طفولة مقدسیة مقاومة

فی فلسطین یعیش الشعب بکافة مکوناته العمریة جرم الاحتلال وحجم مخططاته ومسارات مستقبله الغامض، فترى وفق ذلک أشکال المقاومة المختلفة التی تتناسب مع کل فئة بحسب طاقتها وقدرتها وما یناسبها.

فی سجن تلموند الإسرائیلی جمعت الصورة وتشکلت کأنها فلم وثائقی احتضن فی روایته التاریخ والمشهد المصور، الذی عبر عن الحالة الوطنیة الکفاحیة دون تدخل ولا تکلف مونتاج ولا تحریف صور.

عشنا فی ذلک السجن نتوسط قسم للنساء وآخر للأطفال نشترک جمیعا أمام المحاکم الإسرائیلیة بتهمة مقاومة الاحتلال.

فترى من بین النساء مقاتلة حملت السلاح أو خبأت فی بیتها مقاتلا أو علمت الجیل ثقافة العیش بکرامة تحت سطوة الاغتصاب للحلم، لیشترکن بذلک مع فعل الرجال بل یزدن علیه من خلال حرب الدیموغرافیا والتکاثر والوجود، الذی یفشل حلم إسرائیل بجعلنا أقلیة منهکة متعبة.

فی رکن المجتمع الثالث والذی کان یقتسم معنا الحالة ذاتها من النضال، کان یبدع رغم طفولته نسج مقلاعه وتکوین حجارته التی ینحتها لتتناسب مع صغر کفیه لیعزف بطریقته شکل المقاومة التی یستطیع.

فی حیاة المعتقل یدهشک حجم الثقافة التی تکتنز فی عقلیة الطفل عن القضیة الفلسطینیة ویهزک أکثر القناعة الملائکیة الصغیرة المطلقة حول القدرة على الفعل والمواجهة.

أذکر من بین من التقینا شبل لم یتجاوز 15 عاماً، فی أجواء محاکمته یطلب قاضی المحکمة منه الاعتذار للجندی الذی أصابه حجر کی یتم الإفراج عنه. المحامی وأهل الطفل رجوه فعل ذلک کی ینجو من شهور الاعتقال المتوقعة، موقف الطفل کان عکس الطفولة المألوفة التی تختبئ ساعة الخوف وتسارع دوما إلى الاعتذار، لیرد على القاضی هل یعتذر الجندی عن قتله أبناء شعبی؟ إن فعل ذلک فعلت، ساعتها شوهد القاضی یبتسم غضبا ویتلون وجهه من شدة ما سمع.

فی متابعتی قبل أیام للأوراق الإسرائیلیة التی بث إعلامها بعض اللقطات لمهرجان طفل الأقصى الذی تقیمه الحرکة الإسلامیة رکزت الصور على طفل لم یتجاوز العام تحمله أمه وعلى عاتقها وشاح أخضر ویلتف على جبینه الأشقر وشاح القدس ویصطف خلفه أکثر من 20 ألف طفل یهتفون "بالروح بالدم نفدیک یا أقصى".

الأطفال هؤلاء لم یأتوا من غزة ولا من جبل النار ولا من جنین، کما قال مراسل القناة العاشرة، بل جاؤوا من أبو غوش، الناصرة، حیفا، یافا، عکا، من أم الفحم... أی من المناطق التی حاولت إسرائیل صهر ثقافة ساکنیها وتحویلهم إلى یهود ثقافة وانتماء.

فی کلمة الشیخ کمال الخطیب والتی حوت فیها رسالة للشیخ رائد صلاح الممنوع من دخول المسجد الأقصى والذی ما إن ذکر اسمه حتى وقف الأطفال یکبرون ویهتفون باسم الشیخ الذی بات حاضرا فی ثقافة الصغار والکبار من خلال شعاره القدس فی خطر، لیصبح الیوم ثقافة الجیل الذی أرید له الموت مع ثقافة التاریخ والحقوق. ما شاهدته عبر الشاشة من الجیل القادم أبعد من المظاهرة والتضامن وهذا الذی جعل مذیع القناة یتدخل فی مشهد الصور ویقول هذا الحدث هو تعبئة على الکراهیة وتحریض على العنف.

المعضلة الإسرائیلیة فی عدم الفهم أن المشکلة التی تعتری وجودها لیس فی نشاط الحرکة الإسلامیة أو فی جهد الشیخ رائد وإخوانه أو فی قوى المقاومة، بل هی فی السلوک الصهیونی الذی لا یرى سوى قدرته على الفتک والقتل والاحتلال والمس بالمقدسات. هذا السلوک هو الذی یحمل الطفولة الهادئة البریئة على غضب مقاتل یحمی زینة المرح الصغیر والأمل بالحیاة.

فی مهرجان شبل القدس یحرص الطفل على اقتناء حصالة یجمع فیها نصف مصروفه على طول العام لیهدیها فی هذا الیوم للمسجد الأقصى لترمیمه وإعماره وحراسته. هذه الحصالة فی أثرها تفوق کم الصنادیق الرسمیة المدعاة التی تشرف علیها الدول العربیة ولا یجد المقدسی لها أثراً فی القدس ولا فی حمایة المسجد الأقصى.

فی مفارقة المشهد یحزنک کم الملایین المبعثرة فی الوطن العربی على الشهوات والترف الهابط ویسرک فی الأمة شبل مقدسی یسرق من طفولته لذة "الزواکی" لیضعها فی حکایة التحرر وثقافة المقاومة لأکبر مشروع احتلالی عرفه الکون.

ن/25