نظریة الامن الاسرائیلی (1)
یعتبر کتاب نظریة الامن الاسرائیلی للدکتور محمد المصری اضافة حقیقیة ومهمة للمکتبة الامنیة لدول عربیة واسلامیة نظرا لما عرف عن الکاتب من درایة وبحث مهنی وعلمی رصین فی کافة مؤلفاته .
وننشر النص الکامل للکتاب نظریة الامن الاسرائیلی منقول من"دنیا الوطن" لتحقیق الفائدة لدى القراء والمختصین:
مقدمة
هل یعتبر مفهوم الأمن القومی حقیقة أم مجرد خیال؟ وهل الأمن القومی الفلسطینی من أولویات فکر المسؤولین وصناع القرار فی السلطة الوطنیة التی لم تکتمل سیادتها بعد على الأراضی الفلسطینیة؟
لقد حددت إسرائیل أولویات أمنها القومی منذ نشأتها، بل إن قادتها قد وضعوا فرضیات هذه النظریة قبل قیام إسرائیل، لیتوصلوا لاحقاً إلى وضع الإستراتیجیات ورسم السیاسات للرد على تلک الفرضیات.
إن هذا الکتاب یتعرض لمسألة الأمن القومی الإسرائیلی بالتحلیل والدراسة، ویتتبع تسلسل تطورها حسب الظروف والأحوال فی محاولة متواصلة من القادة السیاسیین والعسکریین ونخبة من المفکرین لتصور احتمالات الأخطار التی قد تهدد إسرائیل فی وجودها أو فی تقدمها وإزدهارها.
وفی هذا السیاق یتتبع الکتاب تطور مفهوم الأمن القومی الإستراتیجی الإسرائیلی الواسع، بدءاً من الأمن العسکری إلى الأمن الغذائی، وهدف هذه الدراسة هو تحفیز الفکر الفلسطینی أولاً والعربی عامة على الشروع الفوری فی التفکیر فی المستقبل والتحدیات التی تواجهنا، بدءاً بوضع المفهوم العام والإطار الفکری لنظریة الأمن القومی، من خلال وضع الفرضیات التی تهدد الأمن القومی الفلسطینی الخارجیة والداخلیة، وصولاً إلى النظریة والإطار العام، مع إعطاء الأولویة لجعل هذه العملیة دائمة ومستمرة تأخذ بعین الاعتبار المتغیرات والمستجدات على الساحة الداخلیة والخارجیة، فالنظریة الأمنیة لیست نظریة جامدة مقدسة بل هی رؤیة واقعیة متجددة ونظرة شاملة، تحدد الأخطار وتضع الحلول وتسعى لتوفیر الإمکانیات اللازمة لهذه الحلول.
فإذا کان مفهوم الأمن القومی هو ما یقوم به الکیان الاسرائیلی من إجراءات فی حدود طاقتها للحفاظ على کیانها ومصالحها فی الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغیرات المحلیة والدولیة، فأین یقع مفهوم الأمن القومی فی الفکر الفلسطینی؟ هل یدخل فی إطار المبادئ فیکون متماهیاً مع المفهوم العربی للأمن القومی؟ أم یقع فی إطار القیم فیکون متماهیاً مع مفهوم المصلحة الوطنیة؟
من خلال هذین الموقعین فإنه یتوجب على الفکر الأمنی الفلسطینی أن ینظر للأمن القومی کتطبیق مؤقت للأمن القومی العربی ولیس بدیلاً عنه. إن الأمن القومی العربی یدور فی مفهوم یتضمن قدرة الدول العربیة على حمایة الکیان الذاتی للدول العربیة من أیة أخطار ناتجة أو محتملة، مما یعنی أن الأمن القومی العربی یتخطى المفهوم العام لتحقیق الفکرة القومیة الجماعیة، ویهتم بمفهوم التجزئة والقطریة، حیث تهتم کل دولة بأمنها ومصالحها الذاتیة. لذلک نجد أن کل دولة عربیة ترسم سیاستها الإقلیمیة والدولیة وتنفذها على المستوى الأحادی، ففی عقد الأربعینیات والخمسینیات کان طموح العرب هو التحرر من المحتل الأجنبی وتحقیق الوحدة العربیة، وفی الستینیات ومطلع السبعینیات کان طموح العرب تحقیق التضامن العربی، وبعد ذلک أصبح الطموح هو وقف حالة الإقتتال والتنازع والصراع .
فأین یقع الطموح الفلسطینی فی تحقیق الأمن القومی للکیان الفلسطینی؟
إن المعنیین بالأمن القومی الفلسطینی یتوجب علیهم الأخذ بعین الإعتبار أهم التحدیات التی تعترض وتواجه أمن ومستقبل هذا الکیان، ومن أهمها:
1. وجود إسرائیل القائم على الأرض الفلسطینیة، وخطرها لا یکمن فقط فی احتلالها للأرض الفلسطینیة والعربیة، بل فی الأهداف العلیا للحرکة الصهیونیة، القائمة على التوسع واحتلال المزید من الأراضی العربیة، ویمکن أن نضیف إلى التهدیدات العسکریة الإسرائیلیة المباشرة، تهدیدات أخرى تتمثل فی تضییق الخناق على المصالح والأهداف الوطنیة الفلسطینیة.
2. فی المجال السیاسی: یعانی الکیان الفلسطینی من مظاهر التوتر وعدم الاستقرار الداخلی الناتج عن الصراع الحزبی وعدم التوصل إلى سیاسة إستراتیجیة موحدة للمواجهة مع إسرائیل، وهذا ینعکس أیضاً على العلاقات مع الدول العربیة ودول العالم بشکل عام.
3. فی المجال الإقتصادی: یعانی الوضع الإقتصادی فی فلسطین من غیاب التخطیط التنموی المتکامل مع الأخذ بعین الإعتبار قلة الموارد وتبعیة الإقتصاد الفلسطینی للإقتصاد الإسرائیلی، بل الأخطر من ذلک تبعیته للأمن الإسرائیلی. ناهیک عن البطالة وتدمیر القطاع الزراعی نتیجة السیاسات الإسرائیلیة وخاصة سیاسة العقاب الجماعی، کما أن الوضع فی القطاع الصناعی أشد تعقیداً وسوءاً.
4. فی المجال الإجتماعی: تعرض النسیج الإجتماعی فی السنوات الأخیرة إلى تهدید داخلی نتیجة التجاذبات السیاسیة والأوضاع الإقتصادیة.
5. لعل أهم هذه التحدیات التی تواجه وضع إستراتیجیة أمن قومی فلسطینی هو غیاب صفة اسرائیل عن هذا الکیان، والتحدی الآخر یکمن فی غیاب الهدف الإستراتیجی الموحد للحرکة الوطنیة الفلسطینیة، فکل فصیل یحاول أن یملی رؤیته ویفرضها. وفی غیاب هذا المفهوم الواضح یضیع الجهد المبذول لإیجاد إستراتیجیة قومیة للأمن الفلسطینی.
یندرج المفهوم الأمنی فی التقالید العسکریة الإسرائیلیة ضمن مجموعة من العناصر التی تُعبّر عن ذاتها فی إطار عام من المبالغة، لم تعهدها دول العالم قدیماً أو حدیثاً، وهذا الإطار العام یهدف أول ما یهدف إلى مجابهة أیة محاولة عربیة لإتخاذ بعض التدابیر الدفاعیة، ضد أسلحة الدمار الشامل التی تنفرد إسرائیل بامتلاکها فی المنطقة، أو حتى إتخاذ بعض الإجراءات لإعادة ترتیب البیت العربی فی مسیرة السلام. وعلى النقیض من ذلک، فإن إسرائیل تسارع إلى وضع العراقیل والمتاهات وافتعال الأعذار لکی تحبط مساعی العرب والفلسطینیین لتحقیق السلام الشامل والعادل، وفی الوقت ذاته تضع إسرائیل إمکاناتها الإعلامیة والعسکریة لإحباط نهوض أیة قوة عسکریة عربیة، الأمر الذی من شأنه أن یشحذ الهمم لتغییر الخیار الإستراتیجی العربی الوحید، ألا وهو خیار السلام إلى خیار أو خیارات أخرى قد تمثل منعطفاً خطیراً بالفعل على اسرائیل.
کما یندرج ذات المفهوم ضمن سیاق مرتبط بالنظرة الإسرائیلیة إلى الذات ونظرة الیهود إلى غیر الیهود، فالنظرة إلى الذات تعنی ذلک الشعور النفسی الداخلی للإنسان الیهودی القادم من الخارج بحثاً عن تحقیق الذات بعیداً عن "موروث الهولوکست"، و الاغتراب فی أرض المیعاد فی أجواء دولة عسکریة تعتمد على القوة - فی المقام الأول - لاستمراریة وجودها والحفاظ على ما سلبته من الأراضی العربیة، وهی بذلک تکون نظرة مستغرقة فی البحث عن الأمن أولاً وقبل کل شیء، وبالمقابل نجد نظرة الیهود إلى غیر الیهود نظرة تشوبها مقومات الإستعلاء الحذر وعدم الثقة انطلاقاً من دوافع دینیة صرفة أو من دوافع أفرزتها دواعی احتلال أراضی الغیر، واستیطان الأرض وإبادة شعبها أو تهجیره فی سیاق یُذکّر بالمعتدی النازی، وذلک إلى الحد الذی یعبر عنه مصطلح "الصهیونازیة" أصدق تعبیر عن هذا التوحد.
وفی ضوء ذلک لا یمکن النظر إلى نظریة الأمن الإسرائیلی باعتبارها أداة للحمایة الذاتیة کما عبرت عن ذلک تاریخیاً تلک التقالید السیاسیة الثابتة، التی اتبعتها الحکومات الإسرائیلیة المتعاقبة، إنما یمکن التعامل معها کونها المنطق الفکری الذی یراد به تبریر سیاسة السیطرة وفرض الهیمنة الکاملة على الأرض ومن حولها من دول الجوار، بهدف ردع أیة محاولات لاختراقات أمنیة محتملة لاستعادة الحقوق المسلوبة.
وفی هذا السیاق یمکن الإشارة إلى أن مفهوم الأمن الإسرائیلی یرتبط دراماتیکیاً بالنظرة الإسرائیلیة إلى الذات ونظرة الیهود إلى أنفسهم، وهو الأمر الذی یؤدی إلى توظیف التفوق العسکری لتحقیق التوازن والاستقرار کما تراه المؤسسة العسکریة الحاکمة فی إسرائیل. "غادة کنفانی، نظریة الأمن الإسرائیلی". وتحدیداً فهو یربط مفهوم الاستقرار بالردع والقدرة على التهدید به ومن ثم إجبار الطرف الآخر (دول الجوار العرب) على الاستجابة لما تراه إسرائیل مناسباً لأجوائها.
کما یمکن أن یتشکل مفهوم الأمن الإسرائیلی بصورة تعتمد على تفوق قدرته العسکریة فی المنطقة، الأمر الذی یفرز حالة من عدم التفکیر (من قبل دول الجوار والدول العربیة مجتمعة) فی محاولة اختراق هذا التفوق والتسلیم بالأمر الواقع واتخاذ خطوات وقائیة، بدلاً من التفکیر فی حشد القوات العسکریة العربیة لاختراق ذلک التفوق العسکری الإسرائیلی الذی یشکل قوة ردع ضاربة فی المنطقة بأسرها. "صلاح إبراهیم، إستراتیجیة الأمن القومی الإسرائیلی".
وإذا ما علمنا أن دولة إسرائیل قد نشأت "وسط بحر من الأعداء" کما یقول الکاتب الاسرائیلی هارون باریف فی مقالة له نشرتها "المنار للصحافة والنشر"، فإن تمتع دولة إسرائیل بمساحة جغرافیة صغیرة یفقدها العمق الإستراتیجی، لذلک فإن نظریة الأمن لدیها تخضع للتغییر والتجدید والتطور باستمرار مقارنة بما یحدث من تطورات داخلیة أو إقلیمیة وعالمیة تجری ضمن ظروف تاریخیة معینة، أی أن موضوع الأمن مصدر قلق دائم للمؤسسة العسکریة الإسرائیلیة وهو یمثل بؤرة إهتمام قصوى تسبق أیاً من الأولویات الأخرى.
یقول شمعون بیریز فى کتابة "الشرق الأوسط الجدید" حول هذه المسألة: "إن موضوع الأمن لا یمکن اعتباره موضوعاً قابلاً للنقاش أمام أی رئیس حکومة إسرائیلیة، إنه موضوع حیاة أو موت بالنسبة لنا جمیعاً، وعلیه فإن النظر للأمن الاسرائیلی یجب أن یتقدم سلم الأولویات قبل تنفس الهواء، فبقدر ما نضغط أمنیاً على أعدائنا بقدر ما تتوفر فرص البقاء والوجود".
کما یشیر أحمد بهاء الدین فی کتابه "إسرائیلیات" إلى أن مفهوم الأمن الإسرائیلی قد تنامى وأصبح من أهم ضرورات البقاء، وذلک یعود إلى عاملین أساسیین داخل إطار الدائرة الدینیة والتی تؤکد أولاً أن إسرائیل هی "وعد الرب لنبیه إبراهیم "، وهی حلم صهیون، وأن هذا الحلم الذی توارى فی سنوات الشتات والاضطهاد بفعل ظلم وطغیان قوى القهر والبغی لم یکن غائباً عن وجدان بنی إسرائیل، والثانی ینبع من کون إسرائیل أقیمت فوق أراضی فلسطین التاریخیة وسط موجة من العداء المستحکم والمفروض فرضاً على أرض الواقع، ففی الإعتقاد الإسرائیلی: "إن تقدیم تنازلات من أراضی إسرائیل الکبرى یجب ألا یمس بجوهر الأمن الإسرائیلی بأی حال من الأحوال. "بنیامین نتنیاهو، مکان تحت الشمس".
ویرى "إیغال الون" أن مفهوم الأمن الإسرائیلی - حتى قبیل إنشاء الکیان الاسرائیلی یعتمد على ما ورد فی التوراة من نصوص، حیث ذکر أن من یصادر أحلام أو طموحات بنی إسرائیل إنما یصادر حقاً شرعه الرب، کما أنه یصادر القوة الروحیة الجبارة التی تدفع الیهود دفعاً للعمل والمثابرة والتضحیة، بالإضافة إلى أن حلم صهیون وأرض المیعاد ما هی إلا عوامل ربط یهود الشتات بأرض یهود إسرائیل، وکل من تجرأ على حلم صهیون فإنه یجرد الصهیونیة من مقوم الوحدة بین یهود العالم وبین أرض صهیون، وهو ما یقوض أرکان الأمن الإسرائیلی.
وعلى الرغم من هذه النظرة لمفهوم الأمن نجد إتساع رقعة التوجه استراتیجیاً فى السنوات التى تلت إعلان اسرائیل، فی الوقت الذی ربحت به إسرائیل بقرار التقسیم عام 1947. وقد اکتفت بالحدود الضیقة التى منحها القرار لها، ووجدناها عام 1967 تجاوزت تلک الحدود الأمنیة وانطلقت لتهدید أمن ثلاث دول عربیة مجتمعة، بدعوى الحفاظ على الأمن وإجبار تلک الدول على التسلیم بسیاسة الأمر الواقع الأمنیة، والتی سرعان ما تراجعت فی حرب أکتوبر عام 1973 ، لترسم صورة مغایرة لمفهوم الأمن بامتلاکها للقوة النوویة الضاربة بعد ذلک، وإن کان المشروع النووی الإسرائیلی قد بدأ بالفعل قبل ذلک.
وعلیه فإننا نحاول من خلال هذا الکتاب - أن نرصد ونحلل التطورات المختلفة فى نظریة الأمن الإسرائیلی، وما تنطوی علیه من مضامین سیکولوجیة، وذلک وفق مفاصل الحروب التی خاضتها اسرائیل ضد العرب، فمن مرحلة " العمق الاستراتیجی" و"الضربة المضادة الاستباقیة" کما أشار شمعون بیریز، إلى "استراتیجیة الردع النووی" منذ العام 1975 ، وإلى "استراتیجیة الهجوم الاستباقی" المتبعة حالیاً فی الأراضی المحتلة وغیرها من الإستراتیجیات الأخرى.
ومثال على ذلک التأرجح والتغیر فى مفهوم الأمن الإسرائیلی ونظریته، نجد أن اسرائیل قبیل إندلاع حرب 1967، قد شددت على ناحیتین إیجابیتین فی وضع الحرب، أولهما إیجاد خطوط دفاعیة مثالیة جغرافیة على طول خطوط المجابهة مع الجیوش العربیة، وثانیهما امتلاک فترة مطولة من الإنذار المبکر، وخاصة بالنسبة للجبهة الجنوبیة فی شبه جزیرة سیناء، وقد نجم عن هذا الوضع الجدید تبنّی إسرائیل "نظریة الحدود الأمنیة" لحرص اسرائیل على إیجاد مسوغ تبرر بواسطته الاحتفاظ بالأراضی المحتلة، تحقیقاً "لنظریة العمق الإستراتیجی" المطلوب تحقیقها للأمن. لذلک فإن المبدأ الأمنی القدیم الداعی إلى "نقل الحرب إلى أراضی العدو" لم یعد ملزماً بالنسبة للجیش الاسرائیلی. "هیثم الکیلانی - نظریة التفوق الإسرائیلی".
ومن هنا یمکن القول إن مفهوم الأمن الإسرائیلی، وکذلک نظریة الأمن الإستراتیجی الإسرائیلی قد عبرت مراحل مختلفة متناقضة تبعاً للظروف الإقلیمیة والدولیة، وفی ضوء تعاقب حکومات إسرائیل نفسها، وتباین أهدافها الانتخابیة والمرحلیة، إلا فی قواسم مشترکة أبقت على معیار هام جداً لا یمکن الحیدة عنه بأی ثمن، ألا وهو أن مقولة الأمن، أو الهاجس الأمنی فی اسرائیل لا بد أن یظل طوقاً للبقاء والنجاة أولاً وقبل کل شیء. وحتى مع تغیرات هذا المفهوم وتلک الاستراتیجیة عبر تواریخ تأسیس اسرائیل، ومروراً بحروبها مع الدول العربیة، خاصة حرب 1973، وانتهاء بالإنتفاضة الفلسطینیة الأولى والثانیة، وبما حققتاه من اختراق واضح وتاریخی لمفهوم الردع الاسرائیلی، ظلت مفاهیم الأمن واستراتیجیاته تدور فی فلک عملیة البحث الدؤوب عن الصورة المثلى، لإبقاء اسرائیل متفوقة على العرب جمیعاً فی جمیع مناحی التفوق العسکری، والتکنولوجی، والاقتصادی.
إن التقلبات التى طرأت على مفهوم الأمن الإسرائیلی، قد ارتکزت على أطر وتحلیلات سیکولوجیة لموقف هذا الکیان منذ بنائه التأسیسی، الذی أفرزته وقائع دولیة أبرزها شعور أوربا بما لحق من ضیم بالشعب الیهودی، نتیجة لما حدث فى "الهولوکوست" النازیة وما سببه شتات الیهود من مخاوف لتلک الدول الأوروبیة، أبرزها شعور الیهود بالإحباط والرغبة الجامحة فی الإنتقام، وهو الأمر الذی جعل تلک الدول مجتمعة تسعى للبحث عن موطئ قدم للیهود أو "مکان تحت الشمس" کما قال نتنیاهو (رئیس وزراء إسرائیل الأسبق) فی معظم صفحات کتابه الذی حمل العنوان نفسه.
الفصل الأول
الأمن القومی
القسم الأول: مفهوم الأمن القومی
القسم الثانی: الأمن القومی الإسرائیلی
القسم الثالث: تحدیات الأمن القومی الإسرائیلی
الفصل الأول
الأمن القومی
القسم الأول: مفهوم الأمن القومی
فی الحقیقة لا یوجد مفهوم فضفاض فی مجال العلوم الاجتماعیة بصفة عامة وعلم السیاسة بصفة خاصة، أکثر من ذلک المفهوم الذی اصطلح على تسمیته بالأمن القومی، إذ إنه من المفاهیم التی یصعب على أی مؤلف الإمساک به، أو تحدید عناصره ومقوماته. کما أنه من المفاهیم الزئبقیة التی لا تقبل الصیاغة فی قوالب ونظریات ثابتة، وذلک هو السبب الرئیس وراء تخلف الحقل الأکادیمی فی مجال دراسات الأمن القومی واعتباره من أکثر الفروع إخفاقاً وإحباطاً فی مجال العلوم الاجتماعیة. "حامد ربیع - نظریة الأمن القومی العربی".
إن "الأمن القومی" لأیة دولة هو الدفاع والوقایة ضد الأخطار الخارجیة مثل وقوع الدولة تحت سیطرة دولة أخرى أو معسکر أجنبی أو اقتطاع جزء من حدودها، أو التدخل فی شؤونها الداخلیة لتحقیق مصالح دولة خارجیة على حساب تلک الدولة. وفی حالة الحرب یحدد الأمن القومی أعضاء التحالف المشترک فی الحرب بقصد تحقیق الهدف السیاسی لها، وهو الذی یخطط للسلم الذی یعقب الحرب. وبهذا المعنى، فمفهوم الأمن القومی مفهوم متعدد الأبعاد یمثل نواحی عسکریة واقتصادیة واجتماعیة.
ویتفرع من کل هذا ما یُسمّى "العقیدة العسکریة" وهی تعبر عن تصورات القیادة السیاسیة - العسکریة العلیا لطبیعة الحرب التی تتوقع خوضها فی المستقبل سواء من ناحیة النتائج السیاسیة أو العسکریة.
فالمفهوم فى معناه الواسع - أی الأمن - یعتبر قدیماً قدم الحضارة الإنسانیة، ولا یکاد یخلو أی نص تاریخی أو أدبی من الإشارة أو التلمیح إلیه، حتى فی کتب الوحی الإلهی والرسالات السماویة الــمُنزّلة یمکن أن نجد دلائل مفهوم الأمن القومی المعاصر، ولا سیما فی مرحلة مبکرة، أی من خلال ارتباطه بمفهوم القوة العسکریة والحرب.
ویمکن أن نجد جذوره فی الفکر الیونانی فی کتابات کل من سقراط وأفلاطون وکذلک فی الفکر الرومانی والفکر الإسلامی، ولا یوجد تعبیر أوضح عن الأمن القومی فی معناه الحدیث من نص تلک الآیة القرآنیة الکریمة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخیل ترهبون به عدو الله وعدوکم"، صدق الله العظیم. "سورة الأنفال - الآیة رقم 60". فهی وإن کانت تعبر عن ارتباط مفهوم الأمن بالقوة فی معناها التقلیدی، إلا أنها تشیر إلى أهم النظریات المعاصرة وهی أن اقتناء القوة لیس فقط بهدف القتال، ولکن بهدف الردع الذی یُعّد احد أوجه التعبیر عن مفهوم الأمن القومی، فیما یعرف بنظریة الردع التی ترى أنه یمکن تحقیق الأمن لا من خلال الاستخدام الفعلی للقوة بل من خلال إقناع الخصم أو العدو المحتمل بعدم إمکانیة الاستخدام الفعلی لها، ومدى فداحة الخسائر التی تقع من جرائها.
وإذا ما تفحصنا "سفر یشوع" فی العهد القدیم من الکتاب المقدس "الأصحاح التاسع"، نجد ما یشیر إلى مفهوم الأمن القومی فی معناه التقلیدی، ومحاولة تنفیذه من خلال الغزو أو التهدید بالحرب، أو من خلال قیام الدول القویة بقطع عهد مع الدول الضعیفة التی تتشارک معها فی الحدود لتأمن شرها، أو لضمان حمایتها لها والإبقاء علیها، یقول نص الإصحاح التاسع من سفر یشوع فى هذا الشأن:
"إن سکان جعبون لما سمعوا بما عمله یشوع بأریحا ویقصد إنزال الهزیمة بها (ساروا إلیه فى المحلة "الحلجال") المکان الذی یجتمع به الجیش، وقالو له ولرجال إسرائیل من أرض بعیدة جئنا، والآن إقطعوا لنا عهداً، فعمل لهم یشوع صلحاً، وقطع لهم عهداً لاستحیائهم وحلف لهم رؤساء الجماعة. "جمال کمال- الأمن القومی المصری".
وبالرجوع إلى الحضارة الفرعونیة فإن المخطوطات تشیر إلى أقدم معاهدة عثر علیها کاملة، وهی المعاهدة التی أبرمت حوالى العام 1280 قبل المیلاد بین رمسیس الثانی وملک الحبشیین "خاتسییر"khatisir ، وهذه المعاهدة کانت بمثابة عهد دولی أو صلح أبرم بعد حرب قامت بین رمسیس الثانی وملک الحبشیین، وتشکل أیضاً حلفاً دفاعیاً وهجومیاً دائماً، وذلک عن طریق تجدید معاهدات الصداقة التی کانت قائمة بین الدولتین والتی کانت تقضی بالامتناع عن الحرب.
وإن کانت هذه الإشارات تدور حول مفهوم الأمن القومی بمعناه التقلیدی بالترکیز على القوة العسکریة، لتأمین سلامة البلاد فى مواجهة الغزو الخارجی ولا سیما فی المراحل الأولى من تطوره وبدایات ومحاولات التأصیل النظری، ومن ثم فإن وجود مفهوم الأمن القومی بمعناه الواسع یُعّد قدیماً قدم وجود الإنسان على سطح البسیطة، ویعبر عن غریزة البقاء فی مواجهة قوى الطبیعة أو غیرها.
وبالرغم من صعوبة التأصیل النظری لمفهوم الأمن القومی على المستوى الأکادیمی والبحثی، إلا أنه قد أصبح على مستوى الممارسة حقیقة لا یمکن إنکارها، وواقعاً معاشاً یتغلغل فى کافة مناحی الحیاة، ویطبق بشکل کبیر وعلى مدى واسع من قبل رجال السیاسة، وعلماء الاجتماع والعسکریین، ومن ثم فهو قد یشمل الموضوعات فى أعلى مستویات الدولة، والتی تمس کیانها وبقاءها، وکذلک بعض الأمور البسیطة التی تتعلق بمستوى العامة أو رجل الشارع، فقد یصبح انتشار وباء أو مرض معین فی الخارج مسألة تهم الأمن القومی، ناهیک عن تحرکات الجیوش والحشود على حدود البلد، وکافة عملیات تأمینها وحمایة حدودها، وهو المجال الواضح والبارز للأمن القومی، وهو ما یدل على سمة الشمولیة التی یتسم بها مفهوم الأمن القومی.
ومن الخصائص الأخرى التی یتسم بها مفهوم الأمن القومی، خاصیة الدینامیة والتطور، بمعنى أنه مفهوم یستجیب لکافة التطورات والتغیرات التی تقع فی المجتمع بصفة خاصة، والبیئة الدولیة بصفة عامة.
ومن الملاحظ أن موضوعات الأمن القومی فی مرحلة مبکرة قد ارتبطت بالأمور التی تدور حول القوة العسکریة، وتوازن القوة والحدود، وکیفیة تأمین کیان الدولة فی مواجهة الدول المحیطة بها، وقد تطور نطاق هذه الموضوعات والأمور فیما بعد بفعل التطورات التکنولوجیة ولا سیما فی مجال التسلح النووی، وبروز مفهوم الردع النووی، حیث بدأ الترکیز على الأبعاد الإجتماعیة والإقتصادیة لمفهوم الأمن القومی، وبدایة الحدیث عن مفهوم الأمن العالمی والأمن الجماعی الذی وصل إلى حد القول بارتباط الأمن القومی لدولة ما بتحقیق التنمیة والإستقرار فی دولة لا ترتبط معها حدودیاً، ولا تملک مصادر التهدید لأمنها بالمعنى التقلیدی وهو ما عبر عنه روبرت ماکنمارا (Robert macnomara) فی کتابه الشهیر "جوهر الأمن" عندما رأى أن أمن الولایات المتحدة یرتبط بتنمیة دول العالم الثالث.
النقطة الأخرى التی تزید من صعوبة الإمساک بمفهوم الأمن القومی هی خاصیة النسبیة بالنسبة للموضوعات والمسائل التی یتضمنها الأمن القومی، فما قد یعتبر من قبیل المسائل التی تدخل فی إطار الأمن القومی بالنسبة لبعض الدول، قد لا یعتبر کذلک بالنسبة لبعض الدول الأخرى. وهذه النسبیة قد تکون على مستوى الدولة ذاتها، فما قد یعتبر من قبیل الموضوعات والمسائل التی تدخل فی نطاق الأمن القومی فی فترة معینة، قد لا یکون کذلک فی فترة زمنیة أخرى من حیاة الدولة.
حتى الآن لا یوجد اتفاق حقیقی بین الدارسین والمتخصصین فی مجال الأمن القومی على حدود الإطار الفکری الذی یجب أن یتضمنه مجال تفکیرهم فی هذا الصدد، وهناک بعض الأبحاث التی تتعلق بإستراتیجیة الردع والعلاقات العسکریة والمدنیة، التی یجمع الجمیع على ضرورة دخولها ضمن ذلک الحقل، هذا فی الوقت الذی یُقترح فیه أیضاً إدخال بعض الأبحاث الحدیثة مثل النظریة العامة للعنف السیاسی، والثورة والقهر السیاسی الداخلی والتی ما زالت محل إختلاف حتى الآن.
ویمکن إدراج التعریفات المختلفة للأمن القومی تحت رمزین کبیرین، أو مدرستین رئیسیتین، یُعّبران عن مرحلتین من مراحل تطور المفهوم، فمعظم التعریفات فی المرحلة الأولى کانت تدور حول القیم والمصالح المحوریة بإعتبارها هدفاً وجوهراً للأمن القومی، والتی ارتبطت بمفهوم القوة وضرورة توفیر الأداة العسکریة لتحقیقها. أما فی المرحلة الثانیة فقد رکزت التعریفات بقدر أکبر وأعمق على الأبعاد الإجتماعیة والإقتصادیة، وبالتالی إتخذت العدید من الوسائل والأدوات الأخرى غیر العسکریة لتحقیق الأمن القومی، وهاتان المدرستان هما:
المدرسة القیمیة
تندرج معظم التعریفات فی إطار هذه المدرسة تحت تلک التعریفات التی ترکز على القیم، وفی ظل هذه المدرسة یتسم تعریف الأمن القومی بالغموض والتجرید أکثر من اتسامه بالوضوح، ومنها تعریف موسوعة العلوم الإجتماعیة التی تُعرّفه على أنه قدرة الدولة على حمایة قیمها الداخلیة من التهدیدات الخارجیة، وما یُرَدُّ على ذلک من بعض الانتقادات التی سیرد التعرض لها بقدر من التفصیل عند التعرض لدراسة بعض التعریفات فی الفقه الغربی وتناول أوجه القصور فیها. "عبد المنعم المشاط الأزمة الراهنة للأمن القومی العربی".
المدرسة الإقتصادیة
ینصب إهتمام أنصار هذه المدرسة على کیفیة تأمین الموارد الاقتصادیة، والحیویة والتأکید على الوظیفة الإقتصادیة للحرب، والتنمیة کجوهر للأمن ومنها تعریف "کروز ونای kruse and nye" للأمن القومی الإقتصادی بأنه "التهدید بالحرمان من الرفاهیة الإقتصادیة"، وهما یریان أن هدف الأمن القومی الإقتصادی یصبح واضحاً عندما تختار الدولة عن وعی عدم الکفاءة الإقتصادیة لکی تتجنب أیة ضغوط إقتصادیة من الخارج ( kruse, Lawrence, & Begrten, Fled, Miler, Benjamin).
ویتبوأ روبرت ماکنمارا (Robert Macnamara ) وزیر الدفاع الامیرکی السابق المکانة الرئیسیة فی المناداة بالتنمیة الإقتصادیة کجوهر الأمن، وذلک فی کتابه الذی نشر عام 1968 تحت عنوان "جوهر الأمن" The essence of security والذی بدأه بانتقاد الإتجاه التقلیدی، فهو یرى أن الأمن القومی للولایات المتحدة الامیرکیة لا یکمن بصورة أولیة فی القوة العسکریة فقط، ولکنه یکمن بشکل مماثل فی تنمیة النماذج المستقرة من النمو السیاسی والإقتصادی فی الداخل، وفی الدول على مستوى العالم أجمع، ویصل فی النهایة إلى أن الأمن یعنی التنمیة.
فالأمن لا یعنی تراکم الأسلحة، بالرغم من أن ذلک قد یکون جزءاً منه، وهو لیس القوة العسکریة بالرغم من أنه قد یشتمل علیها، وهو لیس النشاط العسکری التقلیدی بالرغم من أنه قد یضمه. إن الأمن هو التنمیة ودون التنمیة لا مجال للحدیث عن الأمن. "عبد المنعم المشاط".
القسم الثانی: نظریة الأمن القومی الإسرائیلی
استمد الفکر الأمنی الإسرائیلی شرعیته السیاسیة من الأفکار والتعالیم التی جاءت بها الدیانة الیهودیة، وذلک فی إطاره العام الذی صاغه دیفید بن غوریون أحد مؤسسی دولة إسرائیل وأول رئیس وزراء للدولة العبریة، وذلک إلى الحد الذی یمکن القول فیه إن الإستراتیجیة الأمنیة الإسرائیلیة ما هی إلا الإطار الفکری والتطبیقی للعقیدة الدینیة، سواء فی الدعوة للإستیلاء على الأرض "تنفیذاً لوعد الرب"، أو من خلال القناعات الیهودیة الصهیونیة.
وقد مر مفهوم الأمن الإسرائیلی بأربع مراحل أساسیة: مرحلة القاعدة الإستیطانیة، ثم مرحلة تحویل القاعدة إلى دولة، ومرحلة التوسع، ومرحلة الهیمنة، ومن هنا ندرک أسباب هذا التغییر والحراک فی المفهوم الأمنی لما تقتضیه السیاسة التوسعیة التی تنتهجها إسرائیل، فهو مفهوم متحرک یتبدل بتبدل الظروف السیاسیة والعسکریة المحیطة، کما أنه لا یعنی الدفاع عن أرض محدودة، بل یتحقق على أساس ردعی یمنع بمعطیاته نشوب حرب أخرى، إلى حین إتاحة الظروف التی تراها إسرائیل مناسبة لنشوب حرب تخدم مصالحها وتحقق أهدافها.
ورغم المتغیرات والحراک فی مرتکزات مفهوم الأمن الإسرائیلی، إلا أنه یمکن تحدید بعض ثوابت ورکائز هذا المفهوم.
أولاً: نظریة الردع التی تبنتها إسرائیل فی إطار عقیدتها الأمنیة بهدف التقلیل من احتمالات اندلاع الحرب بینها وبین العرب، ودفعهم إلى التسلیم بها کأمر واقع عن طریق إقناعهم بأن أیة مجابهة معها ستکون باهظة الثمن.
ثانیاً: إستراتیجیة الحرب الإستباقیة وهی صفة اتسمت بها معظم الحروب التی شنتها إسرائیل ضد العرب، وتشکل أحد أنماط التعبیر عن مصداقیة الردع.
ثالثاً: مفهوم الحدود الآمنة، وهذا المفهوم یعد وفق هذه الإستراتیجیة مفهوماً متغیراً وقابلاً للتمدید بما یتماشى مع متطلبات الأمن الإسرائیلی.
رابعاً: العمق الإستراتیجی، والذی یعتبر غیابه من التحدیات الرئیسة للنظریة الأمنیة الإسرائیلیة "نظراً لوضع إسرائیل الجغرافی"، ومن هنا اعتقد مخططو نظریة الأمن الإسرائیلی أن من شأن أیة حرب شاملة أن تهدد وجود اسرائیل، وهو ما دفعها إلى تجنب أی حرب من هذا النوع على أراضیها، مما استوجب بلورة مفهوم نقل المعرکة إلى أرض العدو لإیجاد عمق إستراتیجی مصطنع.
إن نظریة الأمن الإسرائیلی لا تستهدف فقط تحقیق الأمن عبر ضمانات دبلوماسیة وسیاسیة دولیة، بل تستهدف إیجاد الوسائل العملیة الداخلیة لدى إسرائیل القادرة على تجسید نظریة الأمن الإسرائیلی، وفی هذا المجال تقول غولدا مائیر: إن ما نریده لیس ضماناً من الآخرین لأمننا، بل ظروفاً مادیة وحدوداً فی هذه البلاد تضمن بشکل أکید عدم نشوب حرب أخرى. وبذلک نرى أن نظریة الأمن الإسرائیلی تقوم على مبدأ الحقائق الملموسة، بتعبیر آخر تستند إلى قوة فعلیة تتجسد فی وجود جیش عسکری قوی یشکل سیاجاً حقیقیاً للأمن الإسرائیلی، فی مرحلة معینة، ووسیلة لتحقیق نظریة الأمن التی تتضمن فی إطارها مظاهر التوسع فی الأرض العربیة أیضاً.
ونظریة الأمن الإسرائیلی ترتکز على جملة من العوامل المتداخلة المترابطة، والتی تشمل مختلف مجالات النشاط والفعالیات الحیویة فی إسرائیل، ومن هنا فإن نظریة الأمن الإسرائیلی هی ظاهرة مرکبة تتکون من القوة العسکریة، والهجرة الیهودیة إلى إسرائیل، وتوسیع عملیات الاستیطان، وتخفیف الهجرة المعاکسة من إسرائیل إلى الخارج، وتقویة القاعدة الاقتصادیة، وتأمین تحرک سیاسی دبلوماسی خارجی یوظف لصالح تأمین متطلبات الأمن، وتوفیر المعلومات اللازمة عن الدول العربیة، وفی النهایة استخدام العوامل السابقة من أجل التوسع قدر الإمکان وضمن المناطق الحیویة والاستراتیجیة المحیطة بإسرائیل، لذلک تتضمن الاستراتیجیة الإسرائیلیة مخططات شاملة للتوسع فی جنوب لبنان، والضفة الغربیة، والجولان.
والسؤال الحائر الذی یواجه نظریة الأمن الإسرائیلی یتمثل فی کیفیة التعامل مع مصادر التهدید الداخلی والخارجی وتحدیداً أیهما یجب أن یحظى بالأولویة.
ومن الملاحظ أن وجود نظریة الأمن الإسرائیلیة واستمرارها مرتبط بشکل أساسی بتأمین متطلبات القوة اللازمة بکل أشکالها وأبعادها السیاسیة والعسکریة والإقتصادیة والتکنولوجیة، التی تشکل أحد الأسس والمرتکزات الهامة للإستراتیجیة الإسرائیلیة، وعملیة تأمین استمراریة الدعم المختلف والمتعدد الجوانب شکلت أیضاًَ عاملاً أساسیاً فی قیام إسرائیل وفی الحفاظ على دیمومتها واستمراریتها وتأمین وسائل ومتطلبات تطورها وتوسعها أیضاً.
وقد رکزت الحرکة الصهیونیة قبل قیام إسرائیل على الدعم السیاسی، کعامل هام للمساعدة على إنشاء وطن قومی للیهود على أرض فلسطین، وبعد قیام إسرائیل استمر مخططو الاستراتیجیة فی إسرائیل فی الترکیز على استمراریة تأمین الدعم اللازم أیضاً لإسرائیل لتحویلها إلى حقیقة قائمة والاعتراف بها من جانب العرب، وأن هذا الاعتراف عملیة تحتاج إلى علاقات متعددة متداخلة بین إسرائیل والمجتمع الدولی، وعبر هذه العلاقة تؤمن إسرائیل اعترافاً دولیاً واسعاً بها. کما یمکنها هذا الإاعتراف من إقامة علاقات سیاسیة واقتصادیة وعسکریة تؤمن لها عوامل القوة والاستمرار أولاً، وتحول هذه العلاقات إلى عوامل ضاغطة من قبل المجتمع الدولی وإسرائیل على العرب باتجاه القبول بالوجود الإسرائیلی إلى جانب الأمة العربیة.
البعد الزمانی والمکانی للأمن الإسرائیلی
وتُعَد نظریة الأمن القومی فی إسرائیل ذات مرکزیة خاصة بالنسبة للکیان الصهیونی. فالمشروع الصهیونی مشروع استیطانی مبنی على نقل کتلة بشریة لتحل محل الفلسطینیین وتغیبهم، وتلغی تاریخهم وتستولی على أرضهم، وهو ما لن یتحقق إلا من خلال العنف والقوة العسکریة وخلق الحقائق الإقتصادیة والسیاسیة والاستیطانیة من وجهة نظرهم، وهذا هو الإطار الحقیقی الذی تدور داخله نظریة الأمن الإسرائیلی. وما عقلیة الحصار سوى نتاج لهذا الوضع البنیوی، أی أن نظریة الأمن الإسرائیلی والهاجس الأمنی یفترض أن الصراع حالة دائمة وعلى دولة إسرائیل دیمومة الاستعداد والتخطیط للحرب القادمة.
هذا الإدراک یعبّر عن نفسه عبر المفاهیم التی تشکل رکائز نظریة الأمن فی إسرائیل التی تدور جمیعها حول فکرة إلغاء الزمان والارتباط بالمکان. فهناک فکرة الأمن السرمدی، أی أن أمن إسرائیل مهدد دائماً، وأن حالة الحرب مع العرب حالة شبه أزلیة. وقد عبّر حاییم أرونسون عن هذه الرؤیة فی إحدى دراساته بالإشارة إلى ما سماه "حرب المائة عام (1882-1982) "، أی الحرب الدائمة بین العرب والصهاینة. وهو یذهب إلى أن هذه الحرب لا تزال مستمرة، ویُفسّر هذا الاستمرار على أساس أن إسرائیل بلد غربی حدیث یعیش فی وسط عربی لا یزال یخوض عملیة التحدیث، ومن ثم فهو معرّض للقلاقل ولا یمکن عقد سلام معه. ویتوقع أرونسون أن تستمر الحرب لفترة أخرى إلى حین الإنتهاء من تحدیث العالم العربی. وقد تحدّث موشیه دیان عن (إین بریرا) وهی کلمة عبریة تعنی "لا خیار"، فعلى المستوطنین أن یستمروا فی الصراع إلى ما لا نهایة. "د. عبد الوهاب المسیری".
وقد استخدم إسحق رابین تعبیر "الحرب الراقدة" لوصف العلاقة القائمة بین إسرائیل والمحیط العربی، کما استخدم الکثیر من القیادات الإسرائیلیة تعبیرات مشابهة مثل تعبیر "الحرب منخفضة الحدة"، حیث تشیر کلها إلى غیاب الحدود الواضحة بین الحرب وحالة السلم فی علاقة "الدولة الصهیونیة"بمحیطها.
ویرى کثیرون من أعضاء المؤسسة العسکریة الإسرائیلیة أن التوجه نحو السلام مجرد مرحلة انتقالیة یلتقط العرب فیها أنفاسهم لیعاودوا القتال، وهو ما أثبته تاریخ الصراع عبر الأعوام المائة السابقة . من ثم یصبح من الضروری محاصرة العنصر الإنسانی الفلسطینی وقمعه بضراوة کما حدث أثناء الانتفاضة، وکما یتبدّى من المفهوم الإسرائیلی للحکم الذاتی. أما بالنسبة للعرب فلا بد من ضربهم باستمرار لبث روح الیأس فیهم وإقناعهم بأن الاستمرار فی تبنّی الصراع العسکری کوسیلة لاستعادة الحقوق غیر مجدٍ .
وإذا کان الزمان تکراراً رتیباً لا یأتی بالسلام أو بالتحولات الجذریة، فإنه لا یبقى سوى المکان الثابت الذی لا یعرف الزمان. "د. عبد الوهاب المسیری، الموسوعة الیهودیة". وبالفعل نجد أن الأرض تشکل حجر الزاویة فی الأیدیولوجیة الصهیونیة وفی نظریة الأمن الإسرائیلیة، فالأرض الخالیة من العرب، أی من الزمان العربی، هی المجال الحیوی الذی یمکن توطین الشعب الیهودی فیه وتحویله إلى عنصر استیطانی یقوم على خدمة المصالح الغربیة فی إطار الدولة الوظیفیة. ومن دون الأرض سیظل الشعب الیهودی شعباً شریداً طریداً، بلا سیادة سیاسیة أو اقتصادیة. والأرض التی یستولی علیها الصهاینة لا بد أن تُعقَّم من زمانها التاریخی العربی، لکی تصبح أرضاً بلا زمان، أی أرضاً بلا شعب.
ولذا فنظریة الأمن الإسرائیلی تدور داخل فکرة الحدود الجغرافیة الآمنة ذات الطابع الغیتوی التی تستند إلى معطیات جغرافیة مثل الحدود الطبیعیة: نهر الأردن، هضبة الجولان، قناة السویس. وقد اقترح حاییم أرونسون ما سماه "الحائط النووی"، أی أن تقبع إسرائیل داخل حزام مسلح تحمیه الأسلحة النوویة. وهی فکرة بسیطة مجنونة، تتجاهل العنصر الإنسانی الملتحم بالجسد الصهیونی نفسه، ولا تختلف فکرة المستوطنات - القلاع المحصنة کثیراً عن الحائط النووی، وهی سلسلة من المستوطنات التی تحیط بحدود إسرائیل فی الضفة الغربیة وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والنقب، وهی مستوطنات أمنیة مختلفة عن تلک التی أقیمت لأسباب دینیة أو إقتصادیة.
وإزاء مشکلة غیاب العمق الإستراتیجی للکیان الصهیونی یُحدّد الفکر العسکری الإسرائیلی ما یُسمّى "ذرائع الحرب" على نحو فرید. ف"الدولة الصهیونیة" تعتبر کل دولة عربیة مسؤولة عن أی نشاط فدائی ینطلق من أراضیها، وازدیاد هذا النشاط یُعدّ ذریعة من ذرائع الحرب. ویضاف إلى هذا الذرائع التالیة:
لقد حددت الحرکة الصهیونیة فکرة الأمن بشکل جغرافی وأسقطت العنصر التاریخی، وتصوّرت أنه عن طریق الاستیلاء على قطعة ما من الأرض أو على هذا الجزء من العالم العربی أو ذاک وعن طریق التحالف مع الولایات المتحدة والقوة العسکریة، فإنها تحل مشکلة الأمن وتصل إلى الحدود الآمنة، ولکن الانتصارات الإسرائیلیة التی کانت ترمی لتحقیق الأمن کانت تؤدی إلى نتیجة عکسیة، حتى وصلت التناقضات إلى قمتها مع انتصار عام 1967، وکان لا بد أن تُحسم هذه التناقضات، وهو الأمر الذی أنجزت القوات المصریة والسوریة یوم 6 أکتوبر 1973 جزءاً منه، ثم اندلعت الانتفاضة لتبین العجز الصهیونی. "د. عبد الوهاب المسیری، مرجع سابق".
ومع هذا تجدر الإشارة إلى أنه ثمة اختلافات داخل المعسکر الصهیونی فی مدى هیمنة مقولة الأرض ، ویمکن القول إن صهیونیة الأراضی اللیکودیة تعبیر عن هذا التمرکز الشرس حول الأرض وإهمال الزمان والتاریخ. أما الصهیونیة الدیموغرافیة أو السکانیة العمالیة فهی تعبیر عن إدراک الوجود العربی والزمان العربی وربما استعداد للتعامل معه، وإن کان التعامل یظل فی إطار المنطلقات الصهیونیة، وهی أن أرض فلسطین، أی (إرتس یسرائیل) فی المصطلح الصهیونی، هی ملک خالص للشعب الیهودی وحده کما تنص على ذلک لوائح الوکالة الیهودیة والصندوق القومی الیهودی .ولکن إن اختلف الصهاینة بشأن بعض التفاصیل فثمة إجماع صهیونی راسخ بأن أمن إسرائیل یتوقف على الدعم الغربی لها، وبخاصة الدعم الامیرکی، ولذا لا یوجد أی اختلاف بشأن هذه النقطة.یتبع...
*الدکتور محمد المصری
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS