الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

کیف یقوم الغرب بطبخ الأنظمة العربیة؟

 

 زیاد علان العینبوسی

 

 لقد أنفق الغرب أموالاً طائلة على الدراسات الإستراتیجیة التی تشعبت تخصصاتها وفروعها خلال القرن الماضی إلى أن بلغت درجة عالیة من التعقید وانبثقت عنها سلسلة من الآلیات التی وُضعت تحت تصرف الساسة، لتقدم لهم وسائل جهنمیة یقومون من خلالها باستدراج الأنظمة التی تقع خارج مظلتهم الثقافیة إلى هاویة الانفصال عن شعوبها، ومن ثم الانتهاء إلى السقوط فی شرک التبعیة المطلقة والتحول إلى آلیات تقوم بتنفیذ سیاساتهم، من دون الحاجة إلى الوجود المباشر الذی یؤدی إلى الاشتباک مع الشعوب ویترتب علیه دفع أثمانٍ باهظة، کما کان الحال فی الحقب الاستعماریة الماضیة.

وعلیه فقد دأبت القوى الاستعماریة الحدیثة على تفعیل هذه الآلیات ونجحت نجاحات مبهرة فی دول العالم الثالث عامة وفی مجموعة الدول العربیة والإسلامیة خاصة، حیث تم الترکیز علیها بسبب وجود إرث ثقیل من الصدام الحضاری التاریخی مع الحضارة الإسلامیة، ونظراً لمحوریة العالم العربی بموقعه الجغرافی کحلقة وصل تربط بین قارات العالم القدیم، ثم العامل الأخطر فی هذه المعادلة، الذی تمثل فی حیازة هذه المنطقة من العالم على ثروات طبیعیة هائلة، مثل النفط والغاز والیورانیوم والحدید، وهی وحدها لو وقعت فی حوزة هذه الأمة تحت قیادة واحدة وفی دولة موحدة، فإنها ستکون کفیلة بتمکین هذه الدولة من التفوق على أی قوة على سطح هذا الکوکب.

لسنا بحاجة إلى التعرض لبدایات المشروع الغربی الهادف لتفتیت المنطقة التی کانت تسمى بترکة الرجل المریض (الدولة العثمانیة) فی مؤتمرات بال عام 1897، سایکس بیکو 1916، وعد بلفور1917 لأنها مفهومة للجمیع ولأننا نحتاج لتوظیف المساحة المقالة لغرض الحدیث عن الآلیات المعاصرة التی نخضع الیوم لإرهاصاتها، ولا زالت تعمل بأقصى طاقتها أثناء کتابتی لهذا المقال.

لقد تبنى الغرب وعلى رأسه الولایات المتحدة نظریة صراع الحضارات التی أعاد (سامویل هنتجنتون) قراءتها وهیکلتها بأسلوبٍ أکادیمی مکنه من وضع خارطة مجسمة لمکونات الشعوب الداخلة فی الحضارة الواحدة، وأبرز التباینات القبلیة والإثنیة والطائفیة المجتمعیة التی یمکن أن تتحول إلى دینامیت یملک من القوة ما یکفی لتفجیر هذه الشعوب من الداخل إذا ما تم تحفیزها واستثمارهان بحیث تؤدی فی النهایة إلى تدمیر الإطار الحضاری الجامع لهذه الشعوب.

تقوم العقیدة الغربیة فی صراعها مع الکتل الحضاریة المختلفة عن حضارتها على ثلاث مراحل متتالیة وتقوم فیها کل مرحلة بتهیئة الظروف المناسبة لتفعیل المرحلة اللاحقة التی تذهب إلى بعد جدید أعمق، وتمهد الطریق لإنضاج الظروف اللازمة لبلوغ المرحلة الثالثة والأخیرة التی تمثل الهدف الإستراتیجی والنهائی لمن قاموا بوضعها، ونوجزها على النحو التالی.

أولاً: مرحلة الاحتواء

وفی هذه المرحلة یتم توظیف القدرات السیاسیة والاقتصادیة والعسکریة و(السیکولوجیا الإعلامیة) لمحاصرة النظام الحاکم فی الدولة المعنیة بشکل متواصل عبر حشد الدول والأنظمة الحلیفة للانخراط فی عملیة الخنق والتجفیف لمصادر الحیاة لدیه، ومن ثم إدخاله فی مواجهة مع الشعب الذی ینهکه العزل، بینما تقوم أجهزة الاستخبارات بمحاولة الاتصال مع القوى الممتعضة والمتململة من سوء الأحوال، لتعرض علیها المساعدة للإطاحة بهذا النظام لقاء الموافقة على الاستجابة لسیاساتها.

وعادة ما یتم توظیف القنوات الدبلوماسیة لجس نبض رجال الحکم ومعرفة ما إذا کانوا مستعدین للاستجابة لمطالب هذه القوى لقاء تخفیف الضغوط عنهم أو التوقف عن مضایقتهم، کما هو الحال مع کوبا وکوریا الشمالیة وإیران وسوریة وفنزویلا وکذلک الصین وروسیا ولکن بصیغة أقل حدة نظراً لثقل الأخیرتین الذی یحد من قدرة الغرب على حصارهما بنفس القوة التی یحاصر بها الدول الأصغر، مع الأخذ بعین الاعتبار أن هذه الدول المذکورة لازالت تقاوم ولم تتمکن الدول الغربیة من احتوائها بعد ولکنها تمکنت من تحجیمها أو الحد النسبی من قدرتها ولکن بأثمان باهظة یدفعها الغرب لقاء هذا التحجیم.

ویستعمل الغرب مناورات ذکیة تقوم على اللجوء لسیاسة العصا والجزرة لکسر إرادة الأنظمة، حیث یستعمل العصا من خلال التلویح بإثارة القوى المحلیة المنافسة للنظام، إضافة إلى التهدید بإثارة بعض القضایا الحساسة دولیاً مثل حقوق الإنسان والأقلیات والمرأة والطائفیة والدیمقراطیة، من خلال طرحها على المؤسسات الدولیة التی یهیمن علیها کمجلس الأمن ومحکمة العدل الدولیة وغیرهما، وهی محافل قادرة على الطعن بشرعیة هذا النظام وتمتلک القدرة على اتخاذ قرارات قاتلة بحقه بموجب البند السابع، وفی أحیان کثیرة یتم التلویح باستعمال القوة العسکریة لإسقاطه کما حصل فی بنما وهاییتی سابقاً وفی أفغانستان والعراق لاحقاً.

أما الجزرة فإنها تتمثل بتقدیم وعودٍ بعدم اللجوء إلى أی من تلک الخیارات، والاستعداد لتوفیر مظلةٍ واقیة للنظام حتى لو قام بارتکاب هذه المخالفات فعلیاً، لاسیما أن بقاءه فی الحکم یستدعی القیام بهذه المخالفات إن لم یکن جمیعها لأنه سیضطر إلى اللجوء إلى قمع المعارضة وتزویر الانتخابات التی ستصبح شکلیة إن وجدت. عندما تعیش الأنظمة فی هذه الأجواء، فإنها تصبح محاصرة ومحدودة الحرکة وتحاول الانزواء من أجل عدم إثارة هذه القوى القادرة على إلحاق الأذى بها، وهکذا تصبح ضمن الدول التی تم احتواؤها أو تحجیم قدرتها على التصدی لسیاساته على المدیین المتوسط والقریب.

ثانیاً: مرحلة التطبیع

بعد أن تُطبخ الأنظمة على نیران فرن الاحتواء لمدة قد تطول أو تقصر حسب مدى قدرة النظام على المناورة والاحتمالن فإن الأنظمة التی تصل إلى مرحلة الإعیاء وتشعر بأنها أصبحت غیر قادرة على مواجهة شعبها الذی بلغ مرحلة التململ والاحتقان بسبب المضی قدماً فی الاستئثار بالحکم والاستحواذ على موارده ومقدراته لتمویل النظام وأعوانه من المنتفعین، فإن الشعب وقیادات المعارضة یتحولون إلى هاجسٍ أمنی مخیف یستدعی اقتطاع المزید من المخصصات لتمویل الأجهزة الأمنیة التی تتضخم على حساب الإنفاق على التنمیة والصحة والتعلیم والبنیة التحتیة، مما یؤدی إلى توتر الأوضاع عند کلٍ من الشعب والنظام، وهنا یجد الحاکم نفسه أمام خیار وحید....وهو التطبیع مع القوى الخارجیة والدخول معها فی معاهدات تؤدی إلى التنازل المتسلسل عن السیادة الوطنیة بسبب الشروط والملاحق التی تتضمنها هذه المعاهدات والاتفاقیات الثنائیة بین الضعیف والقوی، وعادة ما تشترط على الدولة المعنیة عدم القیام بأی تحالفات إقلیمیة مع القوى التی لازالت فی خانة الاحتواء وتحض نظامها على تجفیف قنوات الاتصال معها بشکل تدریجی إذا ما أراد الاستمرار فی الحصول على الدعم والتأیید فی کافة المحافل الدولیة.

ثالثاً: مرحلة التبعیة

عندما یصل النظام إلى نقطة اللاعودة مع الشعب بسبب تفاقم الأوضاع وعمق الجراح التی یحدثها فی الأمة بسبب تحویلها إلى دولة بولیسیة قمعیة تزج بالمعارضین فی السجون وتفتعل المبررات لتکمیم الأفواه وتزید نسبة الذین یعیشون دون خط الفقر وتتفاقم الأزمات الاجتماعیة إلى الدرجة التی تشعره بأن الأمور على وشک الانفلات، فإنه والحالة هذه یقوم بتسلیم دفة القیادة لهذه القوى الخارجیة التی تقوم بتحویله إلى أداة طیعة تمتثل للأوامر التی تصدرها من دون أن یلقی بالاً لتناقضها مع توجهات الأمة أو تدنیس محرماتها، ویتحول إلى موظف یعمل لدى هذه القوى التی أصبحت تتحکم بمصیره ومصیر کل القوى المحلیة التی ترعرعت کالطفیلیات فی حلقات متصلة تدور حول نظامه وتتحول هی الأخرى إلى ذراع استراتیجیة لقوى الغرب، ولکن فی عمق النسیج الوطنی للمجتمع ویتم انتقاء بعضها لیکون خلیفة للنظام الحالی إذا ما ساءت الأمور واقتضت أن یصار إلى إحالة قمة الهرم على التقاعد بسبب احتراق أوراقه محلیاً وعالمیاً.

مدى صبر الشعوب وقدرتها على التنظیم والارتقاء إلى مستوى العمل الجماعی القادر على نقلها من موقع السلبیة إلى موقع المباشرة وتطویر برنامج سیاسی واقتصادی ودستوری بدیل، مع تطویره للآلیات الذکیة القادرة على تأمین الحرکة المتواصلة الدؤوبة، إذا ما أضیفت إلى حماقات الدول الکبرى التی تستمر فی دفع النظام لتبنی المزید من السیاسات المستفزة والمذلة للشعوب سیاسیاً واقتصادیاً واجتماعیاً وروحیاً...کل هذه العوامل ومدى وتیرة تفاعلها ستکون مسؤولة عن الزمن المطلوب لتخصیب العناصر الداخلة فی عملیة التفاعل وإیصالها إلى نقطة الانفجار والتغییر.

ن/25

 

 

 

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 143006







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)