لماذا باعت الأنظمة العربیة فلسطین؟
لماذا باعت الأنظمة العربیة فلسطین؟
إبراهیم أبو عواد
إن النظام العربی الرسمی الکرتونی صار محصوراً فی ذاته، ولا یرى أی شیء خارج وجوده. فالأساسُ السیاسی فی العقلیة الحاکمة هی ترسیخ وجود السلطة، والعمل على استمرارها حتى یوم القیامة بأی ثمن، والتضحیة بأی شیء فی سبیل بقاء الحاکم على الکرسی وأبنائه من بعده. وهذا لا یتأتى إلا بموافقة أمریکیة مسبقة باعتبار أن الحاکم العربی موظف فی الخارجیة الأمریکیة لا یمکنه تجاوز الهرم الوظیفی أو تجاوز الأوامر العلیا القادمة من وراء الأطلسی، فالعبد لا یمکنه الاعتراض على سیده.
وفی ظل هذا الأداء السیاسی المنهار، قامت الأنظمة العربیة بشطب مصطلحات التحرر الوطنی ومقاومة الاحتلال والتصدی لقوى الهیمنة من قاموسها، کما قامت بإدخال فکر التحرر والتحریر فی متحف تاریخها الشخصی، وذلک خضوعاً للإملاءات الخارجیة وتجنباً 'لوجع الرأس'، ونزولاً عند إرادة 'المجتمع الدولی/ العالم الحر' الذی یمنح الحریة لشعوب الدول القویة ویحجبها عن الشعوب الضعیفة التی لم تجد حاکماً یحقق مصالحها ولا حکومة تنهض بالمصالح الوطنیة العلیا.
وبما أن الدول العربیة مفکَّکة لا رابط بینها سوى الشعارات البراقة، فهی تفتقد إلى البوصلة الواحدة والاتجاه الواحد. فصار من الطبیعی أن یظهر التضارب فی الداخل العربی. وأبرز مثال على ذلک تعارض مصالح سوریة مع مصالح مصر، وسیر الدولتین الکبیرتین فی خطین متوازیین من دون أیة إمکانیة ـ حتى هذه اللحظة ـ للالتقاء. وهذا بالتأکید یقتل العمل العربی المشترک، ویجعل منه شعاراً فضفاضاً للتسلیة فی أروقة جامعة الدول العربیة التی صارت 'کوفی شوب' لشیوخ القبائل، ولا تعبِّر عن طموحات الشعوب العربیة التواقة إلى الحریة والتخلص من أعداء الداخل والخارج. فالجامعة العربیة کیانٌ مشلول تم إلحاقه بالخارجیة المصریة التی لدیها توجهات مضادة لفکر المقاومة والتحرر، إذ إنها ما زالت تعیش فی عقلیة کامب دیفید التی أعادت مصر إلى العصر الحجری.
أضف إلى هذا غیاب قیادات الصف الأول فی سدة الحکم على مستوى الوطن العربی. الأمر الذی جاء نتیجة حتمیة للتوریث، وتزویر إرادة الشعب، وتفصیل الدستور حسب مزاج العصابة الحاکمة، وإحکام القبضة الأمنیة على مفاصل البلاد من الألف إلى الیاء تکریساً للدولة البولیسیة.
ومن خلال العناصر السیاسیة السابقة یتضح لنا استحالة حفاظ هذه الأنظمة المنهارة على الأمن القومی العربی. وقد رأینا تآمر بعض الدول العربیة على العراق، والعمل على إسقاطه وتحویله إلى کیان مفرغ من المعنى، حیث ضاعت سبعة آلاف سنة من الحضارة فی نسب المحاصصة الطائفیة، واقتسام الکراسی بین القادمین على ظهور الدبابات الأمریکیة. والأمرُ تکرر بصیغة أخرى فی التآمر على غزة وحصارها من أجل إسقاط المقاومة، وإسکات صوت المعارِضین لمشاریع الهیمنة الصهیوأمریکیة. وهکذا نجد أن الحاکم العربی یشکل خطراً على الأمن القومی العربی، وهو جزء من المشکلة لا الحل. وآخر حلقة فی مسلسل المؤامرات تجلت على شکل ' المفاوضات المباشرة ' الرامیة إلى بیع فلسطین بالتقسیط المریح. وقد حصلت هذه المفاوضات العبثیة على غطاء من جامعة الدول العربیة التی لا تملک من أمرها شیئاً، لأنها فرع للخارجیة الأمریکیة. وقد رأینا فیما مضى کیف أن وزیرة الخارجیة الأمریکیة السابقة کوندالیزا رایس کانت تختار وزراء الخارجیة العرب من أجل لقائها حسب مزاجها. فتحضر من تشاء وتستثنی من تشاء، حتى إنها استثنت لقاء السید عمرو موسى رأس الدبلوماسیة العربیة فی إهانة بالغة للجامعة العربیة التی یُفترض أنها تمثِّل الأمة العربیة. کما أن السید عمرو موسى قضى جزءاً من حیاته وزیراً للخارجیة المصریة، حیث کان یجلس مع المسؤولین الإسرائیلیین بمختلف درجاتهم الوظیفیة لتناول طعام الغداء وتبادل الضحکات والهدایا ومناقشة عملیة السلام الرومانسیة. وقد رأینا کیف انسحب رئیس الوزراء الترکی أردوغان من منتدى دافوس احتجاجاً على کلام رئیس الکیان الصهیونی شیمعون بیریز، فی حین أن السید عمرو موسى حامی المصالح العربیة بقی فی الجلسة من دون أن ینبس ببنت شفة کأن شیئاً لم یکن. لذلک فانتظار النظام الرسمی العربی أو جامعة الدول العربیة لإنقاذ فلسطین هو انتظار ما لا یأتی.
وهذا الجو القاتم یرشدنا إلى وضع إجابات عن السؤال المصیری: لماذا باعت الأنظمة العربیة فلسطین؟.
1) إن هناک أنظمة عربیة تستمد شرعیة وجودها المصطنع من ضیاع فلسطین، والمتاجرة بالقضیة لکسب الرأی العام، وبناء الاقتصاد الوطنی على التسول وأخذ المساعدات باسم اللاجئین. فصار ضیاع فلسطین دجاجةً تبیض ذهباً، وهذه الأنظمة لا ترید التفریط بالذهب.
2) الحاکمُ العربی هو ربان سفینة تغرق بسبب کثرة الأحمال على هذه السفینة (الانهیار السیاسی، التفکک الاجتماعی، الفقر، البطالة، العنوسة، ضیاع الدخل القومی فی الفساد، ضعف الولاء والانتماء، ازدیاد المعارضة الشعبیة). والحاکمُ صار مقتنعاً بضرورة التخلص من القضایا القومیة لیخف الحمل ـ حسب وجهة نظره القاصرة ـ فألغى فلسطین من حساباته کمن یلقی ثقلاً فی البحر لإنقاذ السفینة. وهذه هی الفلسفة الجنونیة للحاکم وبطانته.
3) کل الأنظمة العربیة تعلم أن رضا أمریکا ـ التی تمنح المال والقمح والحمایة والغطاء السیاسی ـ یمر عبر نیل رضا 'إسرائیل'. وبالتالی صارت فلسطین هی القربان وکبش الفداء لنیل رضا الأمریکان والصهاینة، فصارت التضحیة بفلسطین أمراً عادیاً یتم أمام الکامیرات من دون شعور بالخجل أو الخیانة. فالمصالح الشخصیة للطبقة الحاکمة صارت تنظر إلى القضیة الفلسطینیة کعبء ثقیل وخطر علیها، وبالتالی لا بد من التخلص منه. وقد رأینا کیف هرول الرئیس المصری حسنی مبارک (82 سنة) إلى واشنطن بدون تأخر، لیس حباً فی المفاوضات المباشرة أو تحقیق حلم الدولة الفلسطینیة، بل من أجل تقدیم أوراق اعتماد نجله جمال مبارک لکی تسمح له الإدارة الأمریکیة باستلام الحکم خلفاً لأبیه.
وهکذا نخلص إلى قناعة مفادها أن الحاکم العربی باع فلسطین لیحتفظ بالکرسی تماماً کما باع أبو عبد الله الصغیر الأندلس. وعلى الشعوب العربیة أن تغسل یدها من حکامها لأنهم جزء من المشکلة لا الحل، وعلیها کذلک أن تبحث عن طریق خلاصها بنفسها من دون انتظار أحد.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS