کفى نفاقا: أمریکا وإسرائیل تعرفان رئیس «مصر» القادم!
راجت فی وسائل إعلام عربیّة وغربیّة مؤخّرا شائعات حامت حول صحّة الرئیس المصری "حسنی مبارک" الذی یحکم البلاد، بقانون الطوارئ، منذ اغتیال الرئیس "أنور السادات" سنة 1981. وتعالت صیحات الفزع، هنا وهناک، تستشعر خطر الفراغ الذی یمکن أن یسببه اختفاء "حسنی مبارک" لأیّ سبب من الأسباب.
ولیس غریبا أو مستبعدا، أن تکون إسرائیل أوّل من یقف وراء تغذیة هذه الإشاعات لغایات سیاسیّة آنیّة ومستقبلیّة. فکلّ ما یعزّز الحیرة فی مصر وغیرها من الدول العربیّة، وکلّ ما یزعزع الثوابت، ویبثّ الحیرة مِنْ شأنه أن یثبّت هذا الکیان رقما صعبا فی معادلة الشرق الأوسط التی تُطبخ ببهارات تتغیّر وتتلوّن بألوان البیت الأبیض والأسود.
ولکنّ الإلحاح على دور إسرائیل فی تعاظم دائرة هذه الشائعات، وجعلها تحتلّ صدارة الصحف ونشرات الأخبار لا یستوجب بالضرورة إلغاء دور أطراف أخرى غیر بعیدة عن دائرة الحکم فی مصر، تتعامل مع ما یجری بمنطق نفعیّ ترید من خلاله إیهام الرأی العام، فی مصر وخارجها، بأن تعویض "حسنی مبارک" لیس بالأمر الهیّن، وبأنّ خروجه من الساحة السیاسیّة سیکون له أثر خطیر على منطقة الشرق الأوسط، وتحدیدا على البیت الفلسطینیّ المهدّد بالانفجار من الداخل.
والحقیقة أنّ بکائیّة "مَنْ لنا بعدک" التی ترسّخت شعارا یتحصّن حوله مریدو کلّ حاکم أمست عنصرا ثابتا فی کلّ أدبیات الأنظمة العربیّة التعبویّة التی ترسم للحاکم صورة نمطیّة تؤهّله لیخترق المُمکن الإنسانی إلى المُعجز الغیبیّ، وحتّمت أن تظلّ عملیّة انتقال السلطة، والتداول السلمی علیها فی الفضاء العربی الإسلامیّ عملیّة معقّدة تُحاط بأسوار من السریّة والتکتّم حتّى أمسى الخوض فیها مسألة مرتبطة دائما بأمن الدولة.
وإنّ ما حدث فی جنازة "عبد الناصر" من بکاء وعویل وشعور بالیتم بعد رحیل الرئیس أعطى صورة عن شعب عربیّ یؤبّد الحاکم، ویتمسّک به حبل نجاة ما دام على قید الحیاة. فتأبید السلطة ظاهرة سیاسیّة سلبیّة لکنّ الإنصاف یقضی بألّا نحمّل الحاکم وحده وزرها؛ بل لعلّ المسؤولیة الکبرى تقع على عاتق الشعب متى ارتبط وجدانیا بالحاکم- طوعا أو کرها- ولم یدرک أنّ هذا الذی یحکم- وإن کان عادلا- یجب أن یترک السلطة لغیره کی یواصل ما بدأه أو کی ینقذه من وهم الجنة التی یعیش فیها بالترقب والوعود المؤجّلة.. ورغم یقین أنصار الحاکم ومقرّبیه بأنّ خلوده فی السلطة- مهما طال حکمه- مسألة لا تتماشى وطبیعة الحیاة البشریّة وبأنّ الوقوف بعناد فی وجه الحتمیّ عملیّة انتحاریّة عاجلة أم آجلة فإنّ حرصهم على مناصبهم ومنافعهم یدفعهم إلى جعل المستحیل ممکنا.
وها هی الأخبار التی تحوم حول صحة الرئیس المصری "حسنی مبارک" تدفع باتجاه حالة من الاستنفار والترقب، وتوهم بأنّ صحّة الرئیس متى تعکّرت زلزال یمکن أن یدکّ الشرق الأوسط بأکمله!! لکن هل الدول الکبرى وفی مقدّمتها أمریکا غافلة عمّا یجری فلم ترسم بَعْدُ خارطة احتواء ما سیقع!؟
إنّ الولایات المتحدة الأمریکیّة التی لا تؤمن بالصدفة، وبقرارات اللحظات الأخیرة المرتجلة، استشعرت الخطر منذ مدّة، وحصرت دائرة اهتمامها فی أشخاص تُعوّل علیهم لمواصلة ما أنجزه "مبارک"؛ وفی الغالب هی قد حسمت أمر الخلیفة الذی یجب ألاّ یکون منبوذا من الشّعب الذی تحمّل فوق طاقته على مدى عقود، وألّا یبتعد عن سیاسة سلفه، وإن أضحت على اقتناع بضرورة تغییر الخطاب السیاسیّ فی مصر، وتطعیمه بما یحمل فی طیاته مسکّنات للوجع الذی أصاب المواطن المصری الجریح وجعله لا یرى الأشیاء دائما على حقیقتها. وما "البرادعی" فی نهایة الأمر إلّا بالون اختبار أرادت من خلاله تبیّن متى تعلّق المصریین بالتغییر حتّى وإن سار فیه الخلف على طریق السّلف. فهل هذا الفیزیائیّ أقلّ ارتباطا بأمریکا من منافسیه!!!؟؟
فی "بولونیا" الخارجة للتوّ من نظام شمولیّ محنّط، مات الرئیس وأغلب مساعدیه وکبار قادة الجیش، ومع ذلک استیقظت البلاد من حزنها وتحاملت على جراحها، وبسرعة انتُخب رئیس جدید إیمانا من الناس بطاقة البلاد الخلاقة وبقدرتها على التجدید. نحن- عامّة وخاصّة- من دون الأمم، أمّة التأبید.. نحن أعداء التجدید ولا نؤمن بالتغییر، نرسمه خفیة على شفاهنا وترتعش أیدینا عندما نباشره فلا نقوى علیه. فالشعب الذی ینادی بالتداول السلمی على السلطة وبالتغییر هو نفسه الذی یندفع بمشاعره المتأججة غضبا، وینخرط فی سب الحاکم بمجرّد تنحیته.
وما لم تتخلّص العامّة من تألیه الشخص القائد الرمز والمرجع والحاضر والمستقبل، ومن رفعه عن منزلة البشر، وما لم یقع التعاطی مع الحاکم على أنّه إنسان لا یجب أن یُعظّم عندما یکون فی السلطة، ولا یجب أن یُهان عندما یغادرها مُکرها، فإنّ مبدأ التداول السلمیّ على السلطة سیظلّ مُعطّلا إلى ما لا نهایة له، ومکبّلا بصور التاریخ المظلمة التی تکشف عن بشاعة الانتقام ممّن فقد السلطة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS