث تناوله الطروحات المتداولة فی هذا الشأن حتى الفترة الراهنة، بما فی ذلک ضمن مجال الدراسات البیولوجیة والوراثیة. ففی هذا المجال تحدیدًا یرى ساند أن مصطلحات مثل 'عنصر' و' دم' بدأت بالتلاشی بعد الحرب العالمیة الثانیة، حیث صار العلماء یرون أن فکرة العنصر ترجع إلى أسطورة اجتماعیة لا إلى واقع علمی. بید أن الرفض العام لهذه المصطلحات، لم یمنع العلماء الإسرائیلیین من الاستمرار فی الاعتقاد بالأصل الواحد للشعب الیهودی. ومع أن مصطلح 'العنصر الیهودی' اختفى من البلاغة الجامعیة الشائعة، إلا أن 'حقلاً علمیًا جدیدًا' برز بدلاً منه تحت اسم 'البحث عن أصل الجماعات الیهودیة'. وفی اللغة الصحافیة الشعبویة أُطلق على هذا الحقل اسم 'البحث عن الجینات الیهودیة'، والذی تمثلت غایته فی إیجاد تجانس بیولوجی بین یهود العالم کافة. فالهویة الجمعیة الإسرائیلیة کانت فی حاجة إلى تمثّلات واعدة عن أصل بیولوجی مشترک، مثلما أن الصهیونیة کانت فی حاجة، کی تحقق مشروعها، إلى العامل الدینی، الذی صارت تبحث عنه. وبناء علیه، فإن غیاب الفصل بین الدولة والمؤسسة الدینیة فی إسرائیل لم ینجم - فی نظره - عن القوة الفعلیة للدین، وإنما نجم عن ضعف الفکرة القومیة التی استعارت من الدیانة التقلیدیة ومن مدوناتها معظم تمثّلاتها ورموزها، وبقیت أسیرة لها.
فضلاً عن ذلک فإن ساند یصوغ أیضًا رؤیا تتعلق بالمستقبل وتبدو مسنودة بفهم الماضی فهمًا واقعیًا. وما یتبین، على نحو جلیّ، من رؤیته هذه هو أنه مناهض للکینونة التی تحکم إسرائیل على نفسها البقاء فی خضمها والتی یرى أنها تنذر بأوخم العواقب. ومع أنه یعتقد أن المشروع المثالی لحل النزاع المحتدم منذ قرابة المئة عام ولحفظ الوجود المنضفر والوثیق الصلة إقلیمیًا بین الیهود والعرب، یتمثل فی قیام دولة دیمقراطیة ثنائیة القومیة تمتد من البحر الأبیض المتوسط وحتى نهر الأردن، إلا إنه یرى أنه لن یکون من الحکمة بمکان مطالبة الشعب الیهودی - الإسرائیلی، بعد کل هذا النزاع الدامی والطویل، وفی ضوء التراجیدیا التی مرّ بها کثیرون من مؤسسیه المهاجرین فی القرن العشرین، أن یتحول بین عشیة وضحاها إلى أقلیة فی دولته. ولکن 'إذا کان من السخف والبلاهة مطالبة الیهود الإسرائیلیین بتصفیة دولتهم'، على حدّ تعبیره، فإن من الواجب الإصرار على ضرورة أن یکفوا عن الاحتفاظ بها لأنفسهم کدولة منغلقة تمارس الإقصاء والتمییز بحق جزء کبیر من مواطنیها الذین ترى فیهم غرباء غیر مرغوب فیهم.
وبطبیعة الحال لا یمکن إغفال توقعات المؤلف المتعلقة بإحالات الموقف الرافض لوجود إسرائیل کدولة یهودیة مخصوصة وحصریة، والذی یزداد تصلبا فی أوساط 'عرب 48'، فی ضوء صعوبة استشراف عوامل من شأنها فرملة هذه العملیة. وهو یؤکد أن التفکیر السخیف الذی یفترض أن هذا الجمهور الفلسطینی النامی والمتعاظم سیقبل إلى الأبد عملیة إقصائه من مراکز القوة السیاسیة والثقافیة، هو وهم خطر یشبه تعامی المجتمع الإسرائیلی، فی معظمه، عن وضعیة السیطرة الکولونیالیة فی الضفة الغربیة وقطاع غزة قبل اندلاع الانتفاضة الأولى. ولکن إذا کانت الانتفاضتان الفلسطینیتان الأولى والثانیة، اللتان اندلعتا فی العام 1987 وفی العام 2000، قد شفتا عن ضعف سیطرة إسرائیل فی مناطق نظام فصلها العنصری السافر، فإن درجة ضررهما لوجود إسرائیل تکاد لا تذکر إذا ما قورنت بالخطر الکامن فی طاقة العداء لدى الفلسطینیین المحبطین الذین یعیشون داخلها، وفی ضوء ذلک فإن الحدیث عن 'سیناریو کارثی' من قبیل اندلاع تمرّد کوسوفی فی منطقة الجلیل ذات الأکثریة الفلسطینیة، وما یمکن أن یجره من قمع إسرائیلی دموی، لا یعد ضربًا من خیال جامح لا أساس له، وفی حال تحقق مثل هذا السیناریو فإنه یمکن أن یشکل تحولاً حاسمًا فی تاریخ 'الوجود الإسرائیلی فی الشرق الأوسط'.
على صلة بهذا، ما زال من الملائم أکثر، فی قراءة ساند، وصف إسرائیل کـ 'إثنوقراطیا'. وإذا شئنا التدقیق أکثر فإنه سیکون من الأفضل تعریفها کـ 'إثنوقراطیا یهودیة ذات ملامح لیبرالیة'، أی دولة مهمتها الرئیسیة لا تنعکس فی خدمة 'شعب' مدنی - متساو وإنما فی خدمة 'شعب عرقی' ( إثنوس) بیولوجی دینی - وهمی تماماً من ناحیة تاریخیة، لکنه ملیء بالحیویة ویمارس الإقصاء والتمییز فی حیاته السیاسیة. ولو أن خانة 'یهودیة' فی الهویة تغیر وجهها إلى خانة 'إسرائیلیة'، وتصبح مفتوحة ومتاحة لجمیع مواطنی الدولة، بما یتیح لکل واحد منهم إمکان التحرّک فی حیّز الهویات وفقا لإرادته الحرّة، لکان من الممکن ربما إبداء قدر أقل من التشدّد، والشروع فی النظر إلى إسرائیل باعتبارها کیانا سیاسیا یمرّ بدینامیکیة قد تسفر ذات یوم عن تحولها إلى دولة دیمقراطیة. غیر أن هذا الیوم ما زال فی رأیه بعیدًا جدًا، فی حین أن الأسباب والمبررات التی من شأنها أن تبعث على الاطمئنان إزاء المستقبل لا تزال غیر کافیة، إن لم تکن معدومة تمامًا.
( *) کاتب فلسطینی. وهذا المقال هو مقدمة الترجمة العربیة لکتاب 'اختـراع الشعب الیهودی' من تألیف البروفسور شلومو ساند والتی صدرت أخیرًا عن منشورات المرکز الفلسطینی للدراسات الإسرائیلیة- مدار فی رام الله والمکتبة الأهلیة فی عمان.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS