عام الحسم فی أزمات الشرق الأوسط
وصل وکالة قدسنا هذا المقال من الدکتور صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن
لا شکّ أنَّ واشنطن قد نجحت فی فرض تقویمٍ زمنیٍّ جدید على العالم هو تاریخ 11/9/2001 حیث أصبح هذا التاریخ محطّة زمنیة تؤرّخ لمرحلةٍ جدیدة فی حیاة معظم بلدان العالم. وإذا کانت أحداث العقد الأول من القرن الحادی والعشرین قد ارتبطت بشکلٍ کامل بتداعیات ما بعد أحداث 11 أیلول/سبتمبر، فإنَّ العام 2010، وهو باکورة عقد زمنی جدید، لن یختلف عن سلفه لا من حیث ساحات الأحداث، ولا أیضاً من حیث ارتباط هذه الأحداث بالقرارات الأمریکیة التی تُؤثّر على العالم کلِّه.
لکن میزة عام 2010 هی بأنَّه سیکون "عام الحسم" على أکثر من صعیدٍ دولی وعربی، خاصّةً أن إدارة أوباما تملک رؤى وأسالیب أمریکیة واضحة تجاه قضایا عالمیة عدیدة، بعدما تعثّرت وفشلت رؤى وأجندة الإدارة السابقة.
لقد أعطت أحداث 11 سبتمبر 2001 أعذاراً دولیة لتوسّع السیطرة العسکریة الأمریکیة عموماً، ورسّخت واشنطن لدى الآخرین مفهومها الخاص للحرب على الإرهاب، وأصبحت شبکتها الأمنیة تغطّی معظم دول العالم، وامتدّ حلف الناتو من شواطئ طرفی الأطلسی إلى أطراف روسیا والقارة الآسیویة، وأصبح الوجود العسکری الأمیرکی فاعلاً فی معظم الدول المجاورة للصین، وفی غالبیة دول العالم الإسلامی.
وإذا کان من الطبیعی أن أمیرکا ردّت عسکریاً على أحداث أیلول/سبتمبر من خلال التوجّه إلى أفغانستان، باعتبار أنَّ هذا البلد کان ساحة التواجد والحرکة لجماعات "القاعدة"، فإنَّ ما حصل لاحقاً من ترکیز أمیرکی على العراق والمنطقة العربیة، هو الذی میّز حروب وصراعات العقد الأول من القرن الحالی.
التبریر الرسمی الأمیرکی لذلک الترکیز على المنطقة العربیة، کان باعتبار أنّ مؤسسی "جماعات القاعدة" هم بالغالبیة من جنسیات عربیة، وکذلک کل من قاموا بالعملیات الإرهابیة فی سبتمبر 2001 ضدّ أمیرکا، وبأنّ المنطقة العربیة ملیئة بالمنظّمات المعادیة للسیاسة الأمیرکیة وبمشاعر الغضب ضدّ الولایات المتحدة.
لقد نجحت واشنطن عملیاً فی تأمین وجودٍ عسکری وأمنی أمیرکی فاعل فی عدّة بلدانٍ إسلامیة (باکستان- أفغانستان- العراق- إندونیسیا- الفیلیبین- الجمهوریات الإسلامیة التی کانت تابعة للاتحاد السوفییتی وترکیا) إضافةً إلى معظم البلدان العربیة، بینما تعثّرت المشاریع الأمیرکیة الرامیة لتوسیع هذه السیطرة لتشمل إیران بشکلٍ خاص، رغم التواجد العسکری الأمیرکی فی کل الجوار الإیرانی. فإیران هی الدولة الإسلامیة الکبرى التی ما زالت أجواؤها وأراضیها غیر مستخدمة أمیرکیاً، وهی تشرف على منطقة الخلیج الفارسی کلّه وما فیها من ثرواتٍ نفطیة، وهی (أی إیران) ما زالت – حسب المفهوم الأمیرکی- مصدر دعمٍ لعدّة منظماتٍ سیاسیة وعسکریة إسلامیة تناهض السیاسة الأمیرکیة. أیضاً، فإنَّ إیران تجاور أفغانستان وبحر قزوین الذی یحوی هو الآخر ثرواتٍ نفطیة، وهی کدولة تشکّل أمَّةً قائمةً بذاتها، وتُعتبر قوّةً إقلیمیة کبرى فی منطقة هی حسَّاسة جداً للمصالح الأمیرکیة ولکیفیّة التحکّم بمصالح دول کبرى أخرى فی العالم.
لذلک رأت واشنطن أنَّ المسألة العراقیة هی أمر مهم لسیاستها الخاصة بالمنطقة العربیة، کما هی المدخل للتعامل مع المسألة الإیرانیة، وبأنَّ نجاح أمیرکا فی ترتیب أوضاع العراق سیسهّل أسلوب التعامل الأمیرکی مستقبلاً مع الشأن الإیرانی، لکن واشنطن لم تنجح فی احتواء إیران، أو فی تقلیص نفوذها الإقلیمی، رغم وضعها أمیرکیاً فی "محور الشر" الذی أعلنه الرئیس الأمیرکی السابق بوش، ورغم العقوبات ومحاولات العزل والضغط على الدول الکبرى الأخرى لتجمید علاقاتها مع طهران.
***
إنّ عام 2010 لن یکون عام حسم الموقف الأمیرکی من إیران فقط، بل هو أیضاً عام حسم مصیر التسویة السیاسیة للصراع العربی/الإسرائیلی فی جبهاته الفلسطینیة والسوریة واللبنانیة. فواشنطن تراهن الآن على تداعیات هذه التسویة المنشودة لتهیئة الظروف المناسبة لتنفیذ جدولة الانسحاب الأمیرکی من العراق، ولعزل التأثیر الإیرانی على جبهات الصراع مع إسرائیل، ولتحسین "الصورة الأمیرکیة" فی عموم العالم الإسلامی.
المشکلة الآن، أن الکلّ ینتظر ما ستفعله إدارة أوباما فی مطلع العام الجدید بینما واشنطن تنتظر "تعدیلات" فی المواقف الإیرانیة والإسرائیلیة حیث أصبحت مواقف طهران وتل أبیب هی العقبة الأبرز أمام أجندة إدارة أوباما لمنطقة الشرق الأوسط. وتراهن الإدارة الأمیرکیّة على إحداث جملة متغیّرات فی المنطقة بأسلوب مخالف للحالة التی سارت علیها الإدارة السابقة من حیث الانفرادیّة فی القرارات الدولیّة وفی التصادم مع الحلفاء الأوروبیین وتجاهل القوى الکبرى الفاعلة. فإدارة أوباما تسیر وفق منهج یعتمد التشاور والتنسیق مع الدول الدائمة العضویّة فی مجلس الأمن، وفی استصدار قرارات عن المجلس بإجماع أعضائه، فیما یخصّ أزمات عدیدة، لکن دون التراجع طبعاً عن مقتضیات المصالح الأمیرکیة فی الحفاظ على الدور الأمیرکی الریادی للعالم.
ولا أعتقد أنَّ واشنطن تستهدف من ضغوطها الواسعة على طهران أو من تصنیف إیران بأنّها التحدّی الاستراتیجی الأکبر لأمیرکا، التمهید لحرب عسکریّة معها، بل هو تحرّک أمیرکی یرید فی هذه المرحلة دفع الحکم الإیرانی للقبول مضطرّاً بخیارات واشنطن، بشأن العراق أوّلاً ثمّ مسألة التسویة الشاملة مع إسرائیل.
إذن، هی سنة حاسمة للسیاسة الأمیرکیّة فی عموم منطقة الشرق الأوسط، ولمستقبل الصراع الأمیرکی/الإیرانی، ولآفاق القضیّة الفلسطینیّة، وللعلاقات الأمیرکیة مع سوریا وانعکاساتها على الأوضاع اللبنانیة والفلسطینیة.
لکن مشکلة أمیرکا فی المنطقة العربیة تحدیداً ما زالت تتأزَّم حصیلة "ازدواجیة" المواقف الأمیرکیة فی مسألة الإرهاب. فحینما تعتدی إسرائیل على العرب والفلسطینیین، تجد واشنطن الأعذار المناسبة لهذا السلوک الإرهابی الإسرائیلی، لکن حینما یقاتل الفلسطینیون جیش الاحتلال الإسرائیلی فإنَّ أمیرکا تتبنَّى فوراً مقولة إسرائیل بأنَّ مقاومة الاحتلال هی من الأعمال الإرهابیة!
ورغم الإیجابیة الشکلیة التی تمیَّزت بها تصریحات الرئیس أوباما وأرکان إدارته عن ضرورة "تجمید بناء المستوطنات" وعن ضرورة "أن تعمل إسرائیل أیضاً على وقف العنف"، فإنَّ هذه المواقف الإیجابیة الشکلیة لم تصل بعدُ إلى عمق أزمة الثقة العربیة بالسیاسة الأمیرکیة فی المنطقة.
فالمعاییر العربیة لکیفیة رؤیة التغییر بالسیاسة الأمیرکیة یتطلَّب من واشنطن أن تعود بسیاستها إلى ما کانت علیه فی الخمسینات، أیام العدوان الثلاثی (البریطانی والفرنسی والإسرائیلی) على مصر بعد تأمیم قناة السویس، حیث کانت السیاسة الأمیرکیة (والمصالح الأمیرکیة) ترفض العدوان على مصر وترفض احتلال سیناء والقناة مهما کانت الأعذار التی رفعها المعتدون، کما تفهَّمت واشنطن آنذاک حقَّ الشعب المصری بالمقاومة للاحتلال، والدعم العربی الکبیر لهذه المقاومة.
أمَّا بعد ذلک، فقد أصبح زواج المواقف الأمیرکیة والإسرائیلیة هو مصدر "الازدواجیة" فی السیاسة الأمیرکیة بالمنطقة: مفهومٌ أمیرکیاً ما تقوم به إسرائیل، ومرفوضٌ أمیرکیاً ما یقوم به العرب ! وما لم تدرک واشنطن أنَّ جذور أزمتها و"صورتها المشوَّهة" فی المنطقة العربیة، والعالم الإسلامی عموماً، تعود لهذا "الزواج الأمیرکی الإسرائیلی"، فإنَّ سیاساتها ستتعثّر المرّة تلو الأخرى.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS