تحالف "میدفیدیف بوتین" .. صفعة لإسرائیل

یکاد یجمع المراقبون أن فوز مرشح الحزب الحاکم دمیتری میدفیدیف بانتخابات الرئاسة التی شهدتها روسیا فی 2 مارس 2008 کان بمثابة استفتاء على استمرار نهج الرئیس المنتهیة ولایته فلادیمیر بوتین سواء على الصعید الداخلی أو الخارجی ، وهو الأمر الذی شکل ضربة موجعة لبوش وأولمرت.
فمعروف عن الرئیس السابق أنه طالما وقف حجر عثرة فی وجه مخططات الصهیونیة وأمریکا للسیطرة على الاقتصاد الروسی والعالم ، ویبدو أن المستقبل القریب لن یشهد تغییرا یذکر فی هذا الشأن ، حیث سارع میدفیدیف إلى تنفیذ تعهداته خلال الحملة الانتخابیة بتعیین بوتین رئیسا للوزراء، مؤکدا فی الوقت ذاته التزامه بالخط السیاسی الذی انتهجه سلفه الذی وصفه بالصدیق والشریک.
وفی السیاق ذاته ، بعث بوتین برسالة قویة للخارج مفادها أن السیاسة الروسیة مازالت تسیر فی فلکه رغم خروجه من الکرملین ، وهذا ماعکسته تصریحاته بعد إغلاق صنادیق الاقتراع والتی أکد خلالها أن السلطة التنفیذیة العلیا فی البلاد هی الحکومة الروسیة ورئیس الحکومة ، فی إشارة واضحة إلى أن الأمور ستکون تحت سیطرته وبقبضة حدیدیة کما کانت سابقا .
وهناک أمور کثیرة تدعم تصریحات بوتین منها أن میدفیدیف " 42 عاما " لاینتمی إلى المؤسسة العسکریة أو جهاز المخابرات الروسی الذی عمل به بوتین فترة طویلة ، وبالتالی فإنه سیظل لفترة لیست بالقصیرة فی حاجة إلى مشورة ودعم الرئیس السابق الذی بدون تأییده ماکان میدفیدیف الآن فی قصر الکرملین ، وهذا ماعبرت عنه بوضوح لافتة عملاقة کتب علیها "معا سننتصر" وکانت قد علقت أمام الکرملین خلال انتخابات الرئاسة ویظهر فیها میدفیدیف یرتدی بدلة رسمیة وبوتین بسترة طیار یسیر إلى جانبه ، مایؤکد أن الأول مجرد واجهة ، بینما الثانی صاحب الکلمة الفصل .
وبجانب ماسبق ، فإن شعبیة بوتین مازالت طاغیة بسبب الإنجازات الکثیرة التی حققها منذ تولیه الرئاسة فی عام 2000 ، حیث أنه وفقا لبیانات مجلة "الایکونومیست" البریطانیة ، بلغ معدل النمو فی الناتج المحلی الإجمالی فی روسیا نحو 8% سنویا خلال تلک الفترة ، والاقتصاد الروسی حالیا هو أحد أکبر عشر اقتصادیات فی العالم ، فهى تمتلک أکثر 500 ملیار دولار من احتیاطیات النقد الأجنبی مقابل لاشیء تقریبا عام 1998 وبلغت الاستثمارات الأجنبیة نحو 45 ملیار دولار ، الأمر الذى انعکس إیجابا على أبناء الطبقة المتوسطة فی روسیا وارتفع مستوى معیشة کثیرین منهم.
بالإضافة إلى نجاحه فی وقف التدهور الذی عانت منه البلاد فی نهایة حقبة التسعینات فی ظل حکم الرئیس الراحل بوریس یلتسین ، حیث استعاد الکرملین فرض نفوذه على کافة الأقالیم الروسیة رغم أن الثمن کان بشعا وتمثل فی ارتکاب القوات الروسیة مجازر لاحصر لها ضد المدنیین الشیشان کما استطاع تکوین إدارة قویة عبر ترکیز السلطات مرة أخرى وإعادة نظام الحزب الواحد وساعد سیطرة حزب روسیا الموحدة على مقالید الأمور بوتین فى تنفیذ خطته فی تحقیق مبدأ تداول السلطة دون المساس بنفوذه السیاسی بل إنها وسعت من دائرة تأثیره عبر تقنین هذا النفوذ بزعامته لکتلة الأغلبیة البرلمانیة بعد الانتخابات التشریعیة التی أجریت فی 2 دیسمبر 2007 .
والأهم من ذلک نجاحه فی تقلیص دور امبراطوریات رجال الأعمال الیهود ، وإعادته سیطرة الدولة على قطاع النفط والغاز وهو أمر استفادت منه الخزانة الروسیة کثیرا مع ارتفاع سعر النفط من 15 دولارا للبرمیل قبل أن یتولى بوتین الحکم إلى أکثر من 100 دولار للبرمیل فی عام 2008 .
وکان بوتین قد سارع فور تولیه السلطة إلى توجیه الضربات الواحدة تلو الأخرى ضد رموز هذا التیار المتمثلة فی بوریس بیریزوفسکی وفلادیمیر جوسینسکی ومیخائیل خدرکوفسکى ولیونید نفزلین وأتاح الفرصة لرؤوس أموال روسیة جدیدة لتملأ الفراغ بعد إزاحة هذه المجموعات المالیة.
ولم یقف الأمر عند توجیه الضربات لرأس المال الصهیونى فی الداخل بل إنه نجح أیضا فی استعادة مناطق النفوذ السوفییتیة لحساب الرأسمال الروسی فی العراق وسوریا وإیران وجورجیا باعتبار أن هذه المناطق أسواق تقلیدیة للمنتجات (السوفییتیة سابقا) الروسیة حالیا ، فهو لم یقبل بمنطق الغرب الذی اعتبر أن انهیار الاتحاد السوفییتی یعنى بالضرورة إعادة توزیع مناطق النفوذ ومیزان القوى فی الساحة الدولیة.
والآن وبعد فوز حلیفه میدفیدیف بکعکة الکرملین فإن طموحات رموز الیمین الروسی المرتبط برؤوس الأموال الأمریکیة والإسرائیلیة الذی تمکن خلال عهد یلتسین من التحکم فی الاقتصاد والسیاسة الروسیة للعودة مجددا قد تضاءلت کثیرا إن کانت لم تختف تماما وهذا لیس فقط لأن بوتین سیظل اللاعب الحقیقى فی السیاسة الروسیة وإنما أیضا لأن هذا یتعارض مع مصالح میدفیدیف الشخصیة بالنظر إلى أنه کان یشغل منصب رئیس مجلس إدارة شرکة "غازبروم" عملاق صناعة الغاز فی روسیا قبل تولیه منصب نائب رئیس الوزراء فی اواخر ولایة بوتین وترشحه لاحقا لانتخابات الرئاسة.
أما على الصعید الخارجی ، فمنذ وصوله إلى الکرملین طرأت أشیاء کثیرة على علاقات موسکو وواشنطن ، حیث أحدث قطیعة کاملة مع عهد سلفه بوریس یلتسین الذى عرف عنه الضعف أمام رغبات واشنطن ونجح إلى حد کبیر فی استعادة مکانة روسیا على الساحة الدولیة ، وظهر حضورها فی عدة ملفات هامة تعارض فیها الموقف الغربی مثل ملف کوسوفا وملف البرنامج النووی الإیرانی .
وهناک أیضا الخطط الأمریکیة لنشر منظومة الدرع الصاروخیة فی أوروبا الشرقیة ، فالتهدیدات التى خرجت من روسیا فى أعقاب إعلان واشنطن العام الماضى عن نشر منظومة دفاع صاورخیة جدیدة فی وسط أوروبا بحلول عامی 2011 و2012 بدعوى حمایة حلفائها فی "الناتو" من صواریخ "دول مارقة" مثل إیران وکوریا الشمالیة ، تؤکد أن فرص تراجع روسیا عن رفض تلک الخطط تبدو معدومة فی ظل وجود بوتین وبالتالی فإن العالم مهدد بعودة سباق التسلح الذى شهدته "الحرب الباردة" التی دارت على مدى ما یقرب من 50 عاما بین المعسکرین الشرقى والغربى وانتهت فی عام 1991 بسقوط الاتحاد السوفیتی .
وکان بوتین قد فند مزاعم واشنطن حول أن الهدف من نصب نظام رادار فی جمهوریة التشیک وصواریخ اعتراضیة فی بولندا هو التصدی لتهدیدات صاروخیة محتملة من إیران وکوریا الشمالیة ، قائلا بسخریة :"أُخبرنا أن الأنظمة المضادة للصواریخ الدفاعیة تستهدف شیئاً هو فی الأصل غیر قائم..ألا یبدو الأمر مضحکاً".
ولم یقتصر الأمر على التصریحات الناریة ، بل إنه قرر فی نوفمبر 2007 تجمید التزام روسیا بمعاهدة انتشار القوات التقلیدیة فی أوروبا والتی کانت تضع قیودا على انتشار الأسلحة الثقیلة فی دول الناتو وروسیا ، ما اعتبره المراقبون بمثابة جرس إنذار بأن الخلاف بین موسکو وواشنطن مفتوح على أسوأ السیناریوهات.
وبجانب معارضة المنظومة الصاروخیة الأمریکیة الجدیدة فی أوروبا ، فإن بوتین یقف أیضا حجر عثرة أمام مساعی أمریکا وإسرائیل لنهب المزید من الحقوق والثروات العربیة "مخطط الشرق الأوسط الجدید "، فهو طالما رفض وصف حرکة حماس الفلسطینیة ب" الإرهابیة" کما حافظ على موقف متوازن فی الصراع الداخلى بین الفلسطینیین من ناحیة وبین الفلسطینیین وإسرائیل من ناحیة أخرى ، واستفز إسرائیل أکثر وأکثر عندما وافق فی عام 2005 على تزوید سوریا بصواریخ متطورة من نوع "اسکندر" التى یصل مداها إلى 280 کیلو متراً ویمکنها بلوغ الهدف فی إسرائیل ، وجاءت خطط واشنطن لبناء نظام دفاع صاروخى فی أوروبا الشرقیة على حدود روسیا لتدفع فی اتجاه تقویة العلاقات التاریخیة بین روسیا وسوریا حیث سارع بوتین إلى استئناف إنتاج القاذفات الاستراتیجیة والصواریخ المتطورة والبحث عن قواعد وتسهیلات عسکریة فی مناطق حساسة استراتیجیاً بالنسبة للولایات المتحدة کالشرق الأوسط .
وهنا حدث مجددا التقاء فی المصالح بین روسیا وسوریا کما کان الحال فی عهد الاتحاد السوفیتى السابق وخلال الحرب الباردة ، فدمشق حالیا تبحث عن قوة کبیرة تنقذها من العزلة الدولیة المفروضة علیها جراء الضغوط الأمریکیة ، فیما وجدت روسیا ضالتها لاستعادة قوتها فی العالم وخاصة فی الشرق الأوسط فی سوریا ، حیث کشفت صحیفة " کومرسنت" الروسیة فی یونیو 2007 ، أن موسکو تعتزم إقامة قاعدة بحریة دائمة فی سوریا قد تعوض القاعدة التی تستأجرها حالیا فی أوکرانیا بمنطقة القرم .
وإذا تحقق هذا السیناریو فإن المنطقة ستکون بصدد تحالف استراتیجى سورى روسى فی مواجهة التحالف الأمریکى الإسرائیلى وهو ما یضع عقبات کثیرة أمام أیة مغامرة عسکریة قد تقدم علیها إسرائیل بدعم أمریکى ضد سوریا ، فروسیا قد تدخل على الخط لحمایة مصالحها الجدیدة فى المنطقة .
بوتین یشکل عقبة لبوش وأولمرت
إلى جانب ذلک وعلى الصعید الاقتصادی ، توسع نطاق علاقات موسکو مع الدول العربیة فی مجال التجارة والاقتصاد بما فیها بلدان الخلیج العربیة حیث کان تعاون موسکو مع هذه الدول فی السابق ضئیلاً .
وأغلب الظن أن هذا التطور فی العلاقات سیستمر فی فترة حکم الرئیس الجدید میدفیدیف ، لیس فقط لاستمرار بوتین فی مؤسسات السلطة وإنما لأن ماأنجز فی عهده من زیادة مستوى الثقة بین الجانبین الروسی والعربی یتجاوب مع مصالح روسیا الوطنیة ، بالنظر إلى أن إرساء السلام فی الشرق الأوسط یخدم فی النهایة أمنها القومی حیث تقع النقاط الساخنة فی هذه المنطقة بالقرب من حدودها الجنوبیة وخاصة إیران والعراق ، کما أنها حریصة على عدم استفزاز مشاعر سکانها المسلمین أو تسهیل إیجاد موطیء قدم لتنظیم القاعدة هناک.
ویمکن القول ، إن بوتین یسیر بخطى واثقة وبذکاء منقطع النظیر نحو إعادة روسیا لدورها التاریخی کقوة عظمى والعرب کلمة السر فی هذا الشأن.
( المقال للکاتب المصری جهان مصطفى فی موقع محیط )
ب/ن/25