الاحد 13 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

جدار مصر فی ضوء القانون الدولی

اعترفت مصر مؤخراً بعد تأکیدات رسمیة أمیرکیة إسرائیلیة بأنها تبنی جداراً فولاذیاً على معظم حدودها مع غزة وأنها تهدف من ورائه إلى حمایة أمنها القومی ومنع التسلل والمخدرات والأسلحة، وأن هذا الجدار یمنع الأنفاق التی کانت تستخدم فی هذه الأغراض.

وقد شعر سکان غزة نفسیاً بالاختناق لتصور أن هذا الجدار الهائل الفولاذی الذی قال الخبراء عنه إنه سیضر ضرراً مالیاً واقتصادیاً بالقطاع وسکانه، کما أنه حاجز نفسی مخیف لأول مرة بین مصر وفلسطین بعد أن کان القطاع تاریخیاً جزءاً من أمن مصر القومی، ولکن مصر تعتبره الآن منفذ التهدید لهذا الأمن.

ورغم أن هذا الجدار فی ظروف غزة یزید بؤسها ویشجع إسرائیل على المزید من قهرها ویمکن إسرائیل من إحکام الضغط على سکانها وإبادتهم بهذه المساعدة الثمینة، بما یناقض کل دین وخلق ومروءة، فإن شعور غزة بأن هذا الجدار تبنیه فی الواقع مصر بأموال وتخطیط وطلب إسرائیلی وأمیرکی یجعل غزة تنزف لجفاف مشاعر العروبة والأخوة والذرائع المصطنعة، بل ومرارة شعورهم بأنهم یهددون مصر ولا یهددون إسرائیل.

ولاشک أن المقارنة ترد على ذهنهم بین جدار مصر وجدار إسرائیل فی ظل الحصار الخانق، ولکن رحمة الله فی السماء هی الباقیة بعد أن جفا علیهم القریب البعید، فصارت مصر عندهم کما قال شاعرنا فی رثاء ابنه محمد الذی اختطفه الموت صبیاً، فقد أضحی مزاره قریباً على بعد، بعیداً على قرب:

لقد أنجزت فیه المنایا وعیدها ** وأخلفت الآمال ما کان من وعد.

ورغم ما یعلمه أهل غزة من أن هذا الجدار من ثمرات التعاون بین الحکومات المصریة والإسرائیلیة والأمیرکیة فی هذا المشروع العملاق لحمایة مصر التی "تحرص" واشنطن وإسرائیل تماماً على أمنها واستقرارها، فإن الشعب المصری لیشعر بالأسى لاستکمال ما عجزت عنه إسرائیل وما لم یحدثه إغلاق معبر رفح.

وقد أدانت حماس الجدار باعتباره یجلب المزید لمأساة أهل قطاع غزة ویسهم فی القتل البطیء لسکانه، وکان الأولى بمصر أن تکفکف دمعهم وتداوی جراحهم، کما أنهم یخشون أن یکون نذیراً بعدوان إسرائیلی جدید على القطاع البائس، بینما أید أبو مازن بشدة حق مصر فی إقامة الجدار.

وقد قیل فی الجدار الکثیر ولکن هذه المقالة تعنی بشکل أساسی بالوضع القانونی لهذا الجدار، ومدى مخالفته للقانون الدولی، ومدى وجاهة الموقف الرسمی المصری من أن بناء الجدار عمل من أعمال السیادة لمصر على إقلیمها وکأن هذا الموقف قد قرأ خطأ ما قررته محکمة العدل الدولیة فی قضیة الجدار العازل عام 2004 من أن من حق إسرائیل أن تبنی جدارها داخل حدودها.

ولکن حکم المحکمة یتحدث عن التزامات الدولة المحتلة حتى یصون الأراضی المحتلة من الجور، بخلاف جدار مصر الذی یدخل مصر مرة أخرى بعد مواقفها خلال المحرقة وبعدها فی معبر رفح دوائر التجریم القانونی والأخلاقی.

والمعلوم أن إسرائیل والولایات المتحدة سبق أن أبرمتا فی اللحظات الأخیرة فی إدارة الرئیس بوش اتفاقاً یخول الدولتین العمل على جهات عدیدة من بینها الأراضی المصریة لإحکام الحصار على غزة واحتجت مصر یومها لأن الاتفاق یعتدی على سیادتها ویبرم دون وجودها وینفذ مع ذلک على أراضیها، ورغم ذلک کان تعلیقها ضعیفاً لا یناسب هذا الاعتداء الفادح على سیادة مصر الحقیقیة، ولکن یبدو أن غضب مصر لم یکن بسبب انتهاک سیادتها، ولکنه کان جزءاً من الغضب والتوتر بسبب مواقف إدارة بوش المهینة لمصر.

من الناحیة القانونیة، یجب التأکید على أن المرجعیات القانونیة لتکییف الجدار المصری هی اتفاقیة جنیف الرابعة لعام 1949 واتفاقیة الأمم المتحدة لإبادة الجنس لعام 1948، وما یقرره نظام روما من أحکام حول أنواع الجرائم وأرکانها والذی ألقى الضوء بشکل أکبر على ما تضمنته اتفاقیة جنیف الرابعة التی تلزم الدولة المحتلة، کما تلزم الدول الأطراف خاصة المرتبطة بشکل مباشر بالإقلیم المحتل فی حالة مصر وغزة، بل إن هذه الاتفاقیة تعطی القضاء المصری اختصاصاً عالمیاً مثل باقی السلطات القضائیة فی الدول الأطراف، ولذلک لا محل للاحتجاج بحرمان القضاء من هذه السلطة بذریعة أعمال السیادة أو أن هذا العمل یعتبر من أسرار الدولة العلیا.

 ولاشک أن المقارنة ستظل واردة أیضاً عند الدارسین لکل أنواع الحواجز والحوائط والجدر والظروف التی لابست إنشاء کل منها، خاصة وأن بعضها کانت له سمعة طیبة دفاعیة مثل سور الصین العظیم، کما کان بعضها الآخر سیئ السمعة مثل حائط برلین الذی یفصل بین عالمین متصارعین، العالم الشیوعی والعالم الرأسمالی، وکان سقوطه إشارة إلى انتهاء فترة الحرب الباردة واختفاء النظم الشیوعیة. وإذا کان جدار برلین قد استهدف فی إطار التفکیر الساذج منع شرق ألمانیا عن التواصل مع غربها ولم ینتهک أیاً من أحکام القانون الدولی الظاهرة، فإن جدار إسرائیل وجدار مصر یناقضان أحکام القانون الدولی بمرجعیة واحدة ویعتبران کلاهما جریمة من جرائم النظام العام الدولی.

ولذلک فإن جدار مصر قد أصبح جزءاً من النظام الجنائی الدولی، وسوف یعکف الدارسون فی مختلف التخصصات على معالجة هذا الموضوع فی المستقبل.

وسوف یستهوی دارسی القانون الدولی المقارنة الفذة بین جدار مصر وجدار إسرائیل. فإذا کان جدار إسرائیل قد بنى لصالح إسرائیل وأداة لضم الأراضی الفلسطینیة، فإن جدار مصر قد بنی هو الأخر لما تراه مصر لمصلحتها. وإذا کان جدار إسرائیل قد أدانته محکمة العدل الدولیة لأنه انتهاک لالتزامات الدولة المحتلة فی الأراضی الفلسطینیة المحتلة، فإن جدار مصر یدخل مصر یقیناً فی دائرة التجریم القانونی على ما سنفصل فی هذه المقالة.

أکد الأمیرکیون والإسرائیلیون على الأقل أن مصر تقیم بمساعدة شاملة من الجانب الأمیرکی جداراً طوله عدة کیلومترات وبعمق 18 متراً ومن الفولاذ.

من الجانب المصری لم یتأکد صراحة وإنما تأکد ضمناً، وأما أسباب بناء الجدار کما أوضحها المصریون فهی منع التهریب بین مصر وغزة. أما حق مصر فی بناء الجدار داخل أراضیها فقد أوضحه السید وزیر الخارجیة وأکد أنه قرار سیادى یعود إلى مصر وأمنها القومی. وأود فی هذه المقالة أن أناقش بهدوء هذه الأقوال من وجهة نظر قانونیة خالصة.

فمن حق أی دولة أن تفعل ما تشاء داخل حدودها لتأمین نفسها من جیرانها، ولکن القاعدة المستقرة فی القانون الدولی هی أن حق هذه الدولة مقید بالتزام عدم الإضرار بشکل غیر مشروع بالدولة المجاورة أو الإقلیم المجاور. وفی تحلیل عن الجدار سوف أنحی تماماً المقولات والأوصاف التی تطلق من مصر أو صوب مصر حول التضامن العربی، أو أن فلسطین فی کبد کل مصری أو أن الفلسطینیین مسلمون ویجب إنقاذهم، لأنها أوصاف لم تعد تلامس الواقع بل تستفز القارئ ولکی أرکز فقط على حق مصر الذی أکدته فی خطابها الذی باحت به حتى الآن بشأن الجدار.

عندما یتعلق الأمر بغزة التی یحدها شمالاً البحر المحاصر وعلى طول حدودها الشرقیة والجنوبیة إسرائیل التی تحمل مشروعاً صهیونیاً هدفه القضاء على الشعب الفلسطینی والتربص الدائم بغزة وإعلانه إقلیماً معادیاً تجیز فیه کل ما یحظره القانون الدولی، فإن الحد الغربی لغزة وهو مصر یصبح هو محط الأمل من الناحیة النفسیة لیس فقط لإنقاذ غزة من الوحش الصهیونی ولکن لإمداد غزة بکل ما یلزم من ضرورات البقاء وهى فی الظروف العادیة مسألة اقتصادیة إذا حسنت النوایا وهى مصدر للربح بالنسبة للجانب المصری.

ولکن لأسباب کثیرة لا داعی لإقحامها فی هذا السیاق رأت مصر أن تقیم عازلاً صلباً بینها وبین هؤلاء "الأعداء" الذین یتربصون بها الدوائر ویغیرون علیها من حین لآخر ویسببون لها الإحراج مع إسرائیل، ومصر تظن أن هذا القرار مصدره الشعور المصری الخالص دون إملاء من أحد بهذه المخاطر.

لکن على الجانب الآخر، فإنه لما کان القانون الدولی یعتبر غزة أرضاً محتلة وأن حصارها من الجرائم ضد الإنسانیة، وإبادة جماعیة لسکانها، فضلاً عن کونه جرائم حرب بموجب اتفاقیة جنیف الرابعة، فقد أوجب القانون الدولی على الدول أطراف المعاهدات التی تجرم هذا العمل أن تسعى إلى فک هذا الحصار وإنقاذ السکان وکفالة الحد الأدنى من الظروف الإنسانیة لبقائهم.

أما بالنسبة لمصر، وبسبب وضعها کمنفذ وحید على الجانب الآخر لغزة فقد رتب القانون الدولی علیها التزامات أقسى وهی ضرورة فتح معبر رفح وکافة منافذ الحدود الأخرى لإنقاذ غزة من مخطط الإبادة الإسرائیلی.

أما إحکام الحصار عن طریق إغلاق المعبر ورفض تمریر المؤن اللازمة، فقد أدى إلى إنشاء الأنفاق وهی منافذ للنجاة من هذا المخطط، فیکون إغلاقها هی الآخرى، ومنع الهواء من المرور إلی غزة عن طریق جدار فولاذی تفننت إسرائیل والولایات المتحدة فی صناعته لینقل حدود إسرائیل مع غزة شرقاً وتحل محل حدود مصر مع غزة غرباً بأیدی مصریة وبأمن مصری، فهو عمل -بعیداً عن الأوصاف العاطفیة، التی لم یعد لها معنى مع مصر الرسمیة فی هذه المرحلة الخطیرة من حیاة مصر- یجعل بناء الجدار جریمة مرکبة بامتیاز.

فالهدف المعلن هو الإمعان فی خنق سکان غزة، ومعاقبتهم لذنب لم یرتکبوه وإرهابهم إلى حد الموت لقاء تمسکهم بنظام أحبوه أو کرهوه، اختاروه أو فرض علیهم لیس لأحد التدخل فیه مهما کان رأیه فیه من الناحیة السیاسیة. فالهدف السیاسی لا قیمة له لأن القانون یعول على النیة الإجرامیة وهی إبادة السکان بقطع النظر عن الدوافع.

کما أن الجدار نفسه یعنی أن مصر تخلت عن التزاماتها القانونیة الدولیة لصالح سکان غزة المحاصرین وتعاونت مع إسرائیل على إحکام الجریمة. وقد سبق للأستاذ ریتشارد فولک مقرر مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان للأراضی المحتلة أن أشار فی تقریره حول محرقة غزة إلى جریمة حرمان أهل غزة من حق الفرار من الهلاک، فما بالنا وأن الجدار یجعل الهلاک محققاً.

إن مشارکة مصر مع إسرائیل والولایات المتحدة فی إبادة سکان غزة مهما کانت مبرراته لدى کل هذه الأطراف یضع مصر تماماً فی دائرة التجریم، ناهیک عن أن هذه المشارکة هی امتثال مصری لاتفاق أمیرکی إسرائیلی سبق لمصر أن اعتبرته تدخلاً سافراً فی شؤونها وغضبت لأنه ینفذ على أراضیها دون مشارکتها ویبدو أن زوال بوش، ومشارکة مصر قد صحح هذا الموقف الذی لن یغفره التاریخ أبداً، کما أن له ما له یوم یقوم الحساب. لقد نظرت مصر إلى جانب واحد وغابت عنها أهم الجوانب خاصة وأن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.

تلک رؤیة قانونیة خالصة لا أثر فیها للجوانب الإنسانیة أو القومیة أو الدینیة أو الأمن القومی الصحیح، ویکفی أنها أکبر خدمة تقدم للمشروع الصهیونی سیدفع ثمنها أجیال مصر فی عصور لاحقة.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 142927







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)