qodsna.ir qodsna.ir

رؤى آخر الزمان فی إسرائیل

من مفارقات الأقدار وسخریاتها أنه فی حین عبر الرئیس بوش عن انبهاره بـ إسرائیل ومستقبلها الزاهر، فإن عددا غیر قلیل من المثقفین الإسرائیلیین خالفوه فی الرأی، معتبرین أنهم یعیشون فی بلد لا مستقبل له.

لا تزال أصداء الصدمة تتردد فی العالم العربی منذ ألقى الرئیس بوش خطابه أمام الکنیست فی مناسبة احتفال إسرائیل بالذکرى الستین لتأسیسها، لأنه أفرط فی التعبیر عن انبهاره وتعلقه بنموذج الدولة فی إسرائیل. وهو ما لم یتوقعه الذین راهنوا على الرجل وإدارته، وأحسنوا الظن بهما. ذلک ان الرئیس بوش لم یستطع أن یخفی مشاعره حین وقف أمام الکنیست، ففتح قلبه وصارح الجمیع بالحقیقة التی التبس أمرها على کثیرین من العرب والفلسطینیین.

فلم یتحدث فقط کواحد من غلاة الإنجیلیین الذین یعتبرون أن إقامة إسرائیل جاءت تحقیقا للوعد الذی منح لشعب الله المختار، ولکنه استخدم أیضا لغة عتاة الصهاینة الذین یعتبرون الحاصل فی فلسطین صراعا بین الخیر والشر (الذی یمثله العرب أجمعین بطبیعة الحال)، ثم مضى یکیل المدیح لنموذج الدولة الإسرائیلیة التی قال إنها حاربت بشراسة من أجل العدالة والکرامة الإنسانیة والحریة، حتى أصبحت بعد ستة عقود نورا للأمم، وحین تحتفل بذکرى تأسیسها المائة والعشرین (بعد ستین عاما أخرى) ستکون واحدة من أعظم الدیمقراطیات کأرض آمنة ومزدهرة للشعب الیهودی.. الخ.

الفرقعة التی أحدثها خطاب الرئیس بوش تمت وسط أجواء من الجدل المتسم بالتشاؤم بین المثقفین الإسرائیلیین الذین أدرکوا أن بلدهم بوضعها الراهن الذی أبهر الرئیس الأمریکی لیست مرشحة للاستمرار.

فابراهام بورج رئیس البرلمان الأسبق الذی اعتزل الحیاة السیاسیة فی عام 2004 وصف إسرائیل بأنها دول فاشیة واستعماریة تقودها زمرة لا أخلاقیة من الفاسدین الخارجین على القانون. وقال کلامه هذا فی حوار أجرته معه صحیفة یدیعوت أحرنوت، عقب إصدار کتابه الانتصار على هتلر، الذی ذهب فیه إلى أن إسرائیل تسیر على خطى هتلر، وأنها تنتظر المصیر ذاته، طالما ظلت متمسکة بالصهیونیة ومعتمدة على السیف والعنف فی إخضاع الفلسطینیین وسحقهم.

کتاب بورج لیس وحیدا فی بابه، ولکن عددا آخر من الباحثین الإسرائیلیین، من سلالة حرکة المؤرخین الجدد، وجدوا أن مناسبة الذکرى الستین تهیئ ظرفا مواتیا لفتح الملفات والحدیث بصراحة عن اختراع الشعب الیهودی من قلب الخرافات والأساطیر التی حفلت بها التوراة.

وهو ما خلص إلیه شلومو ساند الأستاذ بجامعة تل أبیب فی کتابه کیف تم اختراع الشعب الیهودی  من التوراة إلى الصهیونیة، وما أیده کتاب کشف الغطاء عن التوراة، لمؤلفیه الأثریین إسرائیل فینکلشتاین وأشر وسیلبرمان.

فی ذات الوقت کشف باحثون آخرون عن حقیقة الجرائم البشعة التی ارتکبتها الجماعات الصهیونیة المسلحة للاستیلاء على أراضی الفلسطینیین وطردهم، خصوصا المذابح التی أدت إلى التطهیر العرقی، والتی تکذب الادعاءات التی روجتها الأبواق الإسرائیلیة بأن الفلسطینیین باعوا أراضیهم أو غادروا بلادهم باختیارهم. وقد فضح هذه الجرائم إیلان بابی فی کتابه التطهیر العرقی لفلسطین. الأمر الذی أحدث صدمة فی المجتمع الإسرائیلی، اضطرته للاستقالة من منصبه کأستاذ بجامعة حیفا، والهرب إلى بریطانیا لیعمل فی إحدى جامعاتها.

وجه إسرائیل القبیح وتاریخها الملطخ بالدم وبأشلاء الفلسطینیین الأبریاء، الذی لم یره الرئیس بوش، أبرزه أیضا آفی شلایم الأستاذ بمعهد سان أنطونی فی أوکسفورد، فی کتابه (الجدار الحدیدی  إسرائیل والعالم العربی)، الذی هدم فیه أسطورة الدولة الیهودیة التی تدعی أنها محبة للسلام، ومحاطة بعالم عربی یرید القضاء علیها.

هذا الجدل احتل مکانة ملحوظة فی الصحف العبریة، فالبروفیسور امنون روبنشطاین الوزیر الأسبق وأستاذ القانون بجامعة تل أبیب الذی تخصص فی الکتابة عن مستقبل الدولة، نشرت له هاآرتس حواراً یوم 14/4 الماضی، قال فیه إن إسرائیل لا یمکنها البقاء بسبب نوعین من التهدید، أحدهما خارجی یتمثل فی فشلها فی ردع العرب، والثانی داخلی یمثله انتشار الفساد وتآکل ما یسمیه منظومة القیم الصهیونیة التی قامت علیها الدولة.

أضاف فی هذا الصدد أنه على الرغم من انتصارات إسرائیل فی حروبها الکبیرة مع الدول العربیة، إلا أن هذه الانتصارات فشلت فی اجتثاث الرغبة العربیة فی محاربة إسرائیل، وفی رأیه أن ما یجعل الأمور أکثر تعقیدا هو أسلمة الصراع، واتخاذه بعدا دینیا، الأمر الذی لا یزید فقط رقعة العداء ل إسرائیل، بل یجعله أکثر تصمیما، واعتبر روبنشطاین أن إسرائیل قد تستیقظ فی یوم ما وقد أحیطت بأنظمة حکم ذات توجه إسلامی، لا ترفض وجود إسرائیل فحسب، بل تتجند من أجل إزالتها.

فی نفس الوقت، فإن روبنشطاین رصد مظاهر تحلل منظومة القیم الصهیونیة، مثل میل الشباب الإسرائیلی لعدم التضحیة من أجل الدولة والذی یعکسه تراجع الحماس فی صفوفهم للانخراط فى سلک الجندیة، وهی نقطة أیده فیها أیرز ایشل مدیر مدرسة إعداد القادة فی تل أبیب، قال فی مقال نشرته صحیفة یدیعوت أحرنوت (3/4) إن أحد مصادر هدم منظومة القیم هذه تتمثل فی حقیقة أن قادة الدولة لم یعودوا مثالا یحتذی به الشباب الإسرائیلی.

إذ فی الحین الذی یصرخ فیه قادة الدولة مهددین بشن مزید من الحروب، فانهم یستثنون أبناءهم من تحمل عبء هذه الحروب، ودلل على ذلک بان ابنی رئیس الوزراء الحالی إیهود أولمرت تهربا من الخدمة العسکریة بالسفر للخارج.

أیضا من رأی الجنرال شلومو جازیت الرئیس الأسبق لجهاز المخابرات العسکریة الإسرائیلیة أمان أن رفض إسرائیل التجاوب مع الرغبة العربیة لحل الصراع یحمل فی طیاته دمار إسرائیل، وشن جازیت فی مقال نشرته معاریف بتاریخ 9/4 انتقادا حادا على المستشرق الأمریکی برنارد لویس الذی دعا إسرائیل لعدم التفاوض مع العرب، معتبرا أن تخلید الوضع القائم هو الذی سیؤدی إلى تصفیة إسرائیل، ما لم توافق حتى على هدنة طویلة المدى تتنازل مقابلها عن حدود العام 1967.

ناحوم برنیع کبیر المعلقین فی صحیفة یدیعوت أحرنوت، أوسع الصحف الإسرائیلیة انتشارا، الذی توقع فشل إسرائیل فی حرب لبنان الثانیة من أول یوم فیها، قال إنه على الرغم من أن إسرائیل الیوم قویة من ناحیة عسکریة وذات منعة اقتصادیة، إلا أن الناس فیها یفقدون الثقة بمستقبلها وبقدرتها على البقاء، وروى فی مقال نشره بتاریخ 19/4 حادثة طریفة وقعت مع الکاتب الیهودی الأمریکی جوردس فقال إنه ذهب إلى طبیب للحصول على وصفة دواء طلب أخذها قبل السفر بالجو، فسأله الطبیب: بماذا تعمل؟. فرد جوردس: أنا کاتب. عندئذ سأله: ماذا تکتب؟. قال: حول مستقبل إسرائیل. فضحک الطبیب، وقال: آه أفهم الآن، أنت تکتب قصصا قصیرة!. وعلق برنیع على تلک الإجابة قائلا إنها تعکس المزاج العام فی إسرائیل، وهو مزاج الشعور بنهایة الزمان، مع أنه لا یتحدث عنه أحد لکن الجمیع یشعرون به، إنه نوع من الیأس لا ینبع من الحرب التی کانت أو من الحرب التی قد تأتی، بل من مصادر أعمق، على حد تعبیره.

وذکر أن مظاهر المنعة العسکریة والاقتصادیة التی تتمتع بها إسرائیل مضللة. مشیرا إلى أنه على الرغم من أن إسرائیل ذات اقتصاد مستقر، وأسعار العقارات فیها تبلغ عنان السماء، وجیشها قوی، وجامعاتها ذات نوعیة عالیة، ومع ذلک فهی تعجز عن توفیر الأمن للیهود الذین یعیشون فیها، وهی لا تعطیهم الحیاة الطبیعیة. وذکر برنیع أن إسرائیل هی الدولة الوحیدة فی العالم التی مجرد وجودها لا یزال مثیرا للجدل، فی حین لا یشک أحد فی العالم فی حق الفلسطینیین فی دولة.

لا یکتفی المفکرون والکتاب الصهاینة بالحدیث عن تنبؤاتهم بالمستقبل المظلم ل إسرائیل، بل یعددون المظاهر التی تدعم هذه التنبؤات. إفراهام تیروش سکرتیر ثانی حکومة شکلها مناحیم بیجن یرى فی مقال نشرته معاریف بتاریخ 28/2 أن أوضح مظهر من مظاهر انهیار الفکرة الصهیونیة هو قرار الوکالة الیهودیة بالتوقف عن محاولة إقناع الیهود فی أرجاء العالم بالهجرة إلى إسرائیل، معتبرا أن هذا یدلل على فشل الحرکة الصهیونیة فی المحافظة على قوة الدفع الخاصة بأفکارها. ویؤکد أنه بالنسبة للیهود فی أرجاء العالم، فإنهم باتوا یرون ان مخاطر العیش فی إسرائیل أکبر من مخاطر العناصر اللاسامیة فی الشتات. ویشیر تیروش إلى مظاهر انفضاض الیهود عن إسرائیل، مستندا إلى نتائج دراسة أجریت فی أوساط الیهود الأمریکیین دللت على أن 70% منهم لم یزورا إسرائیل ولا یعتزمون زیارتها؛ و50% من یهود الولایات المتحدة متزوجون زواجا مختلطا؛ و50% من الشباب الیهود هناک لا یهمهم إذا اختفت إسرائیل من الوجود.

رئیس الکنیست السابق روفی ریفلین، القیادی البارز فی حزب اللیکود قدم مثالا آخر على تغلغل الیأس فی نفوس الإسرائیلیین من مستقبل کیانهم، والذی یعبر عنه سعی أعداد متزایدة من الإسرائیلیین للحصول على جوازات سفر أوروبیة لاستخدامها فی الفرار من الدولة عند الحاجة، فیذکر فی مقال نشرته صحیفة هآرتس (14/4) أن هذا السلوک لم یکن لیصدر عن هؤلاء الإسرائیلیین لولا الشعور المتأصل فی نفوسهم بأن الدولة فی طریقها للتفکک والزوال، ویجزم بأن ذلک سیؤدی إلى ظهور تباینات فکریة واجتماعیة وسیاسیة بین الإسرائیلیین الذین لا یمکنهم الحصول على جوازات سفر أجنبیة ولا یعرفون أن لهم ملاذا آخر، وبین أولئک الذین یعتقدون أن لدیهم خیارات أخرى. مؤکدا أن هذه الظاهرة ستکون القوة التی ستنتج مظهرا آخر من مظاهر الانقسام فی المجتمع.

وهناک من یرى أن عزوف الیهود عن الهجرة ل إسرائیل یرجع لکفرهم بالأساطیر التی تأسست علیها إسرائیل، وفی مقال نشرته صحیفة هآرتس بتاریخ 22/3 قال یولی جولدشتاین من قادة الجالیة الیهودیة فی کندا إن الأساطیر التی کانت إسرائیل تحاول إقناع یهود العالم بها لم تعد تنطلی على أحد سیما تصویر إسرائیل وکأنها الحصن الأخیر فی مواجهة الذین یکنون العداء للیهود. وأشار إلى حقیقة کون 85% من الیهود فی مدینة مونتریال التی تضم أکبر تجمع یهودی فی کندا قد هاجروا أصلا من إسرائیل التى بذلت جهدا کبیراً لاخراجهم من الاتحاد السوفییتی، لکنهم بعد أن عاشوا فیها قرروا ترکها والتوجه لکندا، ثم تساءل: هل هناک ثمة سبب للاعتقاد بأنهم سیفکرون الآن بالعودة إلیها.

أیا کانت الشواهد الدالة على ما ینتظر إسرائیل فی المستقبل، فإننا لا ینبغی أن نراهن على ذلک، فنبقی على أوضاعنا کما هی انتظارا لما تأتی به الأیام، لأن تجمید الأوضاع العربیة على ضعفها هو الذی قد یطیل من عمر إسرائیل، فی حین أن الأخذ بأسباب القوة والمنعة وحده الذی یفقد إسرائیل أملها فی بسط هیمنتها على العالم العربی، ومن ثم یعجل بهزیمتها سواء عاشت أو بادت.

م/ن/25

 


| رمز الموضوع: 142888