الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

العدو بحجمه الحقیقی

انطلاقاً من دوافع متعدّدة ومتنوعة یوغل بعض العرب الیوم فی ابتعادهم عن الطریق المستقیم، وفی إعلاناتهم وتصرفاتهم المنحرفة، وفی صفقاتهم المعقودة مع الصهاینة، الأمر الذی یعکس ظنونهم الآثمة بعدم جدارة الأمة بالنهوض والحیاة، وبقابلیتها للانقراض وفی جمیع الأحوال یقتضی أمر هؤلاء إلقاء نظرة خاطفة على السیاق التاریخی لمأساة الأمة العربیة وأمم العالم عموماً فی هذا العصر الصهیونی، لتقدیر ما سوف یترتّب على انحرافاتهم وصفقاتهم مع الصهاینة من نتائج.
طیلة القرون الأربعة الماضیة واظب الأنکلوسکسون البیوریتان على محاولاتهم صهینة العالم بمجمله، انطلاقاً من لندن بدایة ثمّ من واشنطن ولندن لاحقاً، وهم مازالوا یحاولون حتى الآن. ومثل هذه المحاولات تتمّ مباشرة مستهدفة أوطاناً وشعوباً محدّدة، کما حدث فی أمریکا الشمالیة بالأمس وکما یحدث فی فلسطین الیوم، أو مداورة کما هو الحال فی استغلالهم الجانب الموضوعی الإیجابی من العولمة فی تطوّرها الهائل، لتوظیف هذا التطور الطبیعی فی عملیاتهم من أجل صهینة العالم أجمع.
لقد حاول الأمریکیون اللوثریون الإنکلیز استیطان فلسطین بأنفسهم منذ العام 1840، برعایة حکومتهم، وأقاموا فعلاً عدداً من المستوطنات الإنجیلیة، لکنّ محاولاتهم فشلت تماماً، واقتنعوا بفحوى الإعلان البریطانی الذی صدر فی عهد کرومویل عام 1649، الذی اقترح استیطان فلسطین بوساطة الیهود، حیث تکرار التجربة الأمریکیة الشمالیة، التی نجحت بعد إبادة حوالی 12 ملیوناً من السکان الأصلیین، بدت غیر ممکنة فی الوطن العربی. ثمّ کان الظهور المتأخّر جدّاً للکیان الإسرائیلی الذی ظلّوا یسعون لإقامته بلا کلل على مدى ثلاثمئة عام "1649 - 1948" فبدا محاولة من المحاولات، وإن جاءت أخطرها وأفظعها.
إنّ الکیان الإسرائیلی، على الرغم من إنجازاته فی العقود الستة الماضیة، لا یزال مجرّد محاولة لم تبرهن على استقرارها وجدواها ونجاعتها، لا داخل فلسطین ولا فی محیطها العربی، وإنّه لمن المؤکد أنّها ما زالت قابلة للانکفاء والتقویض، بدلیل أنّ الولایات المتحدة اضطرت مؤخّراً إلى أن ترمی بکلّ ثقلها السیاسی والإعلامی والعسکری فی المنطقة العربیة، متدخّلة مباشرة فی کلّ شؤونها الکبیرة والصغیرة، بما فی ذلک شؤون الکیان الإسرائیلی الذی کان المفترض به أن یغنیها عن الحضور والتدخّل المباشر، فخسر هذا الکیان هامشاً مهمّاً من حرّیة حرکته الذاتیة التی تمتّع بها إلى حین، وجرى دمجه فی العملیات الأمریکیة ووضعه تحت إشراف وأوامر قائد المنطقة العسکری الأمریکی.
والحال أنّ عدم رؤیة الصهیونیة غیر الیهودیة فی مستواها الأعلى، وفی شمولیتها وتعدّدیتها، أحدث بلبلة واسعة فی البلاد العربیة وفی العالم عموماً، وخلق إشکالیات مفتعلة معقّدة، ومظلمة مطلسمة، نجم عنها "عربیاً وإسلامیاً" هدر جهود عظیمة وأزمنة طویلة، حیث التشکیل الصهیونی الیهودی هو فی الحقیقة والواقع فرع من الصهیونیة الأعلى غیر الیهودیة، وهو یعود إلیها بوجوده ولیس العکس.
إنّ الصهیونیة غیر الیهودیة، التی لا تشکّل الصهیونیة الیهودیة سوى فرع من فروعها "الفرع الأقوى والأهمّ طبعاً" هی بالضبط الرأسمالیة/الإمبریالیة الاحتکاریة الربویة. ولکن من المعروف أنّ هناک من یخشى ویتجنب رؤیة العدو بحجمه الحقیقی، فیجنح غریزیاً نحو رؤیته مقتصراً على یهود الکیان الإسرائیلی المدعومین من یهود العالم والمسیطرین على أهمّ المواقع فی هذا العالم، کما أنّ هناک من یدأب على فضح مؤامرة یهودیة مستمرّة عبر العصور، منذ آلاف السنین وإلى الأبد، تستهدف جمیع الأمم، وإنّ مثل هذا الرأی یستبعد بدوره رؤیة العدو بحجمه الطبیعی، وهو یؤدّی بداهة إلى الضیاع.
ولکنّ عدم رؤیة العدو بحجمه الطبیعی، وعدم التعامل معه باسمه الحقیقی وعنوانه الحقیقی، لا یقلل أبداً من حجم فعالیته العدوانیة، کما رأینا فی الحربین الأخیرتین ضدّ لبنان وقطاع غزّة، حیث حضر حلف شمال الأطلنطی بقضّه وقضیضه ممثلاً بالإسرائیلیین وتحت رایاتهم، أی أنّ الأمة العربیة تتعرّض لفعالیات النظام الرأسمالی الربوی الصهیونی العالمی ولیس لفعالیات الکیان الإسرائیلی الذی هو مجرّد دولة حدود، ومهبط طائرات، ومحطة إنزال، وقاعدة أمامیة متصلة اتصالاً یومیاً وثیقاً بمصادر إمدادها الأطلسیة. إنّ الفعالیة العدوانیة، العسکریة وغیر العسکریة، للقاعدة الإسرائیلیة کانت وما زالت وسوف تبقى فعالیة مراکز الإمداد الأطلسیة الضخمة، سواء رأینا هذه الحقیقة واعترفنا بها أم تجاهلناها خوفاً من حجمها.
إنّ الاعتراف بالحجم الطبیعی الحقیقی للعدو الذی تواجهه الأمة العربیة یمکّننا من قیاس مقدرة هذه الأمة على التحمّل والمقاومة وإحراز النصر، وإنّها لمقدرة معقولة جدّاً قیاساً بحجم الضغط والتضلیل العالمی والاضطهاد والتعطیل الداخلی. وفی المقابل یمکننا أن نتفهّم تلک البلبلة التی شاعت، وما ترتب علیها من انکفاء معنوی، والتی نجمت عن اقتناع الکثیرین خطأً أنّ الأمة تواجه الکیان الإسرائیلی وحده، وأنّ الخصومة تقتصر علیه وحده: کلّ مئة عربی یواجههم وینتصر علیهم إسرائیلی واحد فقط، تقریباً، أی أنّ عدم رؤیة العدو بحجمه الطبیعی الحقیقی قلّص حجم الأمة العربیة وقزّمها إلى مستوى الکیان الإسرائیلی، بل إنّ هذا الکیان "الصغیر، الحدیث، المحاصر، الشجاع، التقدمی!" بدا راجح الکفة دائماً فی مواجهة أمة ضخمة، عریقة أو عتیقة، هی فی مستوى الأمة الأمریکیة من حیث الحجم البشری.
بناءً على ذلک فإنّ رؤیة العدو بحجمه الطبیعی الحقیقی لا تزید فی عذابات الأمة وفی مقدار تضحیاتها، بل تختصرها وتجعلها مجدیة، کما حدث فی العراق ولبنان وفلسطین مؤخراً، أمّا العکس فیترتب علیه العکس، حیث الأمم مثل الأفراد لا تهزم وتباد إلا من داخلها.
إنّ البعض، بسبب ما یحدث الیوم فی العراق وفلسطین خصوصاً، یعتقد أنّ الأمة العربیة على طریق الاضمحلال والزوال. یقال: إنّ العدو یستلّ روح الأمة، وهی تلفظ آخر أنفاسها فإذا کانت صهینة البلاد العربیة قدراً لا مفرّ منه، حسب هذا البعض، فلیبرهن بالوقائع على ما یؤکّد ذلک، کی یقرّر الناس مصائرهم، فیهاجر من یهاجر ویتکیّف من یتکیــــّف وینـتحر من ینتحر!
ولکنّ الأکثریة الساحقة، المکمّمة المکبّلة المعذبة، لا تشارک هذا البعض اعتقاده، وإن أقرّت أنها تعانی أشدّ المعاناة، والفارق کبیر وحاسم بین من یعتقد أنّ أمته تحتضر مستلقیة، وبین من یعتقد أنّها تعانی متأهبة، حیث الاحتضار السریری یفضی إلى الموت، أمّا المعاناة المیدانیة فهی الثمن الواجب الأداء للخلاص المؤکد.

نصر شمالی
ن/25
 


| رمز الموضوع: 142996







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)