مسلسل اغتیال السلام على طاولة المفاوضات!
مسلسل اغتیال السلام على طاولة المفاوضات!
محمد صالح مجیّد
مرّة أخرى تکون "أمریکا" وطن الحوار بین الفرقاء، وأرض المفاوضات بین الخصمین عندما تحتاج الإدارة الأمریکیة إلى ذلک وفق أجندا لا یعلم سرّها إلا ساکن البیت الأبیض وأعوانه. إلى أرض اللّقاء، إذن، جاءت الوفود العربیة، والوفد الإسرائیلی بحسابات متداخلة ومتباینة، وبخطب مألوفة لا تتغیّر فیها إلا أسماء مَنْ یرعى اللقاء ومَنْ یحضره.
وأوّل ما رشح عن الصور الأولى من اللقاء هو أنّ الوفد الفلسطینیّ المفاوض حافظ على ترکیبته وأشخاصه دون تغییر. وهو یعلن عن وفائه لعادة عربیة متأصّلة تستمدّ شرعیتها من فلسفة عربیة قدیمة فی الحُکْم ترى أن التغییر مفسدة والتأبید قدر جمیل. أمّا الوفد الإسرائیلیّ فقد تغیّر. وهو ما ینبئ بأنّ جلسة التعارف والمجاملة واستحضار ذکریات الدراسة ستطول!.
لقد کان سیّد البیت الأبیض "باراک أوباما"- وهو یعلن بدء المفاوضات المباشرة بین الفلسطینیین والإسرائیلیین- أوّل المدرکین بأنّ الوصول إلى حلّ شامل ودائم صعب صعوبة شابهت الاستحالة. ولذلک ألحّ فی خطابه- لغایة سیاسیّة غیر خفیّة- على أنّ ما یجری هو استئناف "المفاوضات المباشرة" بغایة إیهام الرأی العام الدولیّ بأنّه نجح فی جمع الفریقیْن المتخاصمیْن بعد أن انعدمت کل سبل الحوار بینهما، رغم أنّه یعلم أنّ اللقاءات العلنیّة والسرّیة بین شخصیات فلسطینیة وأخرى إسرائیلیة لم تنقطع.
والأکید أنّ کلّ طرف قد جاء إلى "أمریکا" یتأبّط أهدافه السیاسیّة. وأوّل اللاعبین "أوباما" الذی دعا إلى الجمیع إلى ملعبه فی هذا الحفل، واضعا نصب أعینه معرکة "الکونغرس" القریبة. وهو یرید أن یتحرّک على الجبهة الدولیة بعد أن وقف الأمریکان على فشله داخلیا. ولم یجد أفضل من أن ینقضّ على هذه المناسبة لیستعید بریقه السیاسیّ الذی بدأ یأفل. وهو یعوّل على لقاء الغریمیْن لیظهر فی صورة راعی السلام الملتزم بوعوده الانتخابیّة. ولا شک فی أنه مارس ضغوطا على الطرفیْن کی یتم اللقاء فی الوقت الذی تستفید منه الإدارة الأمریکیة الحالیّة أولا وأخیرا فی معرکتها الانتخابیّة. ولیست النتائج مهمّة فی مثل هذه الحالات إذ سیتکفّل الإعلام بتسویق نجاح خیالیّ یبقی الوضع على حاله فی انتظار مفاوضات أخرى.
إذن، همّ رئیس الولایات المتحدة ضمان أغلبیة مریحة فی الکونغرس تجعل أیامه القادمة فی البیت الأبیض مُریحة. فالسیّد "أوباما" الذی تمعّش من فشل سلفه "جورج بوش" فی "إیران" و"إفغانستان" بدأ یتورّط شیئا فشیئا فی رمال هذه الترکة المتحرّکة بعد أن أصبح المسؤول الأوّل على إدارة الحرب فی البلدیْن. ولقد أثبتت الوقائع أن إدارته لم تکن تملک إستراتیجیة واضحة بها تتعامل مع الملفّیْن الخطیریْن. والدلیل هو محافظة "أوباما" على "جون بایدن" وزیرا للدفاع.
أمّا الرئیس "حسنی مبارک" فقد انقضّ بدوره على هذه المناسبة الدولیّة لیوزّع رسائل سیاسیّة إلى أنصاره ومعارضیه فی الداخل والخارج؛ وأوّلها أنّه ما زال فی عنفوانه جدیرا بالرئاسة، وبتحمّل وزرها؛ وهو بذلک یردّ على من شکک فی إمکانیّة ترشحه لمدة رئاسیة جدیدة بسبب مشاکل صحّیّة یعانی منها. فالرئیس المصری، إذن، جاء لیثبت أنّه ما زال موجودا وأنّ سنوات حکمه الطویلة لم تأخذ من حیویته ونشاطه.
وثانی هذه الرسائل إقناع الولایات المتحدة الأمریکیة بأنّ "مصر" لاعب رئیسی فی معادلة الشرق الأوسط وأنّ الاستغناء عنها وتحجیم دورها سیحکم على کلّ المساعی بالفشل. وما قدوم "مبارک" صحبة وفد رفیع المستوى إلى المفاوضات، إلا رسالة إلى الإدارة الأمریکیة بأنّ ترکیا- على أهمیّة دورها- لا یمکن أن تعوّض "مصر" التی تُمسک بأدقّ تفاصیل ملفّ الصراع العربی الإسرائیلیّ.
ومن خلال الکلمة التی ألقاها لمّح الرئیس "حسنی مبارک" إلى أنّ وجوده على رأس السلطة فی مصر شرعیّ بما أنّه حارب "إسرائیل" فی ساحة المعرکة، وها هو الآن "یحارب" على جبهة أخرى من أجل السلام. وهذه الشّرعیة التی یبحث عن غطاء دولیّ لها هی الطریق الآمنة، والمعبر الضامن لوصول ابنه "جمال مبارک" إلى الرئاسة کی یُواصل الابن مسیرة السلام بالمقاربة نفسها التی وضع لبناتها "مبارک" الأب بالتنسیق مع الإدارات الأمریکیة المتعاقبة من "ریغن" إلى أوباما"!!. وغیر خاف أنّ "مصر" تجنی بمسکها الملف الفلسطینی أرباحا وأموالا طائلة فی شکل مساعدات وإعانات من "أمریکا" وهی لا ترید لهذه "الغنائم" أن تزول بصفقة بین الخصمین ترعاها الولایات المتحدة، ویتمّ فیها تغییبها.
الملک "عبد الله" هو الآخر جاء إلى الولایات المتحدة الأمریکیّة یبحث للأردن عن مکان ما فی الخارطة السیاسیة الجدیدة التی ترید إدارة أوباما تسویقها. والمملکة الأردنیة هی الأخرى معنیّة بالملف الفلسطینیّ مرتبطٌ وجودها واستقرارها به. وهی طرف فیه من خلال "الحرم القدسی" الذی أشرفت علیه، ومن خلال ترسیم الحدود مع إسرائیل من جهة ومع الدولة الفلسطینیّة التی یُمکن أن تُولد بعملیّة قیصریّة من جهة أخرى.
والملک "عبد الله" یدرک، استئناسا برؤیة والده، أنّ وجود "إسرائیل" أکبر ضامن لعرشه. وإذا ما کُتب لدولة فلسطینیة أن تقوم على حدوده، فإن مصیرها هو الاندماج مع "الأردن" الفلسطینیة فی جزء کبیر منها. وما یرعب العرش الهاشمی فی الأردن هو تلویح "إسرائیل" بأن الأردن هو وطن الفلسطینیین. وهو الورقة الخطیرة التی ترفعها إسرائیل کلّما وجدت نفسها فی مأزق سیاسیّ، وکلّما أرادت أن تُؤجّج الصّراع بین الأردن وفلسطین. والملک "عبد الله" یُراقب بحذر ما یجری، وهو یرید أن یکون قریبا من القرارات التی سیتم التوصّل إلیها لینظر فیما یمکن أن یُهدّد الأردن واستقراره.
ولکنّ "الملک عبد الله" على قناعة بأنّ قیام دولة فلسطینیّة شعار ترفعه الإدارة الأمریکیّة الحالیة لغایات انتخابیة لا تخفى عنه أسرارها بعد أن ثبت على الأرض أن المحافظة على استقرار "الأردن" وحمایة العرش الهاشمی من ثوابت "الأمن القومی" فی أمریکا وإسرائیل.
رئیس الوزراء الإسرائیلیّ "نتنیاهو" جاء إلى أمریکا، وهو فی موقف قوّة. لقد نجح فی معرکته مع "أوباما" وأصبح على قناعة بأنّ مصیر الرئیس الأمریکی السیاسیّ بیده. وهو القادر على أن یمنحه جرعة الحیاة. لذلک واصل ملاعبته والاستخفاف بما دعا إلیه من مفاوضات بطریقة ذکیّة وغیر مباشرة. فجاء بالخطاب المُلغز نفسه دون تجمیل أو تغییر؛ حرّک المشاعر بأن ذکّر بالعملیّتیْن اللّتیْن استهتدفتا إسرائیلیین أبریاء منهم امرأة حامل!! ثمّ کرّر الثوابت الإسرائیلیّة: إسرائیل دولة یهودیة. والفلسطینیون شعب جاء لیعیش معنا! وهو یتفهم حقّ الفلسطینیین فی الحیاة لا فی دولة أو حدود.
والسلام عند "نتنیاهو" هو أن تتوسّع المستوطنات وتبتلع الأراضی الفلسطینیّة، وأن یبقى "رئیس الدولة الفلسطینیة" العجیبة رهین عسکری من أسفل الرّتب فی الجیش الإسرائیلی لیأذن له بالذهاب إلى مکتبه فی "رام الله". أمّا "القدس" فهی العاصمة الأبدیة لإسرائیل ولا مجال للتفاوض فی شأنها!!
وقد أراد "نتنیاهو"، من خلال حضوره المفاوضات، أن یوجه رسالة إلى شعبه بأنّه یمشی على خطى زعماء إسرائیل الکبار الذین أقدموا بشجاعة على تنازلات "مؤلمة" خدمة للسلام لکن مع المحافظة على الثوابت الإسرائیلیّة!!
الرئیس الفلسطینی "محمود عباس" یشعر فی قرارة نفسه بأنّه فاقد للشرعیة حتّى عند بعض المنتمین إلى منظمة "فتح" التی یرأسها. وقد وجد نفسه فی طریق مسدود بعد أن خذلته الإدارات الأمریکیة المتعاقبة. وهو یدرک صحبة مجموعته أنّه فی نهایة عمره السیاسیّ.
لذلک یرید من خلال هذه المفاوضات، أن یخرج بما یمکن أن یثبّته زعیما سیاسیا لا یقلّ شأنا عن "عرفات". والمجموعة التی تحیط به تراهن على المجهول وهی مستعدّة للتحالف مع الشیطان من أجل البقاء خشیة فتح الملفّات المالیة والأمنیة، تقودها قناعة بأنّ "إسرائیل" بدأت تجهّز لها "نعشا" من خلال التسریبات الصحفیة التی تتحدّث عن دور مشبوه لأطراف فی الفریق الفلسطینی المفاوض فی بناء الجدار العازل! وعبر فتح أبواب جهنم على أعوان "محمود عباس" عندما لمّحت إلى أنّ تصفیة "عرفات" تمت بتواطؤ من بعض المقرّبین منه.
کلهم، إذن، جاؤوا إلى المفاوضات تقودهم مصالح سیاسیّة آنیّة متباینة. "أوباما" یرید ربح معرکة "الکونغرس" لیضمن أیام راحة إضافیة فی البیت الأبیض. و"مبارک" یرید أن یُسجّل حضوره لاعبا لا غنى عنه فی الشرق الأوسط، ورئیسا جدیرا بحکم أکبر دولة عربیة بما أنّه ما زال یتمتّع بصحّة جیّدة. و"الملک عبد الله" یسعى إلى حمایة عرشه، وضمان استمرار حکمه معتمدا سیاسة أبیه فی الانتصار للأردن أولا وأخیرا، عبر التمسّک بالسلام شعارا یُرفع کلّما اقتضت الحاجة.
و"نتنیاهو" سعید بأن یحضر مفاوضات ضَمِنَ من البدایة أنها ستؤدی إلى طریق مسدود بعد أن حصلت لدیه قناعة بأنّ کلّ اللاعبین مثله لا یریدون من الملفّ إلا ما یستجیب لمطالبهم السیاسیّة الضّیقة، فالمفاوضات عنده استراحة محارب، وتخفیف للضغط الدولی والشعبی الذی عاشته إسرائیل بعد حادثة "سفن السلام".
أمّا "محمود عباس" فیرى فی هذه المفاوضات آخر ورقة سیاسیة یمکن أن یلوّح بها کی یضمن بقاءه، أو مغادرته الساحة السیاسیة بمکسب یمکن أن یُحسب له حتّى وإن کان هزیلا.
إنّ ما تسمّیه الولایات المتحدة الأمریکیة استئنافا للمفاوضات المباشرة هو فصل جدید فی "مسرحیة" تتناوب الإدارات الأمریکیّة المتعاقبة على صیاغة أحداثها وفق ما تُملیه احتیاجاتها، ومواصلة لسیاسة التسویف الأمریکیّة والإسرائیلیّة التی تتغیّر فیها الأمکنة والوجوه ویظلّ الخطاب واحدا لا یتغیّر فی الجوهر إلاّ بحسب ما تقتضیه المرحلة من تجمیل وتقدیم وتأخیر. وما یجری الآن فی الولایات المتحدة الأمریکیة جزء من حملة علاقات عامة تدیرها "إسرائیل" بإتقان، والأکید أنها ستکون المستفید الأکبر منها.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS