مفاوضات افتراضیة
مفاوضات افتراضیة
عبد الحلیم قندیل
هل من معنى لإطلاق مفاوضات مباشرة ـ فی واشنطن ـ یعلم المشارکون فیها قبل غیرهم أنها لن تصل لنتیجة أفضل من الصفر؟
لا نسأل هنا عن المعنى عند إسرائیل، ولاعند نتنیاهو، فقد أراد الرجل، وحصل على ما أراد بالضبط، طلب نتنیاهو وقف المفاوضات غیر المباشرة برعایة جورج میتشل، وطلب الانتقال إلى مفاوضات مباشرة مع عباس، ونظر شزرا إلى مطالب الأخیر باشتراط تجمید الاستیطان فی الضفة والقدس، وإلى مطالب عباس بإصدار بیان من الرباعیة الدولیة یتحدث عن أراضی 1967، وإلى مطالبه بالحصول على ضمانات أمریکیة، وأصر نتنیاهو على العکس، وألا تکون هناک أی ضمانات أو بیانات محددة، وسوى کلام باهت لا معنى له عن جولة مفاوضات تمتد لعام، وخضعت واشنطن لما أراد نتنیاهو، وخضع عباس بالطبع، وحقق نتنیاهو هدفه، وحول معنى المفاوضات المباشرة إلى إملاءات مباشرة، وهذه هی القاعدة التی ترسم خطوط السیر فیما یلی، فلا قیمة لما یریده أی طرف، ولا معنى له، إلا أن یرید ما یریده نتنیاهو، وأن تتحول المفاوضات بین عباس ونتنیاهو إلى مفاوضات بین نتنیاهو ونتنیاهو، ومادام نتنیاهو یفاوض نفسه، فقد کسب حرب الکلام قبل أن تبدأ.
وربما لا نسأل هنا عن المعنی فی موقف واشنطن، فإدارة أوباما فی خدمة نتنیاهو طبعا، ودع أوباما أوهامه المبکرة عن حل للفلسطینیین یجری التوصل إلیه برعایته، وانتهى إلى الموقف نفسه الذی انتهى إلیه أسلافه من الرؤساء الأمریکیین، وهو إعطاء الأولویة المطلقة لما تریده إسرائیل، فالعلاقة بین أمریکا وإسرائیل حالة اندماج استراتیجی، وخیبات أمریکا المتوالیة فی العراق وأفغانستان زادت من أهمیة إسرائیل لدى صناع السیاسة الأمریکیة، وما تنفقه أمریکا على إسرائیل أقل مما أنفقته فی حربی العراق وأفغانستان، والقاعدة الإسرائیلیة هی أهم حاملة طائرات وصواریخ أمریکیة فی العالم کله، فقد أنفقت أمریکا تریلیون دولار فی العراق، وأنفقت مثلها فی أفغانستان، ودفعت من دم جنودها بعشرات الألوف، وخسرت الحربین معا، وهی لا ترید أن تخسر قاعدتها الأصلب فی إسرائیل، ثم أن إسرائیل لاعب أساسی فی واشنطن نفسها، و'تضاغطات' الفترة الأولى لإدارة أوباما، أثبتت أنه لا صوت یعلو فوق صوت إسرائیل فی واشنطن، وبمزیج المصالح الکونیة والداخلیة للإدارة الأمریکیة، انتهى الشد والجذب لتجدید قاعدة الولاء لإسرائیل، فأوباما یرید کسب عطف اللوبی الیهودی فی انتخابات التجدید النصفی الوشیکة للکونجرس، ویطمح فی البقاء لمدة ثانیة فی البیت الأبیض، ویرید تجنب الصداع الذی جلبه علیه شخصه المثیر للجدل، فعشرة فی المائة من الأمریکیین ـ بحسب استطلاعات رأی ـ یعتقدون أنه مسلم متخف، والحزب الجمهوری یشن علیه حملة تتهمه بالمروق عن القیم الأمریکیة، وإسرائیل ـ بالطبع ـ فی رأس سلم أولویات القیم الأمریکیة إیاها.
بالطبع، لا نسأل عن معنى وجود الرئیس المصری والعاهل الأردنی فی محطة إطلاق المفاوضات المباشرة، قد یقولون لک أنهما ذهبا لدعم الفلسطینیین، وهذا کلام مثیر للسخریة، وأقرب إلى شهادات الزور، والسبب ظاهر، فلا مصر ولا الأردن ـ ولا غیرهما من الدول العربیة ـ دعم الفلسطینیین بقطعة سلاح ولا بفلس، وإدارة عباس نفسها تقول ذلک، فقد قررت القمم العربیة دعما سنویا للفلسطینیین بمبلغ 500 ملیون دولار، وقررت دعما لصندوق القدس بمبلغ مماثل، ولم یصل دولار واحد (!)، ثم أن المفاوضات ـ مباشرة وغیر مباشرة ـ جرت على مدى عشرین سنة إلى الآن على الجبهة الفلسطینیة، وکان حسنی مبارک وعبد الله الثانی ـ وأمثالهما ـ هناک، ولم تحقق المفاوضات نتیجة واحدة مفیدة للفلسطینیین، أضف إلى ذلک عداء مصر والأردن الرسمیتین للمقاومة الفلسطینیة بکافة أشکالها وفصائلها، ونشاط أجهزة أمن البلدین فی مطاردة أی عمل فدائی فلسطینی، حتى ولو کان مجرد نوایا فی الصدور، ثم احتفاء النظامین فی مصر والأردن بزیارة أی مسئول إسرائیلی، ومسارعة الرأسین للقائه مع تقدیم أسمی آیات التبجیل والإحترام، وفتح البلدین مجالهما لنشاط إستثماری وسیاحی إسرائیلی، وتزوید إسرائیل بما تحتاجه من البترول والغاز واتفاقات 'الکویز'، واعتبار العلاقة مع إسرائیل من المقدسات المطلقات، فلا یجرؤ مبارک ولا عبد الله الثانی على اتخاذ إجراء یغضب إسرائیل، تماما ـ وبالضبط ـ کما لا یجرآن على عدم الذهاب لواشنطن، مادامت تلک إرادة نتنیاهو، ومادامت تلک أوامر أوباما، ولا یهم عندهما أن تحقق المفاوضات نتائج أو لا تحقق، المهم إثبات الولاء لواشنطن، وتقدیم حسن النیة لإسرائیل، والمهم: هو الدفع فی حساب إسرائیل کسبا لرضا الباب العالی فی واشنطن، وتجدید أوراق الاعتماد وتأشیرات الإقامة فی قصور الحکم.
أما الرئیس عباس، فهو نفسه لا یسأل عن المعنى، ویقول لک بصریح العبارة: لا فائدة ترجى من المفاوضات المباشرة، ویخفض منسوب یأسه أحیانا إلى نسبة 1' أملا على سبیل الافتراض العبثی، والرجل یبدو فی محنة حقیقیة صنعها لنفسه، فی إسرائیل یصفونه بالشریک الفلسطینی الضعیف المهان، وفی رام الله لا تجد من مرؤوسیه من یصفه بالبطولة، وأعلى صور دفاعهم عنه أن یمتنعوا عن وصفه بالخیانة، ففی حرکة فتح التی یترأسها غضب طافح من ذهابه إلى المفاوضات المباشرة، لکن الکل یصمت بعدها کأنه أکل لقمة 'سد الحنک'، فهم ینتظرون رواتبهم الضخمة فی آخر الشهر، والرئیس عباس نفسه ینتظر، ومیزانیة سلطة عباس کلها یدفعها المانحون الأوروبیون والأمریکیون، ومن یدفع یتحکم، وسلطة عباس لیست إلا شرکة مدفوعة الأجر من حلفاء إسرائیل، وبوسع هؤلاء تصفیة الشرکة فی أی وقت، وإغلاق المقار ولملمة الأوراق، وقد جرب عباس لأیام أن یعیش فی الدور، وأن یصور نفسه کرئیس فلسطینی حقیقی، وأعلن أنه لن یذهب إلى المفاوضات المباشرة إلا بشروط وقف الاستیطان الیهودی، وجرب أن یذهب إلى أقرانه من الملوک والرؤساء العرب، وأن یلتمس منهم ورقة توت یغطی بها عورات السیاسة، ووجدهم وقد خلعوا برقع الحیاء، ونصحوه بأن یخضع کما خضعوا، وأن ینفذ طلبات أمریکا وإسرائیل بالحرف، ولأن عباس لا یملک الجرأة على الخروج من اللعبة، فقد ابتلع ریقه وخضع، وظل یوالی همهماته عن اشتراط وقف الاستیطان، وعن التـــــفاوض على أساس حدود ما قبل حرب 1967، وقوبلت طلباته بسخریة نتنیاهو، وبزجر رادع من المانحین الأوروبیین والأمریکیین، وتهدیدهم بإلغاء فرصة العمل التی منحوها له کرئیس فلسطینی افتراضی، فقد انتهت ولایة الرجل الانتخابیة من زمن، وهدد الرجل بالاستقالة دون أن یجرؤ علیها، وفضل الاستمرار فی العمل کرئیس صوری عاجز للفلسطینیین، ضاقت علیه فرص المناورة، خاصة بعد أن نفذ الطلبات بالحرف، وأعلن رفضه وإدانته لکافة صور المقاومة والانتفاضة الشعبیة، بل دخل فی شراکة أمنیة مع جیش الاحتلال الإسرائیلی لمطاردة واعتقال الفدائیین، وما دام یشارک فی الحرب الأمنیة مع إسرائیل، فلا عجب أن یشارک نتنیاهو فی مفاوضاته المباشرة، ومقابل أن یبقى رئیسا للفلسطینیین بضمانة الأمریکیین والإسرائیلیین، ولمدة عام آخر هو زمن المفاوضات إیاها .
إنها مفاوضات إفتراضیة، ولعبة کومبیوتر یتسلى نتنیاهو بأطرافها على جهازه 'اللاب توب'.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS