التسلح العربی یفتقد التصنیع والتنویع
التسلح العربی یفتقد التصنیع والتنویع
نقولا ناصر
عشرات الملیارات من الدولارات یتم إنفاقها على التسلح العربی، دون أن تغیر الأسلحة المشتراة فی موازین القوى لا مع دولة الاحتلال الإسرائیلی ولا مع غیرها من القوى الإقلیمیة التی یسعى بعض العرب أو یتم دفعهم إلى التوازن معها، مثل إیران، لیظل الدفاع العربی مرتهنا لمشتریات السلاح الأمیرکی والغربی المشروطة سیاسیا، دون أی توجه حقیقی نحو التصنیع توجها یحرر القرار الدفاعی العربی من أی نفوذ أجنبی یساوم على سیادته الوطنیة، أو فی الأقل نحو تنویع مصادر التسلح تنویعا یحرر هذه المشتریات من الشروط السیاسیة المرتبطة بها.
لکن تدمیر المحاولة العراقیة الجادة للتصنیع والتنویع معا بالغزو العسکری ثم الاحتلال، وتدمیر محاولة أخرى مماثلة بالحصار والعقوبات، والنتیجة واحدة-- ثم التلویح بالحرب على إیران حالیا للهدف نفسه-- إنما یستهدف أن یکون مصیر هذه المحاولات عبرة لردع أی دولة عربیة عن تکرار المحاولة، لیظل الانفاق على التسلح العربی من الولایات المتحدة عملیا هدرا للمال لا یعزز دفاعا فی مواجهة عدو حقیقی، ولا یخوض قتالا ضده، ولا یغیر فی موازین القوى معه، ولا یدعم استقلال القرار العربی الدفاعی.
ومثال التسلیح الأمیرکی للجیش اللبنانی هو المثال الأحدث الذی سلط الأضواء مؤخرا على عقم سیاسات التسلح العربی الراهنة وعلى الانتقادات الوطنیة لها. فمنذ توقف القتال فی الحرب العدوانیة الإسرائیلیة على لبنان عام 2006 دون أن یحقق أهداف الحرب، بادرت الولایات المتحدة الأمیرکیة بعد إنسحاب القوات العربیة السوریة إلى تسلیح الجیش اللبنانی بما یزید على 700 ملیون دولار منها 400 ملیون دولار خلال العام الماضی، بحجة تعزیز استقلال لبنان، أولا فی مواجهة سوریا، وثانیا فی مواجهة المقاومة اللبنانیة فی الداخل، وثالثا لتکون مهمة الجیش اللبنانی جزءا لا یتجزأ من مهمة قوات "الیونیفیل" الدولیة فی حمایة العدوان الإسرائیلی المتواصل على لبنان ضد أی ردع له.
وعندما اندلعت معرکة الشجرة فی العدیسة فی الثالث من الشهر الجاری، وتأکد فیها أن الجیش اللبنانی یتسلح لأهداف وطنیة خالصة لا علاقة لها بالأهداف الأمیرکیة لتسلیحه، جمدت واشنطن تمویل تسلیحه، لأن "الکونغرس ینبغی أن یطالب بأدلة بأن القوات المسلحة اللبنانیة هی جزء من الحل" الأمیرکی- الإسرائیلی للصراع العربی- الإسرائیلی "ولیس جزءا من المشکلة" مثل المقاومة الوطنیة التی یقودها حزب الله أو مثل سوریا التی تدعم هذه المقاومة أو مثل إیران التی تساند کلیهما.
وقد کان الرئیس اللبنانی میشیل سلیمان حاسما عندما رد على تجمید التمویل الأمیرکی لتسلیح الجیش باقتراح الذهاب إلى الدول "المجاورة والصدیقة" کبدیل، مما یؤکد مجددا على أهمیة تنویع مصادر التسلح العربی إن تعذر هذا التسلح بالتصنیع الوطنی للسلاح، ومما یذکر بالرئیس المصری الراحل جمال عبد الناصر عندما عقد صفقة الأسلحة التشیکوسلوفاکیة فی خمسینیات القرن العشرین المنصرم ردا على موقف أمیرکی وغربی مماثل فتحول بین لیلة وضحاها من مجرد رئیس دولة إلى زعیم شعبی ثم إلى قائد عربی قومی، لأن تحریر التسلح العربی من الشروط السیاسیة الأجنبیة وتنویع مصادر التسلح إن تعذر تصنیع السلاح وطنیا کان منذ ذلک الحین مطلبا عربیا شعبیا ووطنیا وقومیا منطقیا، وما یزال.
إن من یتابع القلیل جدا الذی نادرا ما یتسرب إلى وسائل الإعلام عن تفاصیل "عملیة" بیع الأسلحة الأمیرکیة إلى الدول العربیة "الصدیقة" للولایات المتحدة یلاحظ بسهولة مدى تعقید إبرام صفقاتها، وهو تعقید غالبا ما تفسره الإدارات الحاکمة فی واشنطن بتعقید عملیة صنع القرار الأمیرکی وبخاصة فی مجال مبیعات السلاح الأمیرکی الخارجیة، متجاهلة أن المشترین العرب والرأی العام فی بلادهم یقارنون بین هذا التعقید المزعوم وبین مدى سلاسة صنع القرار الأمیرکی وسهولته وسرعته عندما یتعلق الأمر بمبیعات السلاح الأمیرکی إلى دولة الاحتلال الإسرائیلی، بالرغم من حقیقة أن السوق الخارجیة الرئیسیة للأسلحة الأمیرکیة هی السوق العربیة، ومن حقیقة أن المشتری العربی یشتری بالسعر الأعلى ویدفع نقدا بینما المشتری الإسرائیلی "یأخذ" معظم سلاحه الأمیرکی کمعونات عسکریة أو یشتریها بأرخص الأسعار بـ"أموال أمیرکیة" یحصل علیها إما کمنح أو کضمانات قروض أو بغیر ذلک من أشکال الدعم المالی الأمیرکی.
فعلى سبیل المثال، تجری حالیا معرکة سیاسیة ضاریة فی الکونغرس والإداریة الأمیرکیة لإبرام ما تصفه وسائل الإعلام الأمیرکیة بأنه "أکبر صفقة لبیع أسلحة أمیرکیة خارجیة" إلى المملکة العربیة السعودیة، والوصف نفسه کان قد أطلق على صفقة مماثلة للمملکة عام 1992 وقبلها على صفقة طائرات "اواکس" فی ثمانینیات القرن الماضی. ومن یقارن بین "تعقیدات" بیع الأواکس للمملکة قبل أربعة وعشرین سنة وبین تعقیدات الصفقة الحالیة لا یجد الکثیر من الاختلاف لا فی سلوک البائع الأمیرکی ولا فی سلوک المشتری العربی ولا فی المماطلة الأمیرکیة ولا فی "الحیثیات" الإسرائیلیة لعملیة البیع ولا فی الرضوخ الأمیرکی للشروط الإسرائیلیة لإتمام عملیة البیع.
فقد طلبت الریاض شراء الأواکس مع اندلاع الحرب العراقیة- الإیرانیة وبسببها، وعرضت الإدارة الأمیرکیة اقتراح بیعها على الکونغرس بعد أکثر من عام، وحصلت الریاض علیها على دفعات بین حزیران/یونیو عام 1986 وأیلول/سبتمبر عام 1987، قبل سنة من وقف إطلاق النار فی الحرب، أی بعد أن کاد ینتفی الغرض المعلن من شرائها أصلا. وکانت المعارضة الإسرائیلیة لبیعها هی السبب الرئیسی فی المماطلة الأمیرکیة ببیعها بعد التوصل إلى اتفاق أمیرکی- إسرائیلی على بیعها بمواصفات وتجهیزات "تطمئن" دولة الاحتلال بأن وجودها فی أید عربیة لا "یهدد أمن إسرائیل" بالرغم من الطبیعة الدفاعیة لهذه الطائرات.
والیوم یکرر التاریخ نفسه فی "أکبر صفقة لبیع أسلحة أمیرکیة خارجیة" للعربیة السعودیة. فقد حرصت واشنطن على "طمأنة" تل أبیب بأن الصفقة الجدیدة لا تهدد أمن دولة الاحتلال بثلاثة طرق رئیسیة، الأولى أوضحتها الوول ستریت جورنال فی الثامن من الشهر الجاری: فواشنطن قدمت لتل ابیب "توضیحات" عن الصفقة لأن "المشارکة فی المعلومات مع إسرائیل هی جزء من التزام الإدارات الأمیرکیة المتعاقبة منذ مدة طویلة بالحفاظ على تفوقها العسکری فی المنطقة"، أی أن تفاصیل التسلیح الأمیرکی للعرب یتبرع بها البائع الأمیرکی إلى عدوهم الرئیسی قبل تسلیم السلاح لهم بینما هذه التفاصیل تعتبر من الأسرار العسکریة والوطنیة لأیة دولة.
والصحیفة نفسها أوضحت الطریقة الثانیة التی "طمأنت" واشنطن تل أبیب بواسطتها: فـ"فی تنازل لإسرائیل" لکی توافق على صفقة طائرات أف- 15 التی تصنعها شرکة بوینغ الأمیرکیة للسعودیة "لن یتم تجهیزها بأحدث أنظمة التسلح والطیران" المتاحة لسلاحی الطیران الأمیرکی والإسرائیلی، أی أن التسلیح الأمیرکی للعرب مشروط بالموافقة الإسرائیلیة علیه کما ونوعا.
أما الطریقة الأمیرکیة الثالثة لـ"طمأنة" إسرائیل والحصول على موافقتها على صفقة أمیرکیة مع طرف ثالث فی المنطقة فهی الرضوخ للابتزاز الإسرائیلی بتعویض دولة الاحتلال بسلاح جدید مقابل ما سیحصل علیه العرب یحافظ على تفوقها النوعی علیهم مجتمعین، وهکذا وافقت إدارة باراک أوباما على تزوید إسرائیل بأحدث طائرات "الشبح" الحربیة إف- 35 وهی الأحدث فی الترسانة الأمیرکیة، لا بل منحت الصناعات العسکریة الإسرائیلیة عقودا بأربع ملیارات دولار لتزوید هذه الطائرة بقطع غیار، لیکون التفوق العسکری النوعی الإسرائیلی الجدید "بعبعا" لدفع العرب إلى شراء المزید من السلاح الأمیرکی، فی سباق عربی "وهمی" للتسلح مع دولة الاحتلال المستفید الوحید منه هو تاجر السلاح الأمیرکی الدولی و"بعبعه" الإقلیمی الإسرائیلی.
وتطور الصناعة الدفاعیة المستقلة فی إیران یمثل منافسا للصناعات العسکریة الإسرائیلیة أکثر مما یمثل تهدیدا لأمنها، وتستخدم واشنطن هذا التطور الإیرانی النوعی کـ"بعبع شرقی" لابتزاز المزید من المشتریات العربیة للسلاح الأمیرکی، وتزج العرب فی سباق عربی "وهمی" مماثل للتسلح مع إیران.
وفی سباقی التسلح شرقا أم غربا لم تنجح صفقات السلاح الأمیرکی للعرب فی تعادل میزان قواهم لا مع إیران ولا مع إسرائیل، ناهیک عن ترجیح کفتهم، لأن کلا من إیران وإسرائیل تصنع سلاحها بنفسها، بینما ما زال الأمن العربی وطنیا وقومیا یعتمد على التسلح الخارجی أو الحمایة الأجنبیة، ولأن التسلیح الأمیرکی للعرب یستهدف استمرار هذا الوضع على حاله حتى ینضب النفط أو تغلق مصانح الحرب الأمیرکیة أبوابها، وکلا الاحتمالین لیس متوقعا فی أی مدى منظور.
وهکذا یستمر تدویر عائدات النفط العربیة واستنزافها بعیدا عن التنمیة، لکن على الأخص بعیدا عن أی محاولة عربیة جادة لتصنیع السلاح وطنیا، بینما القیمة المالیة التی دفعها العرب للتسلح من الولایات المتحدة حتى الآن، دون أی جدوى دفاعیة ملموسة، تکفی لإطلاق صناعة دفاعیة عربیة مستقلة.
لکن واشنطن حریصة على عدم تطویر أی منافس إقلیمی للصناعات العسکریة الإسرائیلیة التی أصبحت مصدرا للدخل فی دولة الاحتلال تعادل أهمیته الاقتصادیة ما للنفط من أهمیة اقتصادیة للعرب، مما یخفض کلفة الضمان الأمیرکی لأمن إسرائیل من ناحیة، ومن الناحیة الأخرى یبقی السوق العربیة مفتوحة أمام تجارتها الحربیة، وهی تجارة ذات أهمیة استراتیجیة للاقتصاد الأمیرکی، فعلى سبیل المثال کانت حصة الولایات المتحدة من مشتریات السلاح فی المنطقة 56.1% بین عامی 2001 و2004 لترتفع هذه الحصة إلى 89% بین عامی 2005 و2008، و"الحبل على الجرار" کما یقول المثل العربی.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS