اعتذارکم غیر مقنع
اعتذارکم غیر مقنع
عبد الباری عطوان
جمیل ان یعتذر رئیس الوزراء الفلسطینی سلام فیاض عن قیام مجموعة من افراد الامن، التابعین لسلطته، بالاعتداء على مجموعة من ممثلی فصائل منظمة التحریر الفلسطینیة، وشخصیات وطنیة مستقلة، ومنعهم من المشارکة فی ندوة تداعوا لعقدها للتعبیر عن معارضتهم لمشارکة رئیس السلطة محمود عباس فی المفاوضات المباشرة التی ستستأنف غداً فی واشنطن، ولکن هذا الاعتذار غیر مقبول، بل یجب ألا یقبل، لان هذه السلطة لا تحترم الشعب الفلسطینی فقط، بل تستهتر بأقرب حلفائها فیما تبقى من منظمة التحریر، وتمارس ابشع انواع البلطجة، لقمع الرأی الآخر، ومنعه من التعبیر عن وجهة نظره اذا کانت تتعارض مع وجهة نظرها وقادتها.
المشکلة لا تنحصر فی مجموعة من بلطجیة رجال الامن، اقتحمت مقر الندوة ومزقت اللافتات والشعارات، واثارت حالة من الفوضى فی القاعة، وانما فی النهج الذی اتبعته السلطة فی الاعوام الاخیرة، من حیث مصادرة الحریات، واحتکار التمثیل الفلسطینی، والحدیث باسم الشعب، دون ان تملک الشرعیة او التفویض او الاثنین معاً.
مجموعة رجال الامن هذه التی مارس اعضاؤها اعمال البلطجة هذه، تنتمی الى جهاز أمنی جرى اختیار المنتسبین الیه بعنایة فائقة، وتحت اشراف اربعة اجهزة استخبارات. اثنان منها عربیان (الاردن وفلسطین) واثنان اجنبیان (الشین بیت الاسرائیلی والسی ای ایه الامریکی) وهذا موثق فی محاضرة ألقاها العراب الاکبر الجنرال کیث دایتون فی معهد بواشنطن، وحتى یکون هذا الجهاز ابرز ادوات المخطط الحالی فی خلق الانسان الفلسطینی الجدید الخالی من الوطنیة والکرامة وعزة النفس.
هذه المجموعة، وفی هذا الاطار، تربت على قیم ومبادئ واخلاقیات لا نعرفها، بل لا نرید ان نعرفها، ولیس لها ای علاقة بقیم واخلاقیات ومبادئ الشعب الفلسطینی التی استشهد من اجلها آلاف الشهداء الفلسطینیین والعرب والمسلمین.
من اقدموا على اعمال البلطجة هذه لم یقدموا علیها من جراء انفسهم، وانما بتعلیمات من قیادتهم بشقیها الامنی والســـیاسی. ولیــــس صـــدفة ان العشـــرات من هؤلاء البلطجیة کانوا یحملون صور الرئیـــس عباس، ویهتـــفون بحمایته بالروح والدم وکأنه حرر فلسطین من البحر الى النهر. ترى ماذا سیهتفون له اذا فعل ذلک؟
***
القمع کالکفر ملّة واحدة، والناس على دین ملوکهم، واجهزة الامن الفلسطینیة التی تحتقر الدیمقراطیة وحریة التعبیر، انما هی صورة طبق الاصل عن قیادتها، فکیف تکون دیمقراطیة والرئیس عباس یذهب الى المفاوضات الیوم دون مرجعیة وطنیة او تفویض من مؤسسات الشعب الفلسطینی، بل حتى اللجنة المرکزیة لحرکة 'فتح' التی یتزعمها ویحکم باسمها، ناهیک عن اللجنة التنفیذیة للمنظمة التی افتقدت الى النصاب القانونی اثناء اجتماعها الاخیر لهروب معظم اعضائها الى الخارج، او تهربهم من الحضور والتصویت بالتالی.
ومن المفارقة ان هؤلاء الذین تعرضوا للاعتداء جرى استدعاؤهم قبل ایام معدودة فقط للمشارکة فی اجتماع للجنة التنفیذیة نفسها، واصدار بیان، بطلب من الرئیس یرفض الذهاب الى المفاوضات المباشرة الا اذا تحقق تقدم فی المفاوضات غیر المباشرة على صعید القضایا المحوریة مثل وقف الاستیطان، والقبول بحدود الدولة الفلسطینیة على اساس حدود عام 1967، وتحدید مرجعیة واضحة للمفاوضات ای قرارات الشرعیة الدولیة، وعندما تراجع الرئیس عن هذه المواقف مکرها وبضغط امریکی وتنکر عربی وذهب الى واشنطن بناء على دعوة امریکیة، وفق شروط نتنیاهو، بات ممنوعاً على هؤلاء ان یوضحوا وجهة نظرهم، ویبرئوا ذمتهم امام شعبهم والتاریخ، من هذه المصیدة التی اعدت باحکام فی واشنطن لتصفیة القضیة الفلسطینیة او ما تبقى منها، وبمبارکة عربیة.
بنیامین نتنیاهو رئیس وزراء اسرائیل تعمد ان یهین الرئیس عباس، والوفد المرافق له، عندما اعلن صراحة وامام الملأ، انه لن یمدد قرار تجمید الاستیطان الذی ینتهی فی الثلث الاخیر من الشهر المقبل، وکأنه یقول اتحداکم ان تنفذوا تهدیدکم بالانسحاب من المفاوضات اذا لم یتم التمدید مثلما ترددون فی تصریحاتکم التلفزیونیة، لاعطاء انفسکم ورقة توت تبرر ذهابکم الى واشنطن بعد التراجع عن کل 'لاءاتکم'السابقة.
الدکتور سلام فیاض اعلن بالامس الشق الثانی من خطته لاستکمال بناء البنى التحتیة للدولة التی یعتزم اعلانها فی شهر آب/اغسطس المقبل، واذا کانت هذه الدولة العتیدة عنوانها القمع، وتکمیم الافواه، ومصادرة الرأی الآخر، فانها لا تتماشى مع طموحات الشعب الفلسطینی، ولا ترتقی الى الحد الادنى من تضحیاته.
***
تخص الدکتور فیاض بالذات لانه المسؤول الاول عن بناء قوات الامن الفلسطینیة باشراف الجنرال الامریکی دایتون، وهو المرشـــح الاکبر لتولی مسؤولیة القیادة فیها مستقبلاً، فدور الرئیس عباس وانصاره فی حرکة 'فتح' هو مجرد دور 'المحلل'.
الدکتور سلام فیاض القادم الى السلطة من البنک الدولی، یسیر على خطى اصدقائه الامریکیین، ای انهم یریدون الدیمقراطیة، وسیادة القانون لشعوبهم فقط، ولکن عندما یتعلق الأمر بالمواطن الفلسطینی، فان الدیمقراطیة ومستلزماتها ترمى من النافذة، وتدخل الدیکتاتوریة وادواتها القمعیة من الباب العریض. فالقیم الدیمقراطیة وما یتفرع عنها من حریات محرمة على الشعب الفلسطینی وکل شعوب المنطقة فی الوقت نفسه.
وربما یجادل البعض بانه جرى تشکیل لجنة تحقیق بأمر من الرئیس عباس، وهذا صحیح، ولکن متى ادت مثل هذه اللجان عملها بمهنیة وموضوعیة، واذا کانت فعلت ذلک، هل جرى العمل بتوصیاتها، من حیث معاقبة المسؤولین، وخاصة من کبار رجال السلطة، والقائمة طویلة لا یتسع المجال لذکرها.
فی أحد الأیام مر حکیم الصین العظیم کونفوشیوس بامرأة تبکی بحرقة، وتلطم خدیها، فسألها عن اسباب بکائها، فقالت له ان النمر اکل زوجها الیوم، وقبل شهر اکل ابنها البکر، وقبل شهرین التهم والدها.
فسألها کونفوشیوس: لماذا لا تغادرین هذه البلدة اذن؟.. اجابت.. وکیف تریدنی ان اغادرها وفیها حاکم عادل؟
الدکتور فیاض اطلق فی مؤتمره الصحافی وثیقة سماها 'موعد مع الحریة'، قال انها تتضمن ارساء قیم النزاهة والشفافیة والفصل بین السلطات، وتوفیر الامن والامان وترسیخ سیادة القانون والحریة والعدالة والمساواة. انها اذن جمهوریة افلاطون الفاضلة.
ردنا على الدکتور فیاض بالتذکیر بالمثل الفلسطینی الذی یقول 'اللیلة السعیدة بتبان من العصر' ومثل مقدمات کهذه لا یمکن ان تؤدی الى العدالة وسیادة القانون اللتین یبشر بهما.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS