الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الدیمقراطیة الفلسطینیة مؤجلة إلى إشعار آخر

بقلم نقولا ناصر
بالرغم من الدعوات المتکررة إلى عدم إجراء الانتخابات المحلیة الفلسطینیة فی ظل الانقسام السیاسی والانفصال الإقلیمی وما تمخض عنهما من نتائج سلبیة ملموسة على الحریات العامة، المحدودة أصلا فی ظل الاحتلال، کررت الرئاسة الفلسطینیة ومنظمة التحریر وحکومة سلطة الحکم الذاتی فی رام الله والفصائل المؤتلفة فی إطارها وبخاصة حرکة فتح الإصرار على إجرائها باعتبارها استحقاقا دستوریا ومطلبا سیاسیا وحاجة خدمیة، کما قالوا جمیعهم، لا علاقة لها بالتوافق الوطنی والمصالحة السیاسیة.
لکن بعد ثلاثة أیام فقط من بیان رسمی أصدرته حکومة د. سلام فیاض بعد اجتماعها الأسبوعی برام الله فی السابع من الشهر الجاری کرر التأکید على إجراء هذه الانتخابات فی موعدها المقرر فی السابع عشر من الشهر المقبل، قررت هذه الحکومة نفسها بناء على مرسوم رئاسی تأجیلها إلى إشعار آخر غیر مسمى بینما رفض د. غسان الخطیب رئیس المرکز الإعلامی الحکومی الحدیث عن أسباب هذا الانقلاب المفاجئ فی الموقف، فی تخبط أصبح مألوفا فی القرار السیاسی لمنظمة التحریر وحکومتها یقدم مثالا جدیدا على أن الدیمقراطیة الفلسطینیة سابقة لأوانها فی ظل الاحتلال وأنها سوف تظل مؤجلة إلى إشعار آخر طالما ظل الاحتلال قائما.
وکما فی العراق کذلک فی فلسطین، وفی تزامن لافت للنظر، رفعت الإدارة الأمیرکیة فی عهد الرئیس السابق جورج دبلیو. بوش شعار "الدیمقراطیة" مدخلا یسوغ تغییر الأنظمة السیاسیة بالقوة القاهرة، لکی تستخدم الشعار والنظام الجدید معا آلیتین فی خدمة الاحتلال، لإطالة عمره وتجمیل صورته.
وفی فلسطین بخاصة کان تغییب المؤسسات التمثیلیة للشعب الفلسطینی شرطا مسبقا أساسیا لتمریر اتفاقیات أوسلو، وطبقا لهذه الاتفاقیات تم النص على إجراء انتخابات تنبثق عنها مؤسسات تکون مرجعیتها هذه الاتفاقیات نفسها ولیس منظمة التحریر الفلسطینیة أو میثاقها، لا بل جرت محاولة تغییر میثاق المنظمة لینسجم مع هذه الاتفاقیات، لتتحول هذه الانتخابات والاتفاقیات نفسها إلى مصدر لشرعیة القیادات الفلسطینیة بدل "الشرعیة الثوریة" لمنظمة التحریر المفترض أنها مستمدة من "التحریر" والمقاومة.
ومن الواضح أن هذه "الدیمقراطیة الانتخابیة" لا علاقة لها بأی نظام دیمقراطی أو بالدیمقراطیة کطریقة حیاة، بل هی مجرد آلیة من آلیات إضفاء شرعیة على الوضع الفلسطینی الشاذ الذی انبثق عن اتفاقیات أوسلو، وعلى رموزه وقیاداته، غیر أن المفارقة أن المهندسین الأمیرکیین لهذه الدیمقراطیة الشکلیة "الانتخابیة" سرعان ما کانوا ینقلبون علیها، هم ووکیلهم الإقلیمی الإسرائیلی، عندما لا تعود تخدم مصالحهم.
وربما لا یعرف الجیل الجدید من الفلسطینیین، على سبیل المثال، ما انتهت إلیه أول انتخابات محلیة جرت فی ظل الاحتلال عام 1976 عندما کان مصیر القادة المنتخبین فیها إما الشهادة أو الإعاقة أو الاعتقال. لکن هذا الجیل ما زال یعیش مع تجربة المجالس البلدیة التی تمخضت عنها الانتخابات المحلیة الثانیة التی جرت لأول مرة بعد حوالی ثلاثین سنة عام 2005، فتحت ضغوط الدول المانحة الراعیة لهذه "اللعبة الانتخابیة" والتی لا ترید وصول أموالها إلى مجالس بلدیة غیر مرغوب فیها سیاسیا تم حل بعضها بذرائع مختلفة واعتقلت دولة الاحتلال الإسرائیلی وسلطة الحکم الذاتی الفلسطینیة الکثیر من أعضائها المنتخبین "لأسباب أمنیة".
لکن الانقلاب على نتائج الانتخابات التشریعیة التی جرت أوائل عام 2006 یظل المثال الصارخ الأوضح على الانفصام بین أی انتخابات فلسطینیة وبین الدیمقراطیة کنص ومؤسسات وروح وطریقة حیاة، ففی الأحوال الدیمقراطیة العادیة المعروفة لا یستخدم الحصار العسکری والاقتصادی والاستقواء بالأجنبی لمنع تبادل السلطة عبر صنادیق الاقتراع، کما حدث بالضبط فی تلک الانتخابات التی جرت على کل حال متأخرة عن استحقاقها ست سنوات فی تجاهل لکل القیم الدیمقراطیة وبذرائع شتى، ومثلها الانتخابات الرئاسیة، علما بان الانتخابات الرئاسیة والتشریعیة الأولى بعد اتفاق أوسلو فی سنة 1996 جرت على أساس الإقصاء السیاسی للمعارضین لأوسلو واتفاقیاتها أو على أساس مقاطعتهم لها بحیث کانت انتخابات للون السیاسی الواحد کانت نتائجها محسومة ومعروفة سلفا فی ظل غیاب أی منافسة حقیقیة فیها.
فی عددها الصادر فی نیسان/ أبریل عام 2008 نشرت مجلة "فانیتی فیر" الأمیرکیة تقریرا کتبه دیفید روز بناء على وثائق سریة حصلت المجلة علیها یبین أن کل المشارکین فی "عملیة السلام" لم یکونوا معنیین حقا بالدیمقراطیة بل بانتخابات شکلیة تفرز شرعیة ولو شکلیة یتم إضفاءها على العملیة والشرکاء فیها. وکشف التقریر أن الشرکاء الفلسطینیین والأمیرکیین والإسرائیلیین والإقلیمیین فی "عملیة السلام" کانوا متورطین فی تنظیم عملیة انقلاب على نتائج انتخابات المجلس التشریعی لسلطة الحکم الذاتی الفلسطینی التی جرت عام 2006 بالقوة المسلحة. وبعد فشل الخطة الأصلیة نتیجة لتوقیع "اتفاق مکة" الذی "أخذ إدارة بوش على حین غزة"، لجأ الأمیرکیون إلى "الخطة ب" البدیلة کما وردت فی وثیقة أمیرکیة عنوانها "خطة عمل للرئاسة الفلسطینیة" مما قاد إلى الانقسام فالاقتتال ثم الانفصال الجغرافی الراهن بین قطاع غزة وبین الضفة الغربیة.
وقد وصف الکاتب الدور الأمیرکی الذی وضع الخطتین وفرض تنفیذهما بأنه فضیحة قال إنها فی جزء منها تشبه فضیحة "إیران- کونترا" وفی جزء آخر فضیحة "خلیج الخنازیر" الکوبی. وکان هدف الخطة البدیلة طبقا لمذکرة من وزارة الخارجیة الأمیرکیة هو تمکین الرئاسة الفلسطینیة وأنصارها من حسم الصراع مع حرکة حماس الفائزة فی الانتخابات التشریعیة بنهایة عام 2007 على أن یتمخض هذا الحسم عن "إنتاج" حکومة فلسطینیة "عبر وسائل دیموقراطیة تقبل بمبادئ "اللجنة" الرباعیة" الدولیة، ثم تدعو إلى انتخابات مبکرة أو "تفرض حکومة طوارئ"، والخیار الأخیر هو ما آل إلیه الحال الفلسطینی المستمر فی الضفة الغربیة منذ ذلک الحین. وذکر تقریر "فانیتی فیر" أن مسودة أولى من "الخطة ب" تسربت إلى صحیفة "المجد" الأردنیة فی 30/4/2007 بینما کشفت صحیفة "هآرتس" الإسرائیلیة عن شحنات أسلحة سریة إلى غزة عبر مصر بمعرفة أجهزة المخابرات ألإسرائیلیة تنفیذا للخطة.
وکشف التقریر تفاصیل محاضر لقاءات بین الرئیس الفلسطینی محمود عباس وبین وزیرة الخارجیة الأمیرکیة السابقة کوندولیزا رایس فی 4/10/2006 ثم بینه وبین جاک والاس القنصل الأمیرکی العام فی القدس المحتلة بعد أسابیع قلیلة. وقد أمهلت رایس عباس أسبوعین لحل حکومة إسماعیل هنیة التی انبثقت عن الانتخابات لکنه أقنعها بتمدید المهلة أربعة اسابیع إلى ما بعد نهایة شهر رمضان المبارک. وفی نهایة المهلة قابل والاس عباس، ومما قاله القنصل للرئیس طبقا لمذکرة "نقاط حدیث" أعدتها الخارجیة الأمیرکیة وحصلت المجلة علیها: "یجب إعطاء حماس خیار واضح، وموعد نهائی واضح... فإما یلتزموا بحکومة جدیدة تلتزم بمبادئ الرباعیة، أو یرفضونها. ویجب أن تکون النتائج المترتبة على قرار حماس واضحة أیضا: فإذا لم توافق حماس ضمن الوقت المقرر، یجب علیک أن توضح نیتک بإعلان حالة طوارئ وتألیف حکومة طوارئ ملتزمة بذلک البرنامج".
وقبل ذلک أوضح التقریر أن بوش فرض الانتخابات على الفلسطینیین. ونسبت المجلة إلى مفوض الإعلام الحالی فی اللجنة المرکزیة فی حرکة فتح محمد دحلان قوله: "الجمیع کان ضد الانتخابات، الجمیع باستثناء بوش. فبوش قرر: أنا بحاجة إلى انتخابات. أنا أرید انتخابات فی السلطة الفلسطینیة"، مضیفا أن الجمیع فی الإدارة الأمیرکیة تبعوا بوش وبدأوا یزعجون عباس بإلحاحهم قائلین له إن "الرئیس یرید انتخابات، لکن "حسنا، لأی هدف؟" وقال دحلان إنه "حذر أصدقاءه فی إدارة بوش بأن فتح لم تکن مستعدة لانتخابات فی کانون الثانی/ ینایر" عام 2006.
ویبدو أن التاریخ الأمیرکی مع الرئاسة الفلسطینیة والدیمقراطیة یکرر نفسه فی عهد إدارة باراک أوباما. فالانتخابات تجری إذا أفرزت من یتساوقون مع الخطط الأمیرکیة ـ الإسرائیلیة، أو لتستمر حالة الطوارئ وتعیین الحکومات والمجالس البلدیة، لأن حرکة فتح لیست مستعدة بعد للفوز فی الانتخابات، وهذا السبب هو الذی یکاد یجمع علیه المراقبون والمحللون ووسائل الإعلام لتأجیل الانتخابات المحلیة الفلسطینیة، مع أن السبب الذی تکرر الرئاسة وحکومتها وفتح ذکره هو ضغوط عربیة وغیر عربیة من أجل تأجیلها لتسهیل عملیة المصالحة الفلسطینیة.
ویلفت النظر هنا أن هناک "شماعة عربیة" أصبحت متوفرة باستمرار لتعلیق کل ما یخالف إجماعا أو شبه إجماع فلسطینی علیها، فقد استخدمت هذه الشماعة للذهاب إلى المباحثات غیر المباشرة حول استئناف المفاوضات المباشرة، والمفارقة الآن أنها لا تستخدم ضد حماس بل ضد قرار للجنة التنفیذیة لمنظمة التحریر بإجراء انتخابات محلیة وضد إجماع الفصائل المؤتلفة فی إطار المنظمة على رفض تأجیلها. ومما له دلالته أن عباس لم یهاتف رئیس حکومته فیاض لتأجیل هذه الانتخابات من دمشق او أنقرة مثلا حیث کان فیهما مؤخرا لإعطاء مصداقیة للادعاء بأن التأجیل کان فعلا استجابة لهذه الضغوط، بل هاتفها من واشنطن مما یعزز الشکوک بأن التأجیل کان تساوقا مع أجندة أمیرکیة لا عربیة.
غیر أن القرار الذی اتخذته حکومة تصریف الأعمال برئاسة د. سلام فیاض فی رام الله فی الثامن من شباط/ فبرایر الماضی بإجراء انتخابات بلدیة ومحلیة فی السابع عشر من تموز/ یولیو المقبل ثم القرار الذی اتخذته الحکومة نفسها الأسبوع الماضی بتأجیلها إلى أجل غیر مسمى هما أحدث نموذج لتخبط القرار السیاسی الفلسطینی، فمن الناحیتین السیاسیة والدستوریة أخطأ صاحب القرار فی المرتین.
وبغض النظر عن الجدل حول شرعیة الحکومة التی أصدرت قرار إجراء الانتخابات البلدیة فی الضفة بمعزل عن غزة، فإن إجراءها على مرحلتین الأولى فی الضفة والثانیة مؤجلة إلى إشعار آخر فی غزة یجعلها انتخابات غیر شرعیة، لأن مرحلتها بهذا الشکل مخالف لنص المادة "5" من قانون انتخابات المجالس المحلیة رقم "10" لسنة 2005 الذی استند إلیه قرار حکومة فیاض بإجرائها والتی تنص على أنه "یمکن فقط للجنة الانتخابات المرکزیة" أن تطلب تأجیلها جزئیا، ولم تطلب اللجنة ذلک، وعلى أن ینحصر التأجیل فی "مدة لا تزید على أربعة أسابیع" لا أن یکون مفتوحا إلى أجل غیر مسمى، وعلى أن یتم التأجیل الجزئی إذا "اقتضت ذلک الضرورات الفنیة وسلامة الانتخابات" لکن التأجیل تم لأسباب تعود إلى عدم جاهزیة فتح للانتخابات.
وفی القرارین اکتسبت حرکة فتح والمنظمة والسلطة اللتین تقودهما المزید من المعارضین، فألبت فی القرار الثانی حلفاءها علیها، لتقف الیوم وحیدة متهمة من المعارضین والحلفاء على حد سواء، مما ینذر بالمزید من خسارتها فی أی جولة "انتخابیة" مقبلة، لتظل الانتخابات الفلسطینیة مجرد عنوان خادع للدیمقراطیة لا تعبیرا حقیقیا عنها، ولتظل الدیمقراطیة الفلسطینیة مؤجلة إلى إشعار آخر، بعد زوال الاحتلال.
ن/25


| رمز الموضوع: 142978







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)