العرب بین ترکیا وإیران... ما الموقف
العرب بین ترکیا وإیران... ما الموقف
الکاتب اللیبی فرج بو العَشّة
إن العرب إما أن یقودوا منطقتهم متوحدین فی مشروع حضاری جامع، أو أن یکونوا خارج التاریخ. أی مجرد أدوات فی لعبة الأمم الکبیرة، سواء التی من حولهم أو تلک البعیدة ما وراء البحار والمحیطات. عندما کان العرب، قبل الإسلام، قبائل متشرذمة خارج التاریخ، لکل قبیلة إله خاصتها، أذلهم ملوک الأحباش واستخدمهم الروم والفرس أدوات لصراعهما على المنطقة العربیة. فکان فریق منهم عمیلا للروم والآخر عمیلا للفرس. ولم یدخلوا التاریخ إلا عندما توحدوا فی مشروع حضاری جامع تحت عنوان الإسلام. به تمکّنوا فی سرعة تاریخیة خاطفة من طرد الروم حتى أسوار القسطنطینیة، والقضاء نهائیا على عرش الأکاسرى ومن ثم دخول أهل فارس فی الإسلام لیصیروا إخوة فی الإسلام، حیث 'إنما المسلمون إخوة'. ونتیجة لما اعترى العرب، عماد السلطة الامبراطوریة، فی نهایات انحطاط الدولة العباسیة، من ترف ودعة واستهتار بالمشروع المحمدی الحضاری، أخذ الفرس مقالید السلطة، فی العهد البویهی، بحیث کان الخلفاء العباسیون مجرد واجهة سیاسیة لحکمهم، الذی دام قرابة قرن ونصف القرن (320 - 447هـ/932 - 1055). وکان من أبهى عهود الحضارة الإسلامیة. فالبویهیون وإن کانوا من أصول فارسیة إلا أنهم حکموا الامبراطوریة العباسیة بصفتهم مسلمین من رعایا امبراطوریة الإسلام شمالة الأعراق والثقافات. ولما وهنت شوکتهم آل حکم الامبراطوریة العباسیة إلى السلاجقة، وهم من أصول ترکیة. وقد أعلن ثالث حکامهم رکن الدین طغرل بک بن سلجوق نفسه حامیا للخلافة العباسیة وخلع علیه الخلیفة لقب السلطان. وبعد السلاجقة آل حکم الدولة الإسلامیة إلى الأیوبیین فالممالیک. وهم جمیعهم فی دورات حکمهم للدولة الإسلامیة کانوا یحکمون بصفتهم مسلمین ولیسوا أعراقاً دخیلة أو مستعمِرة. ولما وهنت شوکة الممالیک جاء الأتراک، کفاتحین ولیس غزاة، فی رداء العثمانیین بعد استیلائهم على القسطنطینیة، وضموا أمصار العرب ولایات تابعة لإمبراطوریتهم الإسلامیة العظمى. ولما وهنت شوکة امبراطوریتهم العظیمة بعد قرون من الهیمنة العالمیة وتفککها انفصالیاً، استولى الاستعمار الغربی على الإیالات العربیة مستخدمین العرب لمحاربة الخلافة العثمانیة، بحسبان الأتراک دخلاء مستعمرین یقفون حائلا بین العرب واستقلالهم وبناء مملکتهم العربیة الکبرى. فکانت مسخرة 'الثورة العربیة الکبرى' التی أفضت إلى سایکس ـ بیکو ووعد بلفور وایجاد إسرائیل.
والحال أنه، بعد خصم دور الرواد العظام فی إبداع عصر النهضة العربیة، وبعد خصم محاولة النهوض القومی الناصری المُجهضة بهزیمة 5 حزیران/ یونیو 67، وبعد خصم إضاءات حرکة تحریر الجزائر الأسطوریة وحرکات المقاومة الحیّة فی فلسطین ولبنان، وبعد خصم حرکة الحداثة العربیة الأصیلة، فإن ما لدینا الیوم، فی الواقع العربی التاریخی الجاری، صورة مُقرَّبة لانحطاط أمة بوسع قارة متشرذمة إلى أنظمة، فی معظمها حتى لا نعمم، مستبدة بشعوبها من جهة، وخانعة، من جهة أخرى، للروم الجدد وشایلوکهم الصهیونی.
فی هذا الواقع العربی المزری، یظهر من صوب الإعلام العربی المنطوی على هوى عبری، معلقون ومحللون یمتلکون قدرة خارقة على الصفاقة فی الترویج للروایة الإسرائیلیة من حیث توصیف إیران کخطر على العرب أکثر من إسرائیل. وهم یقیّمون الدور الترکی الداعم للقضایا العربیة، وفی القلب منها القضیة الفلسطینیة، على أنه تنافس فارسی ـ عثمانی للسیطرة على القرار العربی (وکأن هناک قرارا عربیا حقاً).
وتعکس هذه الاراء، التی تروجها وسائل إعلام أنظمة الاستبداد والتبعیة، سیاسة ما یسمى بـ 'محور الاعتدال'، الذی هو فی الحقیقة محور مناعمة (من نعم). بمعنى مناعمة أنظمة هذا المحور لما تطلبه أمریکا (إسرائیل ضمنیاً) منها کی تنال رضاها عن حکمها وتسکت عن استبدادها بشعوبها. وما تطلبه واشنطن، فی هذه المرحلة، وبالدرجة الأولى، یترکز على استعداء العرب ضد الإیرانیین، بوصفهم (عرقیاً) فرساً ومجوساً، واستعدائهم (مذهبیا) بوصفهم شیعة روافض. وهم فی الحقیقة التاریخیة إخوة فی الإسلام، حیث 'إنما المسلمون إخوة'، بغض النظر عن خیاراتهم المذهبیة والسیاسیة التى ارتضوها لأنفسهم. أما ترکیا أردوغان فهی، عند جوقة المانعمین، صاحبة مشروع عثمانی جدید یستهدف الهیمنة على الأمة العربیة (وکأن شأن الأمة العربیة یعنی هؤلاء حقاً!)، أو هی، بتعبیر آخر من لدن هؤلاء، ترید إحکام نفوذها السیاسی فی قضایا الشرق الأوسط للحصول على أوراق ضاغطة لأجل کسب عضویتها فی الاتحاد الأوروبی (وکأن لیس من حق ترکیا وهی الأمة المسلمة أن یکون لها نفوذ ومصالح مشروعة فی مجالها العربی ـ الإسلامی، بینما وصلت الهیمنة الصهیوأمریکیة على عرب الخنوع والتبعیة إلى درجة غزو الجیوش البوشیة العراق من أراض عربیة، بینما رفضت ترکیا مرورها من اراضیها، وهی العضو البارز فی حلف الناتو).
إن موقف العرب الصحیح یفترض، لو أن أنظمتهم تمثیل لإرادتهم (کما هو الحال فی ترکیا وإیران) الترحیب الموضوعی، بلغة المصالح المشترکة وضرورات الأمن القومی العربی، بقوتین إقلیمیتین لا یمکن لهما أن تکونا عدوتین، لأنهما إخوة للعرب فی الإسلام. وذلک لیس مجرد کلام عاطفی منثور للشکر والعرفان. إنما تبن موضوعی لمدخلات التاریخ ومخرجاته المشترکة بین العرب والفرس والترک فی بوتقة الإسلام الحضاری. وفی رأیّ أن أنظمة المانعمة للمشروع الصهیوأمریکی لن تنجح فی تعمیة وعی الشعوب العربیة، بلغة الفتنة الطائفیة، ودغدغة النوازع القطرویة على مبدأ 'مصر أولاً ... الأردن أولاً ... السعودیة أولاً.. لبنان أولاً ..إلخ' للتنصل من قضایا الأمة العربیة والإسلامیة، التی تقف منها إیران وترکیا موقف المدافع والمؤازر.
وفی الختام فإن تلک الأنظمة، المستبدة بشعوبها والخانعة للسید الأمریکی، بجوقتها الدعائیة المتصهینة، مقبلة، أکانت تدرک أو لا تدرک، على نهایة حقبة الاستبداد والتبعیة فی غضون عقد قادم (بالکثیر!!!). وأخص هنا مصر (ففی نهوضها نهوض للعرب وفی هوانها هوان لهم). إذ لسوف تصبح مصر، فی المستقبل المنظور، فی عهدة نظام وطنی دیمقراطی، لا یفهم لمصر دوراً إلا بما هی قائدة لأمتها سیاسیاً ورائدة لها حضاریاً (ولن یکون رئیسها البیه بواب معبر رفح)... عندها سیقع تقییم دوری ایران وترکیا، من منظور الأمن القومی العربی، بحسبانهما قوتین إقلیمیتین کبریین مضافتین لقوة العرب الناهضة بفضل أنظمة وطنیة دیمقراطیة تستمد شرعیتها من رضى شعوبها عنها ولیس من رضى البیت الأبیض عبر تل أبیب...
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS