أمیرکا لن تستطیع اجبار إسرائیل !
محمد قبرطای
فی الکلمة التی ألقاها دیفید أوین وزیر خارجیة بریطانیا الأسبق فی الجامعة الأمریکیة فی القاهرة التی أثارت سخط مستمعیه المصریین قال أوین "إن مصر انهزمت فی حرب 73 ولکنها استردت أراضیها بالوسائل الدبلوماسیة، فإذا أردتم القول بأنکم انتصرتم فإنه کان انتصاراً غریب الشأن، لأن الدبابات الإسرائیلیة کادت تصل إلی القاهرة".
بالطبع غضب مستمعوه المصریون من هذا التصریح لأنهم لم یطلعوا علی حقیقة ما جری، بل ابتلعوا الطعم الذی قدمته إلیهم أجهزة الإعلام المصریة التی نسقت أسطورة الانتصار علی الشکل الذی یروقها. وبالعکس کانت لدی دیفید أوین معلومات أشمل وأدق من مصادر قویة وموثوقة.
الأهم من ذلک هو أن أوین أشار إلی أن مصر استرجعت أراضیها بالوسائل الدبلوماسیة، أی عن طریق الزیارة التی قام بها الرئیس محمد أنور السادات إلی القدس التی ألغت کل ما تعهد به سلفه جمال عبد الناصر بأنه لن یتم أی صلح أو اعتراف أو مساومة مع إسرائیل، وأنه لا یمکن للعرب أن یسترجعوا ما أخذ منهم بالقوة إلا بالقوة.
من المؤکد أن السادات حاول قبل الإقدام علی المغامرة التی دفع حیاته ثمنها لها أن یضغط علی أمریکا کی تضغط علی إسرائیل لتتخلی عما کسبته فی الحروب فرفضت أمریکا أن تتدخل لصالح مصر وقالت لها إن ما أخذ بالقوة لا یسترجع إلا بالقوة أو بالمفاوضات المباشرة. وفی المیدان یکرم المرء أو یهان. فقال السادات: لکننا نجد أنکم تقفون إلی جانب إسرائیل کلما حاربناها. فأجاب المسؤولون الأمریکیون: نحن لا نرسل جنودنا لتحاربکم إلی جانب إسرائیل؛ نحن نرسل إلیها ما تطلبه من الأسلحة، بینما أنتم تتزودون بالأسلحة من عدونا الاتحاد السوفییتی؛ فالحرب بینکم وبین إسرائیل لیست مجرد اختبار لقوتکم تجاه قوتها، بل هی أیضاً حقل تجارب لاختبار قوة أسلحتنا مقابل الأسلحة السوفییة التی تستعملونها.
أدرک السادات أنه لا بد بعد فشله فی الحرب "بالرغم من ادعائه بالانتصار" من التفاوض مع إسرائیل وهکذا کان.
النقطة الهامة الوحیدة فی محاضرة أوین هی قوله: "إن أمریکا لن تستطیع أن تجبر إسرائیل علی فعل أی شیء".
إن هذا رأی غریب! فکیف لا تستطیع أمریکا "التی أسست إسرائیل وقامت بحمایتها دبلوماسیا وبواسطة استعمال "الفیتو" لنقض أی مشروع قرار عُرض علی الأمم المتحدة ضد إسرائیل" أن تجبر هذا "الولید القمیء" علی الرضوخ لمشیئتها؟ لکن هذا هو الأمر الواقع. فأمریکا لیست عاجزة عن قهر إسرائیل وإخضاعها لإرادتها لو توحدت الإرادة لدی الأمریکیین، ولکن هذه الإرادة منقسمة والقسم الأکبر یؤید إسرائیل ویصر علی أنها وجدت لتبقی رغم أنف العرب.
ویبرر هذا الجانب المتحیز لعدونا دعواه بالادعاء بأن إسرائیل تشبه أمریکا فی کل شیء. فالأمریکیون جاؤوا من أوروبا وأبادوا الشعوب الأصلیة فی القارة واحتلوا أراضیهم التی کانت جرداء بائرة فأصلحوها وجعلوها قادرة علی أن تطعم شعبهم وشعوبا أخری؛ وبالمثل یزعم هذا الفریق المؤید لإسرائیل أن الیهود "المتحضرین" جاؤوا إلی بلد خال من السکان، إلا من بعض البدو "المتخلفین"، فجلبوا إلیها "انقلاباً حضاریاً" علی أسس دیمقراطیة، تماما مثل أمریکا.
مما تقدم یتضح أنه ولو کانت فی "ید أمریکا تسعة وتسعین بالمئة من أوراق الحل"٬ کما کان یردد السادات٬ فإنها لن تستعمل ورقة واحدة لصالح العرب، بل ستستعمل، واستعملت، کل أوراق الحل لصالح إسرائیل.
فقد طوَّعت کل الدول العربیة المجاورة والبعیدة، وأجبرت منظمة التحریر الفلسطینیة علی طأطأة رأسها ودوختها بمناورات مدرید وأوسلو وکامب دیفید وبکل الوسائل الکثیرة المتوفرة لدیها لتعلن أن کل ما فات قد مات، وأصبح "کادوک"، أی فی خبر کان. وها هی ترقد فی قُن رام الله لترقب عن کثب إسرائیل وهی تهوَّد القدس بعد أن دمرت جنین وغزة وعشرات من مدن وقری فلسطین ولیس بیدها سلاح رادع سوی الشجب والتندید الذی لا یجدی ولا ینفع.
الحل الذی لا بد من العودة إلیه هو الرجوع إلی استعمال سلاح مقاطعة إسرائیل وکل من یتعامل معها. فقد کان هذا السلاح یسبب وجعاً شدیداً للکیان الصهیونی وکل محازبیه ویجعلهم یصرخون من الألم حتی کفروا بإسرائیل عندما قطعت السعودیة عنهم النفط.
الحلول السلمیة "أو المسماة السلمیة" جربناها کلها- من خطة الرئیس الأمریکی الأسبق رونالد ریغان التی تحولت إلی خطة الملک فهد٬ إلی مختلف أنواع وأشکال المفاوضات- فلم تحقق ما هو مطلوب لدی العرب.
فی مؤتمر الرباط لسنة 1974 قررت القمة إعادة مسؤولیة تحریر فلسطین إلی الفلسطینیین؛ فتم الانفصال بین فلسطین "الضفة الغربیة" وبین الأردن. ولکن السلطة الفلسطینیة لم تحقق الأمل الذی کان معقودا علیها، فلم تنفع نفسها ولا جیرانها٬ بل أخذ بعض أقطابها یروجون خطة شارون "الذی ما زال غائبا من الوعی فلا هو میت ولا هو حی" وهی خطة الترانسفیر، أی تفریغ فلسطین کلیاً من العرب وقذفهم إلی المملکة الصحراویة المجاورة- الأردن. فهل من أجل هذا کافح الشعب الفلسطینی طوال ثلاثة أرباع قرن؟ وهل من أجل هذا ضحت دول الجوار بالأرواح وماء الوجه؟
یتحدثون هذه الأیام عن انتفاضة ثالثة. فما معنی کلمة "انتفاضة"؟ إذا راجعنا القاموس نجد أن کلمة "انتفض" تعنی "اهتز". فی سنة 1932 التی وُلدت أنا فیها حصلت هزَّة فی الأردن دفنت عمال مناجم الفوسفات فی ضواحی مدینة الرصیفة التی تبعد عن العاصمة عمان عشرین کیلومترا فحسب٬ ثم توقفت بعد ربع دقیقة وعادت الأمور فی البلاد إلی أحوالها العادیة؛ کذلک الانتفاضات "الهزات" الفلسطینیة، فقد أزعجت إسرائیل کما تزعج المرء ذبابة ولکن عندما "تکشها" تعود الأمور إلی نصابها وکل شیء "کادوک فی کادوک".
یجب أن یقوم الفلسطینیون بحرکة أقوی ألف، بل ملیون، مرة من مجرد انتفاضة، ففی الزمان الغابر کان قتل الریاضیین واختطاف الطائرات بل والسفینة "أکیلی لاورو" والضرب الذی یوجع ملء أعمدة الصفحات الأولی من الجرائد وتحتل المقدمة فی نشرات أخبار الرادیو والتلفزیون.
والله زمان یا سلاحی! أین نشامى هذا الزمان؟!.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS