الجدل حول مقاطعة المستوطنات!
عبد اللطیف الحناشی
أثار قانون مکافحة منتجات المستوطنات وحظرها، الذی أقر فی أبریل/ نیسان الماضی من قبل سلطة رام الله الکثیر من الجدل فی أوساط النخب السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة والاقتصادیة الفلسطینیة. ویحظر القانون الاتجار بمنتجات المستوطنات "بیع أو ترویج بضائع المستوطنات أو تقدیم مساعدات حرفیة وتقنیة لها، مشیراً فی ذلک إلى العمال" ویعاقب المخالفون بالسجن من سنة إلى خمس سنوات کحد أقصى وبغرامة مالیة مرتفعة القیمة.
وکانت حرکة مقاطعة إسرائیل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات علیها، قد انطلقت بعد النداء الذی أطلقته بعض منظمات المجتمع المدنی الفلسطینی فی التاسع من یولیو/ تموز 2005 "وهو تاریخ الذکرى السنویة الأولى لصدور قرار محکمة العدل الدولیة فی لاهای بإدانة جدار الفصل العنصری". ویدعو ذاک النداء إلى ممارسة مقاطعة إسرائیل فی المجالات الاقتصادیة والأکادیمیة والثقافیة والریاضیة وغیرها، وذلک بهدف "دفعها للامتثال بشکل کامل لالتزاماتها، وذلک حسب ما ینص علیه القانون الدولی والمبادئ العالمیة لحقوق الإنسان"، أی إنهاء احتلالها واستعمارها لکل الأراضی العربیة المحتلة سنة 1967 وتفکیک الجدار والاعتراف بالحق الأساسی بالمساواة الکاملة لمواطنیها العرب الفلسطینیین واحترام وحمایة ودعم حقوق اللاجئین الفلسطینیین فی العودة إلى دیارهم واستعادة ممتلکاتهم ثالثا، کما هو منصوص علیه فی قرار الأمم المتحدة رقم 194.
ویبلغ عدد المستوطنات، حسب الإحصاءات الرسمیة الإسرائیلیة، 177 مستوطنة یقطنها أکثر من 500 ألف مستوطن، بما فی ذلک المستوطنات المقامة فی القدس الشرقیة المحتلة، فی حین یبلغ عدد المستوطنات الصناعیة 20 مستوطنة. أما عدد المصانع القائمة حالیا فی مستوطنات الضفة الغربیة فیصل إلى 326 مصنعا ومنشأة؛ وتشیر الإحصاءات الإسرائیلیة إلى أن منها 35 مصنعا فی "مستوطنة برکان" الصناعیة، التی تعتبر واحدة من أکبر المستوطنات الصناعیة الإسرائیلیة.. وتظهر الإحصاءات الإسرائیلیة أن حوالی 46 فی المائة من الدخل السنوی للمستوطنات یساهم به الفلسطینیون.
وتعتبر السوق الفلسطینیة ذات حیویة بالغة للرأسمالیة الإسرائیلیة؛ وتمثل المناطق الفلسطینیة جزءاً مهما من التصدیر الإسرائیلی، وبحسب التقدیرات وصل حجم المبعیات الفلسطینیة لإسرائیل فی العام 2009 إلى 1,5 ملیار شیکل، بینما بلغت مبیعات إسرائیل إلى السلطة الفلسطینیة نحو 15 ملیار شیکل، أی أکثر بعشرة أضعاف.
ویستورد الفلسطینیون 80 فی المائة من الفواکه، و50 فی المائة من الخضار من إسرائیل، وتنتشر فی الأسواق المحلیة الفلسطینیة المئات من المنتجات والسلع المصنعة فی المستوطنات، ویقدر حجم مبیعات هذه المنتجات فی السوق العربی فی الداخل بحوالی 600 ملیون شیکل سنویا. وتبلغ مبیعات منتجات المستوطنات الإسرائیلیة فی السوق الفلسطینیة سنویا نحو 200 ملیون دولار، ویمکن أن تذهب هذه الأموال للاقتصاد الفلسطینی فی حال مقاطعة منتجات المستوطنات. وتشیر الإحصاءات الفلسطینیة إلى أن هناک حوالی 28000 عامل إسرائیلی ینشطون فی المستوطنات بمجالات عدة کالزراعة والصناعة، فی حین یواجه القطاع الزراعی فی الأراضی الفلسطینیة قیوداً إسرائیلیة کثیرة تحول دون نموه وتطوره کمنع نقل المنتجات الزراعیة من قطاع غزة إلى الضفة وتحدید کمیات المیاه المقدمة للمزارعین الفلسطینیین، وحرمانهم من التوسع فی مناطق زراعیة فی الأغوار.
ویبدو أنّ هذه الحملة، ببعدها الرسمی والأهلی، قد بدأت تؤتی ثمارها وتحقق بعض أهدافها، فحسب المعطیات التی قدمتها وزارة الاقتصاد الفلسطینی تم إغلاق عدد من المنشآت الصناعیة فی المستوطنات التی انتقلت إلى داخل حدود أراضی 1948، کما تم إغلاق عدد من المنشآت الفلسطینیة التی کانت تقیم مخازنها داخل المستوطنات التی انتقلت إلى داخل المدن والقرى الفلسطینیة.
وتشیر نفس الوزارة إلى إنها تلقت العدید من الملاحظات والشهادات من قبل أصحاب المصانع الفلسطینیة التی تؤکد تحسن حجم مبیعاتها مقارنة بالفترة الماضیة، وذلک بسبب زیادة إقبال المواطنین على شراء المنتج الوطنی.
وتفید التقاریر التی تتلقاها نفس الوزارة من المحافظات أن عددا کبیرا من عمال المستوطنات قد ترکوا عملهم فی حین بدا عدد آخر بالتفکیر جدیا فی البحث عن مصادر عمل أخرى. ومما ساعد على تلک النجاحات، المقاطعة التی بدأت تمارسها بعض الدول الأوروبیة ومؤسسات غیر حکومیة مما أدى إلى صعوبة تصدیر المنتجات الاستیطانیة إلى هذه الدول وأسواقها. کما قررت شرکات أجنبیة نقل مصانعها إلى داخل الخط الأخضر وذلک بعد تهدیدات منظمات حقوق الإنسان والکنیسة بمقاضاة أصحاب هذه الشرکات لأن القانون الدولی یحظر إقامة مستوطنات فی مناطق محتلة "مثال السوید". وبموازاة ذلک تراجعت فکرة الاستثمار داخل المستوطنات وکفّ المستثمرین، سواء الإسرائیلیین أو الفلسطینیین أو الأجانب، على الاستثمار بل أصبحت فی نظر الکثیرین "مغامرة غیر مضمونة النتائج" وهو ما سیعطی نتائج أفضل لهذه الحملة على المدى البعید.
ومما یبرهن على نجاح هذه الحملة أیضا، ما أشارت إلیه صحیفة "معاریف" الإسرائیلیة مؤخرا فی ملحقها الاقتصادی أن ثلاثة مصانع على الأقل قامت بإخلاء مواقعها، وهناک عدة مصانع فی المستوطنات تدرس العودة إلى داخل الخط الأخضر وإخلاء مواقعها فی الضفة الغربیة. أما على الصعید الرسمی فکان الرد على سیاسة المقاطعة عنیفا" و"حادا"، إذ اقترح سلفان شالوم، نائب رئیس الحکومة، فرض مجموعة من العقوبات على السلطة الفلسطینیة، فی حال استمرت فی تبنی وتشجیع مقاطعة منتجات المستوطنات. أما وزارة الصناعة والتجارة، فقد بدأت بفحص السبل المناسبة لتعویض الصناعیین فی المستوطنات ممن تضرروا نتیجة المقاطعة.
وفی نفس السیاق هدد نائب وزیر الخارجیة الإسرائیلی ولجنة الاقتصاد فی الکنیست، دانی ایالون، بفرض عقوبات على السلطة الفلسطینیة إذا لم تتراجع عن قرارها بحظر تسویق منتجات وبضائع المستوطنات الإسرائیلیة فی بلدات الضفة الغربیة. موضحا أن إسرائیل تضغط على السلطة من خلال القنوات الدبلوماسیة وتحاول منع انضمامها لمنظمة التجارة العالمیة کعضو مراقب. کما تمارس ضغوطات مالیة على السلطة وذلک من خلال وقف تحویل جزء من الأموال التی تقدمها الدول الأوروبیة المانحة بهدف دعم الاقتصاد "نحو 150 ألف دولار شهریاً" .أما رئیس اتحاد الصناعیین فقد دعا اللجنة الاقتصادیة لإقرار توصیة تتضمن إغلاق الموانئ الإسرائیلیة أمام الفلسطینیین ومنع السلطة من استیراد وتصدیر مواد عبر تلک الموانئ کعقاب للسلطة على قرارها.
ولکن ورغم هذا "النجاح" الذی تحقق فی وقت قیاسی بفعل هذه المقاطعة فقد أثارت هذه الممارسة الکثیر من الجدل فی عدة أوساط فلسطینیة فتباینت الآراء حول جدواها السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة. ویمکن فی هذا الإطار تحدید ثلاثة توجهات أساسیة وهی:
الاتجاه الأول، یعتبر المقاطعة ممارسة عملیة ذات فاعلیة کبرى فی معرکة التحرر من الاحتلال خاصة وأن "الشعب الفلسطینی قد ملّ البیانات والخطب والإدانات والتصریحات التی لم تعد إسرائیل تبالی بها منذ زمن طویل واعتادت علیها"، ویطالب هؤلاء باستمرار "المقاطعة دون استجابة للضغوط أو الابتزاز، لأن الاقتصاد والسیاسة لا ینفصلان ولأن الاستیطان والاحتلال شیء واحد وأن الاستیطان هو أخطر مظاهر الاحتلال...".
ویؤکد أصحاب هذا الرأی بأن "فشل مصانع وشرکات المستوطنات اقتصادیا سیسرّع فی زوال تلک المستوطنات ومن ورائها کل الاحتلال وقیام الدولة الفلسطینیة العتیدة..." وللبرهنة على صحة رأیهم یشیر بعض هؤلاء إلى مؤتمر هرتسلیا الأخیر، وهو الأهم من حیث وضع الاستراتیجیات الإسرائیلیة وتقویم المخاطر التی تهدد الدولة، إذ وصف التقریر الختامی للمؤتمر المقاطعة بالـ"خطر الوجودی" على دولة إسرائیل، وهو الذی حفز 25 عضو کنیست على طرح مشروع قرار یعاقب کل من یدعو أو یدعم بأی شکل من الأشکال مقاطعة إسرائیل.
ویعتبر هؤلاء أنّ ما یتردد حول تضرر عشرات آلاف العمال الفلسطینیین جراء المقاطعة غیر دقیق لأن تحول القوة الشرائیة الفلسطینیة إلى السوق المحلی سیمکن هذا السوق من استیعاب أضعاف هؤلاء العمال. ویرى السید نایف حواتمة، الأمین العام للجبهة الدیمقراطیة لتحریر فلسطین، أن الأمر ".. یظل بید الجانب الفلسطینی إذا حزم أمره وإذا أعدّ الخطط المناسبة والأجواء السیاسیة الملائمة، فإن المقاطعة قادرة على شل البناء فی مستوطنات الضفة الغربیة بما فیها المشاریع الاستیطانیة فی القدس، دونما الحاجة إلى توسل الإدارة الأمریکیة والاتحاد الأوروبی والأمم المتحدة...".
الاتجاه الثانی، ویمکن أن نمیز داخله موقفین متمایزین نسبیا، ففی حین یرى أصحاب الموقف الأول قرار مقاطعة منتجات المستوطنات قرارا هزیلا وأنّ کل ما یقوم به الفلسطینیون الآن یساهم مباشرة فی تصفیة القضیة الفلسطینیة، وربما أیضا فی تهجر الشعب الفلسطینی!. فالمسألة، حسب هؤلاء، هی أکبر وأکثر من المستوطنات، فهی "تمس وعی شعب بأکمله وانتمائه والتزامه بقضایاه الوطنیة.." لذلک یدعون إلى ضرورة "إعادة ترتیب ثقافة الشعب وصفوفه لیکون على قدر التحدی...".
أما أصحاب الموقف الثانی، من نفس الاتجاه، فلا یرفضون ممارسة المقاطعة غیر أنهم یرون بأن المدخل السلیم لمعالجة قضیة بهذا الحجم، من قضایا الصراع مع المحتل، تتطلب وجود رؤیة وإستراتیجیة متکاملة لذلک یطالبون بتوسیع المقاطعة التی لا یجب أنّ تنحصر بمقاطعة المستوطنات بل بالانخراط فی حملات المقاطعة الشاملة الآخذة بالاتساع والتی تتضمن مقاطعة دولة الاحتلال ککیان استعماری استیطانی عنصری دون حصرها بهذا الجانب. فلا یمکن، حسب بعض هؤلاء، التغاضی عن التنسیق الأمنی وکل أشکال التعاون والتطبیع الثقافی والاقتصادی والسیاسی مع المحتل أو التمسک بالمفاوضات العبثیة التی تشکل إحدى المبررات الأساسیة لاستمرار سیاسات الاحتلال والتغطیة علیها..
لا شک أن حالة الهلع التی عمت "وتعم" الأوساط الاقتصادیة والسیاسیة الرسمیة وغیر الرسمیة الصهیونیة جراء هذه المقاطعة، وإن کانت جزئیة، فهی تمثل دلیلا على أهمیة تلک الممارسة النضالیة الجریئة ونجاحها وهو ما یحفّز إلى إحکام تنظیمها "توفیر البدائل" وتوسیعها مجالیا ونوعیا..
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS