نظریة الامن الاسرائیلی (2)
نظریة الامن الاسرائیلی (2)
والحقیقة التی فاتت الزعامات الصهیونیة أن أمن إسرائیل یمثل مشکلة کیانیة، لأن إسرائیل کیان مزروع بلا جذور، ممول من الخارج من قبل یهود الغرب والدول الغربیة، لا یتفاعل مع الواقع التاریخی العربی المحیط به، ولکی تُدافع إسرائیل عن أمنها، أی کیانها، یضطر الکیان الاستیطانی الشاذ إلى أن یعسکر نفسه عسکرة تامة لیتحول إلى المجتمع/القلعة الذی تجری العسکریة فی عروقة والذی لا توجد فیه أیة فواصل بین الشعب والجیش. وما تنساه الزعامات الصهیونیة أنه بغض النظر عن مقدار الأمن الذی سیصل إلیه هذا المجتمع وبغض النظر عن حجم انتصاراته، فإن علیه أن یخوض الحرب تلو الحرب لیدافع عن أمنه "المهدد" وذلک بسبب الحرکة الطاردة فی المنطقة. "فهمی هویدی، الموسوعة الصهیونیة".
القسم الثالث: تحدیات الأمن القومی الإسرائیلی
الحقیقه أن مسـألة الأمن الخاصة بإسرائیل تتأثر بعدة عوامل یأتی فی مقدمتها:
عامل الجغرافیا السیاسیة، وکما تشیر المعطیات فإنه یحتشد حوالى 80 -90% من سکان إسرائیل فی منطقة تمتد نحو 120 کلم على طول الشاطئ بین حیفا وأسدود، وهذا یشکل تهدیداً أمنیاً حقیقیاً لإسرائیل نتیجة العمق الإستراتیجی الضیق الذی یجتمع فیه غالبیة السکان هناک، وما یشکله ذلک من خسائر بشریة فادحة فی حال تعرضت إسرائیل لهجمات تطول تلک المنطقة الجغرافیة من إسرائیل، الأمر الذی یحد کثیراً من قدرة إسرائیل على المناورة والحرکة.
ویأتی عاملا نسب القوى والموقف العربی العام فی سیاق تهدید الأمن الإسرائیلی، إلا أن مراقبین یرون أن هذین العاملین لم یعودا یشکلان تهدیداً مباشراً لاسرائیل، التی ترتبط بعملیة سلام مع الأردن ومصر ورغم ذلک فهی لا تزال تواجه سوریا فی وضع قلق على جانبی مرتفعات الجولان، وهذا ما یبقی الهجوم على الجبهة الشمالیة لإسرائیل أکثر احتمالاً بنظر العدید من الخبراء الاستراتیجیین، نظراً لعدم تحقیق أی تقدم على طاولة المفاوضات السوریة الإسرائیلیة، کما أن استمرار عملیات حزب الله فی مزارع شبعا وتحمیل إسرائیل دمشق مسؤولیة استمرار هذه الهجمات، یبقیان حالة التوتر العسکری قائمة فی ظل إجماع غالبیة الخبراء الإسرائیلیین على أن سوریا ستستمر بالتسلح ودعم حزب الله، وستستغل أول فرصة تسنح لها لشن هجوم مباغت لاسترجاع هضبة الجولان أو جزء منها، بالمقابل لم تعد هذه الهضبة تشکل أهمیة کبیرة فی مفهوم السیاسة الدفاعیة الاسرائیلیة، کما أنها لم تعد حاسمة فی توفیر الأمن لإسرائیل بعد التقدم الکبیر فی تکنولوجیا الصواریخ والمدافع التی اختصرت جغرافیة المکان والزمان، سیما وأن الصواریخ البالیستیة التی تدّعی اسرائیل بأن سوریا تمتلک العدید منها سیتم استخدامها بکثافة اذا ما قررت سوریا ضرب أو صد أی هجوم اسرائیلی علیها، وهذا یعنی أن هضبة الجولان فقدت أهمیتها کعمق جغرافی لاسرائیل، وستحل محلها الصواریخ المضادة للصواریخ البالیستیة التی ستقوم بالدور الأساسی فی حمایة عمق اسرائیل، مع ترسخ قناعة لدى الخبراء الإسرائیلیین بأن التکنولوجیا الصاروخیة لا یمکن أن توفر حمایة وأمناً لإسرائیل بنسبة مئة بالمئة وخصوصاً ضد صواریخ الکاتیوشا.
أما زئیف شیف المحلل العسکری فی صحیفة "هآرتس" الاسرائیلیة فیرى أن هذه المبادئ تتجسد فی الاستراتیجیة الدفاعیة، الردع النووی الغامض ونقل الحرب الى أرض العدو، وبالمقابل یرى محللون أن ثمة سلسلة مشکلات ستظل تضع اسرائیل امام تحدیات أمنیة بعیدة المدى هی:
- صغر اسرائیل وقلة مواردها.
- انعزال اسرائیل من الناحیة الجغرافیة وضعف عمقها الاستراتیجی.
- حساسیة الإسرائیلیین للخسائر المدنیة والعسکریة.
- رفض مجموعة من الدول العربیة والاسلامیة الاعتراف بشرعیة إسرائیل ووجودها کدولة یهودیة فی المنطقة، على الرغم من أن المعطیات الراهنة تغیرت، حیث أبدى کثیر من تلک الدول استعداداً للإعتراف باسرائیل، لا بل إن بعضها یقیم علاقات سریة سیاسیة أو تجاریة معها.
- بعض دول المنطقة ترى فی قدرات إسرائیل العسکریة تهدیداً لأمنها ومصالحها.
- وعلى الرغم من أن هناک تطورات قلصت أو حدّت من مستویات التهدید الموجهة لاسرائیل مثل معاهدة السلام مع مصر ومعاهدة أوسلو مع الفلسطینین واتفاقیة السلام مع الأردن، والنتائج المترتبة على حرب الخلیج (الفارسی) عام 1991 من تدمیر البنیة العسکریة العراقیة التی کانت تشکل خطراً على الوجود الاسرائیلی، إلا أن إسرائیل ما زالت ترى أن هناک تهدیدات متزایدة لأمنها، لأن الأمن هو الهاجس الذی تعیش فیه اسرائیل وتعتبر نفسها فی تهدید دائم نتیجة صغر مساحتها الجغرافیة وقلة سکانها، وترى فی ذلک نقاط ضعف لا تجعلها قادرة على المجازفة بخسارة معرکة واحدة خوفاً من انهیارها أو زوالها.
وکما هو معروف لدى الخبراء فی الشأن الإستراتیجی فإن التحولات العمیقة التی طرأت على تکنولوجیا الأسلحة العسکریة أو ما یطلق علیها "الثورة فی الشؤون العسکریة"، أخذت تسبب تحدیاً آخر للأمن الإسرائیلی، فمثل هذه الأسلحة المتقدمة المزودة بتکنولوجیا رفیعة وأسالیب حدیثة جعلت الحدیث عن الدفاع والأمن القومی الإسرائیلی ومهدداته موضوع جدل سیاسی عام، یجری فی سیاق یسود فیه قلق کبیر لدى الساسة الإسرائیلیین من امتلاک جماعات متطرفة أو أفراد لمثل هذه التکنولوجیا المتطورة التی تهدد أمن اسرائیل، من هنا بات الحدیث عن النظریة الأمنیة الإسرائیلیة فی سیاق مختلف عما کان سائداً من قبل، فی ظل ازدیاد ملحوظ لکثیر من الإسرائیلیین حول نظرتهم للأمن سیما مع ازدیاد عدم الاستقرار العالمی نتیجة تهدید الارهاب أو خطر الهجمات التی تشن بالصواریخ، وقد یکون أقلها صواریخ محلیة الصنع التی تستخدمها الفصائل الفلسطینیة ضد أهداف إسرائیلیة، فقد أعربت إسرائیل عن خشیتها من حصول الفلسطینیین على صواریخ تهدد ملاحتها الجویة، وحسب مصادر أمنیة اسرائیلیة فإن هناک إمکانیة تهریب الصواریخ الروسیة المضادة للطائرات من طراز "ام إی 18"، التی ستزود بها سوریا الضفة الغربیة وقطاع غزة، إذ أن اسرائیل تعتبر وصول هذه الصواریخ للضفة الغربیة تحدیداً یمثل تهدیداً بالغ الخطورة لملاحتها الجویة .وحسب المصادر العسکریة الاسرائیلیة، فإن هناک خوفاً من أن تقوم سوریا بتزوید حزب الله بهذه الصواریخ، والذی یقوم بدوره بتهریبها لحرکات المقاومة الفلسطینیة فی الضفة الغربیة وقطاع غزة .وکانت إسرائیل قد اتهمت حزب الله بتهریب أسلحة ووسائل قتالیة لحرکات المقاومة الفلسطینیة فی الضفة والقطاع. وتحذر المصادر العسکریة الإسرائیلیة من إمکانیة أن یؤدی حصول الفلسطینیین على مثل هذه الصواریخ إلى تقلیص قدرة سلاح الجو الإسرائیلی على العمل بحریة فی أجواء الضفة الغربیة وقطاع غزة. ویذکر أن وزیر الحرب الإسرائیلی السابق "شاؤول موفاز" قد ادّعى فی وقت سابق أن حرکات المقاومة قد حصلت مؤخراً على صواریخ مضادة للطائرات من طراز "ستریلا"، وشددت المصادر العسکریة الإسرائیلیة على أن مستوى التهدید الذی تمثله صواریخ "إم إی 18" أکبر بکثیر من الخطر الکامن فی صواریخ "ستریلا".
ونتیجة هذه العوامل التی تهدد الأمن الإسرائیلی بدأت العقیدة الأمنیة الإسرائیلیة فی تبنی سیاسة التسلح فی إطار یتوافق والتهدیدات والمخاطر الجدیدة التی تواجه إسرائیل، مرکزة على المنظومة الدفاعیة "صواریخ وسلاح جو" مع تجاوز لمفهوم الأرض التی لم تعد من وجهة نظر المفکرین الإستراتیجیین الإسرائیلیین ذات أهمیة فی توفیر أمن إسرائیل، بقدر ما لفتت الصواریخ بعیدة المدى أنظار الإسرائیلیین وزادت من قلقهم، فی ظل مخاوف المخططین العسکریین الإسرائیلیین من اقتراب خطر الصواریخ الإیرانیة. وبحسب هؤلاء فإن لهذه الصواریخ تأثیراً جوهریاً فی التفکیر الإستراتیجی الإسرائیلی، لذا فقد أثارت تجربة إطلاق الصاروخ الإیرانی (شهاب 3) والکشف عنه فی عرض عسکری فی طهران عام 1998 ردود فعل إسرائیلیة قویة، ولا سیما التحذیرات التی صدرت عن وزیر الدفاع الإیرانی آنذاک بالرد على أیة اعتداءات قد تشنها إسرائیل، وظهرت دعوات لتوجیه ضربات رادعة لإیران من قبل "افرایم سنیه وعوزی لنداو" عضوی لجنة الخارجیة والأمن فی الکنیست، وتقول تقدیرات عسکریة اسرائیلیة إنه ستتوافر لإیران خلال السنوات القلیلة القادمة صواریخ ذات مدى أطول بإمکانها حمل رؤوس نوویة وضرب العمق الإسرائیلی، وقد زادت التخوفات الإسرائیلیة من القدرة الإیرانیة على إنتاج قنبلة نوویة یوماً بعد یوم، حتى أن إسرائیل تتحرک دولیاً لعرض الملف النووی الإیرانی على مجلس الأمن، فی وقت لم تستبعد مصادر سیاسیة أن تقوم إسرائیل بتوجیه ضربة عسکریة لمحطات إیران النوویة. من هنا فإن خطر الصواریخ بعیدة المدى أضاف تحدیات جدیدة إلى النظریة الأمنیة الإسرائیلیة من منطلق أن العدو القادر على مهاجمة العمق الإسرائیلی قد لا یکون بعد الآن على حدود إسرائیل .لذا واستباقاً لأیة حرب ممکنة الوقوع ووفقاً للمفهوم الذی تبلور فی سنوات ما بعد حرب الخلیج (الفارسی) الثانیة، والتجارب الصاروخیة التی تجریها إیران، رفع الجیش الإسرائیلی درجة استعداده لمواجهة خطر هذه الصواریخ عن طریق منظومة صواریخ دفاعیة لاعتراض الصواریخ قبل وصولها إلى عمق إسرائیل.
الفصل الثانی
مراحل تطور نظریة الأمن القومی الإسرائیلی
المرحلة الأولى: من قیام الدولة وحتى حرب أکتوبر عام 1973
المرحلة الثانیة: من حرب أکتوبر عام 1973 وحتى حرب الخلیج (الفارسی)
المرحلة الثالثة: من حرب الخلیج (الفارسی) عام 1990 وحتى انتفاضة الأقصى عام 2000
المرحلة الرابعة: من انتفاضة الأقصى عام 2000 وحتى الیوم
الإطار التحلیلی لنظریة الأمن الإسرائیلی فی وثیقة هرتسیلیا
الفصل الثانی
مراحل تطور نظریة الامن الاسرائیلی
المرحلة الأولى: الفترة من قیام الدولة وحتى حرب 1973
افترضت نظریة الأمن الإسرائیلیة دائماً وأبداً بأن الدولة تواجه خطراً یهدد وجودها من جانب الدول العربیة، وأنه لا یوجد لإسرائیل حلفاء مخلصون تستطیع الإستعانة بهم لمواجهة هذا الخطر.
وانطلاقاً من هاتین الفرضیتین أسس المسؤولون عن الأمن فی إسرائیل نظریتهم الأمنیة على مبدأ الإعتماد أولاً وقبل کل شیء على قدرة الجیش الإسرائیلی، ولیس على التسویات السیاسیة أو الحلفاء الخارجیین، وأن مکانة الجیش فی تأمین إسرائیل ضد المخاطر لها الأهمیة الخاصة فی النظریة الإستراتیجیة للأمن القومی الإسرائیلی.
ومنذ حرب 1948 تم رسم الإستراتیجیة الأمنیة على مبدأ الدفاع، أی المحافظة على الوضع الراهن وردع الطرف الآخر عن الحرب، ولکن فی المستوى التکتیکی عند اقتضاء الأمر، توجد لدى هذه الإستراتیجیة نظریة عسکریة هجومیة، أی نقل الحرب إلى أرض الأعداء، وشن هجوم مسبق بقدر الإمکان، وفی ذلک یرى دیفید بن غوریون "أن أخطر عدو لأمن إسرائیل هو الروتین الفکری لدى المسؤولین عن هذا الأمن"، وما عناه بن غوریون فی هذا القول هو أن إسرائیل إذا ما اضطرت للحرب مرة ثانیة فعلیها أن لا تحارب فی الماضی، بل فی المستقبل، وأن ما نجح فی الماضی لیس بالضرورة أن ینجح وأن یتلاءم مع المستقبل. إن ما دفع بن غوریون إلى هذا الرأی هو إدراکه أن بعض قادة الجیش فی إسرائیل یفضلون التعایش مع إرث انتصاراتهم، ولا یرون ما یتطلبه الوقت الراهن، حیث رد علیهم فی إحدى اجتماعاته بهم قائلاً: "إن الدفاع المحلی الثابت لم یعد الشیء المهم فی دفاعنا، لذا یجب علینا أن نرى مشکلة الأمن وأسلوب دفاعنا بعین جدیدة، لیس دفاعاً محلیاً بل إقلیمیاً، لیس دفاعاً ثابتاً بل دفاعاً دینامیکیاً، لیس أمن النقاط وإنما أمن المستوطنات والمواصلات ... إن کل مصطلحات الدفاع التی کانت متبعة لدینا فی الماضی أصبحت الآن قدیمة ومضى وقتها ... لقد تغیّر الوضع من أساسه، وإذا کنا لا نشعر بهذا التغییر فهذا ناجم فقط عن التفکیر الروتینی ... نحن بحاجة إلى نظریة جدیدة نرى من خلالها الوضع الراهن وجمیع التغییرات التى تطرأ علیه فی کل آن. "آرئیل لفیتا، النظریه العسکریة الإسرائیلیة: دفاع وهجوم".
مصادر النظریة الأمنیة
أعتقد أن علینا أن نتناول فی هذا الفصل الدوافع المادیة الأساسیة لتبنی النظریة الأمنیة، ولأغراض التوضیح نفترض أن اختیار النظریة لم یأت مصادفة، أو أنه کان ینبع من غریزة التفکیر المفرط لتقلید جیش أجنبی أیاً کان.
یترکز البحث هنا على مصادر النظریة فی مجموعة الفرضیات والتقدیرات التی جمعت من مصادر مختلفة وتبلورت على المستویین السیاسی والعسکری الإسرائیلی وأجمع الکل على نجاعتها النسبیة، وتمت ملاءمتها من النواحی (الجغرافیة، السیاسیة، الإجتماعیة، والإقتصادیة) وما شابه ذلک مع متطلبات وضغوطات وظروف المنطقة التى تتمیز بها اسرائیل.
إن حجر الزاویة الخاص بالنظریة الأمنیة الإسرائیلیة یمکن العثور علیه فی الفرضیات الأساسیة التی صاغها "دیفید بن غوریون"، وأن الفرضیة الأساسیة بین تلک الفرضیات هی (أن وجود اسرائیل بالذات معرض للخطر من جانب الأعداء المحیطین بها من کل جانب ویطمحون للقضاء علیها بکافة الطرق، أی أن الخطر هو خطر وجودی)، وقد کرر بن غوریون هذه الفرضیة فی مناسبات عدیدة، اخترنا هنا بعضاً من أقواله لکی نتناولها بالتحلیل والدراسة.
"... إن جوهر مشکلة أمننا هو وجودنا بالذات وهذا هو المعنى الفظیع لمشکلتنا الأمنیة، إن هذه الحرب تهدف إلى إبادة الإستیطان الیهودی وتدمیره، وإن العرب یعرفون بأنه لن تکون هناک سلطة عربیة فی هذه البلاد طالما بقی الیهود هنا مع أنهم یشکلون أقلیة بالنسبة للعرب، وإن الهدف السیاسی للعرب یستوجب القضاء على هذه الحقیقة المزعجة أی محو الیهود من على وجه هذه الأرض". "أرئییل لفیتا، مرجع سابق".
وانطلاقاً من هذا التعریف لمشکلة الأمن الإسرائیلیة انبثقت ضرورة البحث عن الحلول والوسائل لضمان بقاء وجود اسرائیل.
وخلال البحث عن الحلول لمشکلة الوجود تبنّى واضعو النظریة فرضیتین أساسیتین:
الأولى: أنه لا یمکن لإسرائیل أن تعتمد على عنصر أو عناصر خارجیة مهما کانت لضمان وجودها.
الثانیة: أن إسرائیل لن تستطیع تسویة النزاع بالوسائل العسکریة، وأنه لن یکون بالإمکان تحقیق حسم عسکری یؤدی إلى فرض شروط إسرائیلیة للتسویة فی الشرق الأوسط.
وهذا ما صرح به زعماء سیاسیون وعسکریون إسرائیلیون منهم رابین وبیریس وشارون نفسه، وقبلهم موشیه دیان وزئیف شیف ورفائیل إیتان ... وآخرون.
إن المغزى العملی لهاتین الفرضیتین هو ضرورة تأسیس أمن إسرائیلی على قوة الجیش من أجل الردع والعمل وقت الضرورة، ولکن استخدام الجیش یجب أن یکون فقط لأهداف إستراتیجیة دفاعیة، أی المحافظة على الوضع الراهن، ونظراً لأهمیة هذه الفرضیة فی رسم الطریق التی یمکن للجیش أن یوفر من خلالها الأمن للدولة ویضمن بقاءها نرى أنه من المناسب التوسع فی الحدیث عنها.
إن الإفتراض الأساسی لدى إسرائیل هو أنها لا تستطیع أن تعتمد فی ضمان أمنها على أی عنصر أجنبی، فقد تبنت إسرائیل تقدیر الموقف الذی بلوره بن غوریون لدى قیام الدولة وهو أن التأیید والتعاطف والمساعدة السیاسیة والعسکریة التی حظیت بها إسرائیل من دول مختلفة أثناء التصویت فی الأمم المتحدة على قرار التقسیم، لا یمکن أن تشکل دلیلاً على استعداد هذه الدول لأن تهبّ لنجدة إسرائیل إذا تعرضت لخطر یهدد وجودها. وقد ذهب بن غوریون لتوضیح هذه الفرضیة إلى تقسیم العالم إلى خمس کتل حسب علاقتها مع إسرائیل، وکانت الکتلة الأکثر تأییداً لإسرائیل فی نظره هی الکتلة التی اعترفت بإسرائیل وبوجودها ولکنها فی الوقت نفسه لا تبدی مبالاة بِشأن تعرض هذا الوجود للخطر، لذلک قال: "علینا أن نعی الحقیقة المجردة البسیطة والقاسیة فی آن واحد ألا وهی أنه بالنسبة لأمننا یجب علینا أن نعتمد أولاً وقبل کل شیء على أنفسنا فقط وعلى قدرتنا ولیس على قوى خارجیة ..."، وقال فی مناسبة أخرى: "علینا أن نعتمد على أنفسنا وعلى قوتنا نحن، ویجب أن تکون هذه القوة قادرة على الحسم ... وعلینا الإستعداد للحرب من خلال الإعتماد على قدرتنا نحن ... إن مصیرنا ومصیر الإستیطان الیهودی والشعب والدولة الیهودیة یتوقف علینا قبل کل شیء".
ویستدل الإسرائیلیون المؤمنون بهذه الفکرة بالموقف الامیرکی الضاغط على إسرائیل من أجل الخروج من سیناء عام 1956، واتفاقیة الدول العظمى بشأن التنسیق فی بیع الأسلحة لمنطقة الشرق الأوسط، کأمثلة على صحة هذه الفرضیة.
إلا أن هذا التقدیر لم یمنع بن غوریون ومن جاء بعده من زعماء إسرائیل من السعی إلى التوصل إلى تفاهمات وتعاون استراتیجی على الأقل مع دولة عظمى، وعلى سبیل المثال فرنسا فی الخمسینیات ومطلع الستینیات، ومن ثم الولایات المتحدة بعد ذلک، ولکن حتى ذروة هذا التعاون ومع تلک الدول العظمى، ورغم أهمیته البالغة إلا أنه لم یعتبر فی یوم کضمان کاف للمحافظة على وجود الدولة، والذی یمکن أن یوفر علیها ضرورة بناء قوة دفاعیة ذاتیة کاملة. وذلک لأن الأحداث التی شهدتها منطقة الشرق الأوسط أثبتت لدى القادة الإسرائیلیین بأنه لا یمکن الثقة المطلقة بتعهدات أیة دولة من هذه الدول، وأن مصداقیتها بحاجة إلى وقت طویل واختبارات عملیة لإثبات نفسها.
ومن بین هذه الأحداث نذکر على سبیل المثال: موقف الولایات المتحدة عام 1956 الذی أدى إلى تراجع کل من بریطانیا وفرنسا وإسرائیل فی الحملة على مصر، ومثال آخر یکمن فی التحول فی الموقف الفرنسی تجاه مشکلة الشرق الأوسط وإسرائیل فی النصف الثانی من سنوات الستینیات، وکذلک عدم قیمة الوعود الامیرکیة بشأن ضمان حریة الملاحة فی مضائق تیران عام 1967، والعراقیل والصعوبات التی واجهت عملیة تسییر القطار الجوی الامیرکی لإسرائیل فی حرب تشرین أول / أکتوبر عام 1973.
علاوة على ما سبق یمکن القول إنه تولدت لدى الزعامة الإسرائیلیة قناعة بأن بناء القدرة الدفاعیة المستقلة تعتبر شرطاً لا بد منه، حتى تبدی الدول العظمى استعدادها لدعم إسرائیل والتعاون معها، أی أن کسب تأیید الدول العظمى والتعاون الإستراتیجی معها یصبح ممکناً فقط اذا رأت هذه الدول أن إسرائیل قویة وقادرة على الدفاع عن نفسها. وفی هذا السیاق یقول: بن غوریون: "إننی لا أقول أننا لن نحصل علی مساعدات خارجیة، ولکن إذا کان هناک أمل فی الحصول على مثل هذه المساعدة والأمل موجود فعلاً - فما الذی یمنعنا من أن نثبت للعالم بأننا لسنا مرتبطین فقط بالمساعدات الخارجیة، وأننا قادرون على بناء قوتنا والإعتماد على أنفسنا، حتى أن الله یساعد فقط أولئک الذین یساعدون أنفسهم ... ".
أما الفرضیة الثانیة المتعلقة بعدم قدرة إسرائیل على حسم النزاع بالوسائل العسکریة فقد جاءت أیضاً فی تقدیر الموقف الذى بلوره بن غوریون فی الأیام الأولى لقیام إسرائیل، لقد قال بوضوح: "لیس لدینا إمکانیة حل النزاع نهائیاً مع العرب طالما لا یرغب العرب بذلک ... إننا لا نستطیع وقف النزاع مع العرب فی حین أنهم قادرون ... فارق تاریخی واحد بیننا وبین العرب ... من جانبنا لیست هناک معرکة أخیرة وإننا لا نستطیع الإفتراض ولا فی أی وقت من الأوقات أننا قادرون على توجیه ضربة واحدة قاضیة للعدو، وأن تکون تلک المعرکة الأخیرة هی التی لا نحتاج بعدها إلى الإصطدام معهم، ولن یکون بعدها خطر نشوب حرب جدیدة، وعلاوة على الفرضیات الأساسیة لنظریة الأمن الإستراتیجی کما ذکرناها سابقاً، هناک فرضیات مرکزیة تتعلق بالوضع الإسرائیلی الخاص، وأخرى تتعلق بظروف المنطقة عامة، وأول هذه الفرضیات المرکزیة تنبع من نقطة ضعف إسرائیلیة فی مجال الموارد القومیة (الطاقة البشریة - الأرض - الثروات الطبیعیة).
یقول بن غوریون فی جوهر هذه الفرضیة: "نحن أقلیة وعلینا أن نجابه أغلبیة، وهذا الفارق لن یتغیر ... إن هذا حکم التاریخ والجغرافیا". "عمنوائیل فالدر، انهیار نظریة الأمن الإسرائیلی". وقد استخلص مخططو نظریة الأمن من هذه الفرضیة عدة استنتاجات رئیسیة، طُبق معظمها لدى قیام اسرائیل و بعد ذلک کما سنرى.
أولاً: إن إسرائیل لا تسمح لنفسها بجیش کبیر، بل ستضطر للاعتماد على قوة انقضاض نظامیة (سلاح الجو والقدرات البریة المتحرکة) متعددة المهام صغیرة الحجم نسبیاً، لکنها ممیزة من حیث النوعیة تضم جیشاً نظامیاً وجیشاً من الإحتیاط ذا قدرة عسکریة هامة مع إمکانیة تجنید بأقصر فترة زمنیة ممکنة، فی هذا الصدد یقول موشی دیان: "إن أمننا یعتمد أولاً وقبل کل شیء على جیش الإحتیاط، إن أمننا مبنی على شعب مقاتل، لذلک من الضروری الإحتفاظ بنواة عسکریة ذات نوعیة عالیة تستطیع استیعاب الشعب المجند.
وهناک أیضاً استنتاجات عملیة أخرى انبثقت عن هذه الفرضیة المرکزیة وهی: ضرورة تقصیر أمد الحرب إلى أدنى حد ممکن، والإمتناع بقدر الإمکان عن فرض حرب الإستنزاف. وهناک استنتاج آخر أعتقد أن النظریة الأمنیة الإستراتیجیة فی إسرائیل قد وضعته فی الإعتبار بناء على الفرضیة السابقة بشأن عدم تطابق المصادر بین إسرائیل والعرب، یقضی بأنه فی حال نشوب حرب یجب أن تعمل إسرائیل على تدمیر قوى العدو سواء من أجل فرض وقف إطلاق النار، أو من أجل تأجیل موعد الحرب القادمة قدر الإمکان. وقد أشار بن غوریون إلى ذلک بشکل واضح قائلاً: "إن الإنتصار الذی یؤدی إلى تدمیر قوى الأعداء هو فقط الذی یحسم الحرب والمشکلة التی نواجهها فی ذلک هی کیف ننظم جیشنا بشکل یجعله قادراً على الصمود وتدمیر قوى الأعداء وتحطیم رغبته فی مواصلة الحرب." عمنوائیل فالدر، المرجع السابق".
ثانیاً: هناک فرضیة تتعلق بعدم وجود عمق إستراتیجی فی إسرائیل إضافة إلى طول الحدود مع الدول العربیة، وقرب التجمعات السکانیة الیهودیة والبنیة التحتیة للدولة العبریة، من حدود الدول المعادیة.
وهذه الفرضیة أدت إلى الإستنتاج بأن إسرائیل لا تستطیع السماح لنفسها بإدارة الحرب على أرضها، وقد کان لهذا الإستنتاج وزن کبیر فی رسم النظریة الأمنیة الإستراتیجة لإسرائیل.
ففی عام 1967 تذرعت إسرائیل بالقرار المصری الخاص بسحب المراقبین الدولیین من الحدود لشن حرب استباقیة کانت قد أعدت لها العدة والعتاد، لتحقیق نصر سریع على الأعداء فی أرضهم قبل أن یهاجموها، وقد حققت إسرائیل فی هذه الحرب الکثیر من أهدافها التکتیکیة والعسکریة وولدت شعوراً بالأمن، وأصبحت إستراتیجیتها الأمنیة تولی الاعتبار للأهداف الإستراتیجیة الدفاعیة القائمة على أساس الحفاظ على الوضع الراهن.
ثالثاً: فرضیة أخرى تتعلق بالوضع السیاسی، وتحقیق النتائج المطلوبة من الحرب، وتقضی هذه الفرضیة بأن الوضع السیاسی الداخلی والخارجی یستوجب أن تنتهی کل مواجهة عسکریة بین إسرائیل والدول العربیة بانتصار عسکری إسرائیلی سریع وقلیل الضحایا. و قد نوّه بن غوریون إلى هذه الفرضیة بقوله: "یجب أن تکون خططنا الحربیة الدفاعیة موجهة لیس فقط لتحقیق النصر على العدو، بل لتحقیق نصر سریع". وقد توسع شمعون بیرس فی الحدیث عن هذه الفرضیة قائلاً: "یجب أن یحسم الجیش الحرب بأسرع ما یمکن، ویجب أن یحطم رغبة الدول العربیة وقدرتها الحربیة عن طریق تدمیر القوات العسکریة والبنیة القتالیة - حرب هجومیة بهدف تدمیر القدرة القتالیة للقوات الجویة المعادیة فی أقصر وقت ممکن، بأقل ما یمکن من الثمن الإسرائیلی". "صلاح زکی أحمد، نظریة الأمن الاسرائیلی".
رابعاً: تتعلق هذه الفرضیة بتدخل الدول العظمى فی النزاع، وقد أدرک قادة إسرائیل هذه الفرضیة ووضعوها بالاعتبار فی حساباتهم دائماً، یقول شمعون بیرس: "لقد کان طیف تدخل الدول العظمى یحوم فوق إسرائیل فی کل حروبها الماضیة، وذلک بهدف منع تحقیق حسم إستراتیجی کامل، وهذا الشیء متوقع أیضاً فی کل حروب المستقبل".
أما بن غوریون فقد توقع وضعاً تصوّر فیه أنه حتى لو حققت إسرائیل الحسم فی میدان المعرکة، فإن الدول العظمى تستطیع أن تتدخل وتغیر وجه الأشیاء. "زئیف شیف، مقال فی صحیفة هآرتس".
وفی السیاق نفسه أدلى موشی دیان بدلوه فقال: "لقد عرف الجیش منذ بدایة أیامه أنه یجب علیه تخطیط معرکته بشکل یضمن له تحقیق النصر خلال أیام معدودة، لأن حکومته لن تستطیع التنکر لقرارات المؤسسة الدولیة فترة طویلة، التی ستطالبها بوقف إطلاق النار. "عمنوئیل فالدر، مرجع سابق".
والإستنتاج الذی خلص إلیه واضعو نظریة الأمن الإسرائیلی على ضوء الفرضیة السابقة، یقضى بأنه یجب على إسرائیل أن لا تتورط فی حرب مع الدول العربیة قبل أن تضمن لنفسها سلفاً مساعدة وتأیید من إحدى الدول الکبرى، ویمکن إدراک المدلول العملی لهذا الإستنتاج من خلال علاقة إسرائیل بهذه الدولة أو تلک أثناء کل حروبها.
ولو أردنا إجمال ما أوردناه من فرضیات واستنتاجات لتلک الفترة، نستطیع القول إن إسرائیل وضعت إستراتیجیاتها الأمنیة فی الفترة من قیام اسرائیل وحتى حرب 1973 على الأسس التالیة:
- الاحتفاظ بقدرة ذاتیة کاملة للدفاع عن وجودها.
- الإعتماد على جیش نظامی صغیر وجیش احتیاطی کبیر الحجم ویمکن تجنیده بسرعة.
- أن تحارب فقط من أجل أهداف إستراتیجیة دفاعیة.
- أن تقصر بقدر الإمکان مدة الحرب.
- أن تحقق فی کل مواجهة عسکریة حسماً عسکریاً واضحاً بأقل قدر من الخسائر.
المرحلة الثانیة: الفترة من 1973 وحتى العام 1990
ولّدت نتائج حرب الأیام الستة عام 1967، شعوراً بالأمن لدى الإسرائیلیین، وأدى احتلال الأراضی العربیة إلى تقلیل أهمیة وحیویة الهجوم المسبق - ولم یعد هذا المبدأ یشکل فی الواقع عنصراً مرکزیاً فی النظریة الأمنیة الإسرائیلیة.
ولقد أدى الثمن الباهظ الذى دفعته اسرائیل فی معرکة التصدی فی حرب 1973، إلى اعتراف بعض المسؤولین فی القیادة الأمنیة بأن إسرائیل ارتکبت خطأً فاحشاً بامتناعها عن شن هجوم مسبق، ومما قیل فی هذا السیاق ما ذکره رئیس الأرکان سابقاً الجنرال رفائیل إیتان: "کان یجب توجیه ضربة مسبقة على الأقل ضد السوریین فی المرحلة التى أصبح واضحاً فیها أنهم سیبدأون فی الحرب، لأن توجیه ضربة جویة ضد السوریین کان باستطاعتها تشویش إجراء البدء بالحرب،. وکانت فعلاً قد اتخذت الإستعدادات بتوجیه من رئیس الأرکان العام دافید بن العیزر من أجل توجیه ضربة جویة مسبقة، وتم عرض الإقتراح على الحکومة للموافقة علیه لکنه رفض لإعتبارات سیاسیة.
لقد أوضحت رئیسة الوزراء السابقة غولدا مئیر بعد الحرب أسباب هذا الرفض بالقول: "لقد کان على إسرائیل عدم البدء بالحرب حتى لا تُتهم بأنها هی التی بدأت الحرب"، مما یدلل على أن القیادة السیاسیة قلّلت من أهمیة فرضیة الهجوم المسبق مقابل إهتمامها بفرضیة المحافظة على الوضع الراهن وفرضیة الإهتمام بالموقف الدولی. "زئیف شیف، نظریة الأمن الإسرائیلی والحرب القادمة".
وکان من نتیجة ذلک عودة الإعتبار والإهتمام بفرضیة الهجوم المسبق إلى المراتب المتقدمة فی نظریة الأمن الإسرائیلی، وقد صرح بذلک مناحیم بیغن عندما شغل رئاسة الوزراء، فقد عبر عن دعمه لمبدأ قیام إسرائیل بمبادرات عسکریة من جانبها، وقال فی إحدى المناسبات: "یجب أن أقول إنه إذا حدث وأن خرق الطرف الثانی (مصر) الإتفاقیة بشأن المنطقة المنزوعة السلاح (سیناء) سیکون من جانب إسرائیل، أن تدخل إلى هذه المنطقة قوات أقوى من تلک التی أدخلها الطرف الذی خرق الإتفاقات الدولیة. "زئیف شیف، مرجع سابق".
ومثال آخر على عودة العمل بمبدأ الحرب الإستباقیة فی أعقاب حرب غزو لبنان فی العام 1982، حیث أصبح واضحاً فی تلک الفترة زیادة تهدید صواریخ أرض / أرض عربیة ونشوء ظروف جدیدة تسمح للعراق بإرسال قوات إلى الجبهة السوریة، أدى ذلک لسماع أصوات فی إسرائیل تنادی بضرورة شن الهجوم المسبق على سوریا والأردن إذا دخلت أراضیهما قوات عراقیة، وکذلک شن حرب على لبنان بسبب وجود منظمة التحریر والمقاومة الفلسطینیة على أراضیه.
أصبح واضحاً لدى المستوى العسکری فی إسرائیل المیل لشن هجوم مسبق أکثر من ذی قبل، وهذا ما عبّر عنه رئیس الأرکان السابق دان شومرون بقوله: "إذا فوجئت إسرائیل مرة ثانیة بإنذار قصیر فإنه یُفترض أن القیادة العسکریة ستطلب السماح بشن هجوم مسبق، ویفترض أیضاً أن القیادة السیاسیة ستدرس هذا الطلب بصورة تختلف عما فعلته عشیة حرب عام 1973".
هکذا أصبحت النظریة الأمنیة تمیل أکثر إلى الطابع الهجومی، وتولی الأهمیة لمبدأ نقل الحرب إلى أراضی العدو، ومبدأ شن هجوم مسبق.
وهذا الطابع الهجومی للنظریة الإسرائیلیة بعد حرب 1973، یتبع فی أساسه لمجموعة ضغوط ودوافع إستراتیجیة "سیاسیة، إقتصادیة، إجتماعیة، سکانیة، جغرافیة"، إضافة إلى اعتبارات عسکریة، دفعت مخططی نظریة الأمن الإسرائیلی إلى الإعتراف بأن یُطلب من الجیش تحقیق النصر الواضح فی کل مواجهة عسکریة مع العرب، وأن ینهی الحرب فی أسرع وقت ممکن، وهی فی الواقع أهداف یتطلب تحقیقها الاعتماد على نظریة تمیل إلى الطابع الهجومی.
لذلک یمکن القول إن النظریة الإستراتیجة للأمن الإسرائیلی أصبحت تعتمد على الدمج بین أهداف إستراتیجیة دفاعیة وتکتیکات عسکریة هجومیة، وانطلاقاً من هذا المفهوم هناک أهمیة خاصة للملاءمة بین نظریة وأهداف إستراتیجیة لدولة ما مع واقع وضغوط متغیرة تفرض نفسها على هذه النظریة، ولقد فصل إسحق رابین أهداف القوة العسکریة الإسرائیلیة من وجهة نظره قائلاً: إن لها ثلاثة أهداف، الهدفان الأولیان دفاعیان: ضمان الوجود القومی وتوفیر الأمن للدولة ولسکانها ومصالحها الحیویة. أما الهدف الثالث فهو المساعدة فی تحقیق أهداف سیاسیة بوسائل عسکریة أهداف مثل فرض سلام على دولة أو أکثر، وفی مناسبة أخرى قال رابین: "سواء فی حرب سیناء أو سلامة الجلیل شرعت إسرائیل الحرب من أجل فرض هدف سیاسی بوسائل عسکریة.
وهنا لا بد من التطرق إلى أهم المتغیرات التی طرأت على وضع إسرائیل السیاسی والعسکری والتکنولوجی والإقتصادی والإجتماعی، ومدى تأثیر ذلک على واضعی ومخططی النظریة الأمنیة الإسرائیلیة.
1- المجال السیاسی: أبرز وأهم متغیر فی المجال السیاسی هو العلاقات الإسرائیلیة الامیرکیة بعد تطور بطیء تخللته فترات مد وجزر إلى أن وصلت إلى درجة الحلف الإستراتیجی بین الدولتین، وحصول إسرائیل على مکانة الدولة الحلیفة غیر العضو فی حلف شمال الأطلسی، تلک المکانة التی منحت إسرائیل أهمیة وفوائد کبیرة ومتنوعة.
کما طرأ تحول آخر رئیسی على وضع إسرائیل السیاسی فی مجال النزاع العربی الإسرائیلی نتیجة مسیرة المفاوضات المصریة الإسرائیلیة فی أعقاب حرب 1973، بلغت نهایتها مع توقیع اتفاقیة السلام بین البلدین عام 1979، وأدى ذلک إلى إخراج أکبر دولة عربیة مجاورة مع إسرائیل من دائرة الحرب، وکذلک تحول الأردن إلى خارج نطاق القتال النشط مع إسرائیل، وأصبحت لبنان کدولة لا تشکل تهدیداً على إسرائیل.
کما کان من نتائج حرب 1973 اعتراف إسرائیل بعدم قدرتها على حل النزاع بالطرق العسکریة فقط مما حفز زعماءها على البحث عن حلول سیاسیة.
2- فی المجال العسکری: فی أعقاب حرب 1973 طرأت تغییرات وتحولات فی المجال العسکری عامة، ومن بینها التغییرات التی طرأت على النظریات العسکریة فی الدول العربیة وخاصة فی سوریة فی أعقاب تلک الحرب والدروس المستفادة منها، وترکز التطور فی النظریة العربیة على تقلیص الفجوة بین نقاط القوة فی الجیش الإسرائیلی، ورکزت هذه النظریة على بناء نظام متنوع من الأسلحة المقاومة للدبابات والتحصینات والعوائق، بهدف تقلیص حریة المناورة للدروع الإسرائیلیة فی المعارک البریة من جهة، ومن جهة أخرى بناء نظام دفاع جوی کبیر ومتنوع بهدف تقلیص حریة المناورة الجویة، ومنع سلاح الجو الإسرائیلی من تقدیم الدعم والإسناد القریب للقوات البریة الإسرائیلیة.
کما شهدت الجیوش العربیة تطوراً تدریجیاً نحو قوة متحرکة آلیة ومدرعة ذات قدرة هجومیة، کما طرأت زیادة ملموسة على حجم القوات العسکریة النظامیة وبخاصة فی سوریا، رداً على إبطال أهمیة الزیادة الموازیة التی حصلت فی القوات النظامیة فی الجیش الإسرائیلی فی أعقاب الحرب.
3- فی المجال التکنولوجی: حدث تطور فی مجال تکنولوجیا الأسلحة الموجهة وبعیدة المدى، ومیزة هذه الظاهرة هی القدرة على تدمیر أهداف بعیدة للغایة، الأمر الذی من شأنه فصل عنصر تدمیر الأهداف عن عنصر احتلال الأرض، وما قد یترتب على هذا المتغیر من دخول دول عربیة بعیدة عن حدود إسرائیل إلى دائرة الصراع دون إرسال جیوش فی حالة نشوب حرب جدیدة مثل العراق أو لیبیا أو حتى إیران ... کما أدخلت إسرائیل طائرة الهیلوکبتر الهجومیة إلى سلاحها الجوی.
4- فی المجال الجغرافی الإستراتیجی: تمثلت مشکلة إسرائیل منذ قیامها حتى حرب 1967 فی قرب التجمعات السکانیة والمناطق الحیویة من حدودها مع العرب، أی عدم توفر عنصر العمق الإستراتیجی، وقد حدث تحول مهم نتیجة حرب 1967 ولا یزال هذا التحول قائماً حتى الیوم خاصة على الجبهتین الأردنیة والسوریة، أما على الجبهة المصریة فرغم التوصل إلى اتفاقیة سلام وانسحاب إسرائیل من سیناء، إلا أن تجمعاتها السکانیة ظلت بعیدة عن الخطوط الأمامیة ناهیک عن الإتفاقیة التی نصت على بقاء سیناء منطقة منزوعة السلاح.
5- المجال الإقتصادی: بعد حرب 1973 طرأت زیادة تدریجیة على تخصیص موارد الدولة لأغراض الأمن حتى وصلت إلى حدها الأقصى فی هذا المضمار، فقد فضلت اعتبارات الأمن فی المدى القصیر على اعتبارات النمو الإقتصادی فی المدى البعید.
وفی مجال المساعدات الخارجیة وصلت المساعدة الامیرکیة إلى سقف أعلى بکثیر مما کان یمکن الحصول علیه.
وقد استمر العبء الأمنی على الإقتصاد الإسرائیلی حتى عام 1983، حیث حصل تقلیص حقیقی فی میزانیة الأمن أدى إلى تقلیصات متنوعة وذات أهمیة فی حجم النشاطات العسکریة، کما أدى إلى إبطاء سرعة برامج الأبحاث التطویریة والتسلیح.
6- فی المجال الإجتماعی: من 1973- 1990 موضع بحثنا فی هذه الفترة، برز الرأى العام الإسرائیلی وتنامى تأثیره على موضوع الأمن بشکل عام، وموضوع الحرب بشکل خاص، وکان لهذا الوضع الجدید أبعاد وآثار واضحة على إدارة الحرب المستقبلیة.
ولقد کانت حرب لبنان والنقاش الشدید الذى دار داخل الکیان الإسرائیلی حول مشروعیتها وتوقیتها مؤشراً على أنها المرة الأولى فی تاریخ إسرائیل التی یبرز فیها دور الرأی العام.
ولقد تحدث فی هذا الموضوع بکل وضوح قائد المنطقة الجنوبیة فی عام 1980 ورئیس هیئة الأرکان فیما بعد دان شمرون محذراً: "إن أکبر خطر یهدد شعبنا یتمثل فی تآکل الإجماع الوطنی بالنسبة لما نسمیه حرب مصیر ووجود، مثلاً: الجدال حول ما إذا کانت المستوطنات ضروریة أم لا، أو هل إتفاقیة السلام جیدة أم لا، إن ما أخشاه هو أن یفکر الشعب عندما تندلع حرب قادمة بأن هذه الحرب غیر عادلة أو ضروریة ولیست حرب وجود، الأمر الذى سیکون له تأثیر حاسم على دوافع القتال، إن أی حرب تتوقف فی نهایة الأمر على عنصر إرادة القتال، إن الجیوش تنهار لیس لأنها ضعیفة بشکل عام، بل لأنها تفقد إرادة القتال ... وإرادة القتال منوطة بالدفاع عن هذه الحرب". (أهارون لیبران، انهیار قوة الردع الاسرائیلی).
وقد تحدث بن غوریون کثیراً عن إرادة الحرب، ومما قاله فی هذا السیاق: "لقد هزم السبعمائة ألف یهودی الثلاثین ملیون عربی بفضل قوة الإرادة والتصمیم على القتال وبفضل ذلک انتصرنا". "زئیف شیف، مرجع سابق".
وبناء على هذه المتغیرات الآنفة الذکر حدد مخططو الإستراتیجیة الأمنیة الإسرائیلیة الفرضیات الرئیسیة لنظریة الأمن الإسرائیلی لما بعد حرب رمضان 1973.
وأول هذه الفرضیات أن إسرائیل لا تزال فی حالة مجابهة مع تهدید وجودی.
ثانی هذه الفرضیات أن إسرائیل لیس لدیها القدرة على حسم أو حل النزاع العربی - الإسرائیلی بالوسائل العسکریة فقط.
وأن الإستنتاج الذی خلص إلیه هؤلاء المخططون هو: ضرورة اعتماد أمن إسرائیل على قوة عسکریة محلیة یمکن استخدامها لتحقیق أهداف دفاعیة استراتیجیة - الردع - والمحافظة على الوضع الراهن.
إن هذا الافتراض بعدم قدرة إسرائیل على حل النزاع بالطرق العسکریة فقط حفز زعماءها على البحث عن حلول سیاسیة مع الإستمرار فی الإعتماد فی أمنها على القوة العسکریة، ففی نظریة الزعامة الإسرائیلیة لا یزال استخدام القوة العسکریة العنصر الثابت وإن لم یصبح الوحید بعد حرب 1973، وخیر مثال على ذلک حرب لبنان التی شنتها إسرائیل لإحداث تغییرات فی منطقة الشرق الأوسط بعیدة الأثر بوسائل عسکریة، ولکن فشل حرب عام 1982 على لبنان فی تحقیق هذا التغییر قد عزز البرهان على صحة هذا الإفتراض.
یقول إسحق رابین بصورة واضحة بهذا المعنى "إن سوریا هی الدولة الوحیدة التی تهدد إسرائیل عسکریاً، ولکن لا یوجد أی سبب لدى إسرائیل سیاسیاً أو عسکریاً یدفعها للمبادرة فی حرب ضد سوریا، إن الأمر لا یساوی الثمن المؤلم الذى تتطلبه الحرب، إن التاریخ العسکری یُثبت بأن 80% من الحالات التی تنشب فیها الحروب تکون فیها الدول المبادرة للحرب هی التی تفشل فی نهایة الأمر".یتبع...
*الدکتور محمد المصری
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS