نکبة تفرخ نکبات وکوارث

"باتت الصهیونیة مقاتلة فعالة فی التاریخ وصراعها مع العرب حتمی". کتبت هذه العبارة عام 1907، أی قبل ما یزید عن مائة عام. والکاتب هو البروفیسور کلاوزنر، الناقد الأدبی المشهور فی مجلته الأدبیة "هشیلواح"، یستهجن سلوک اولئک الیهود الذین یتحدثون العربیة، ویبشرون بالتعایش مع العرب. ومن غیر المعقول أن لا یطلع کلاوزنر على خطة برنامجیة وضعت ذلک العام سمیت خطة بنرمان. ففی عام 1905 دعا رئیس الوزراء البریطانی کامبل بنرمان لعقد مؤتمر للتداول فی مستقبل المنطقة العربیة شرقی البحر المتوسط وجنوبه؛ واستمر المؤتمر الذی حضره خبراء من دول أوروبیة عدة حتى عام 1907، وصدر عن المؤتمر وثیقة برنامجیة جاء فیها ان المنطقة المشار إلیها تضم شعوبا تتبع أمة واحدة إذا ما اتحدت فسوف تلحق مخاطر جمة بأوروبا ومن الواجب إبقاؤها مشتتة وضعیفة. تضمنت الخطة عدة بنود إرشادیة یتوجب اتباعها من شأنها إبقاء المنطقة ضعیفة وممزقة ومتخلفة اقتصادیا وسیاسیا وثقافیا. ومن جملة الإجراءات المقترحة إقامة قاعدة سکانیة غریبة عن المنطقة ومرتبطة بالغرب تفصل بین جناحی العالم العربی. ولم یکن أفضل من المشروع الصهیونی أداة تخدم هذه الغایة. لا بد أن کلاوزنر، الناقد الأدبی، قد تجاوب مع الدعوة الامبریالیة واسترشد ببنود خطة بنرمان الاستعماریة.
من الثابت تاریخیا أن الصهیونیة قد برزت فی أواخر القرن التاسع عشر حرکة سیاسیة تسترشد بالفکر الدینی الأصولی. وفی نفس الزمن حظیت الأصولیة المسیحیة المسماة "لاهوت ما قبل الألفیة"، بدفعة قویة عززت نفوذها وأنعشت نشاطها، فتحولت بذلک من حرکة معزولة بین الکنائس المسیحیة، الکاثولیکیة والبروتستانتیة والأرثوذکسیة، إلى حرکة دینیة واسعة النفوذ تستقطب الأتباع والمؤیدین. والحرکتان الدینیتان لم تعبر أی منهما عن اجتهاد دینی أو تطویر فی اللاهوت؛ کانتا تمویها لوسخ السیاسة بقناع دینی زائف. وهما مظهر لارتداد الرأسمالیة فی مرحلتها الاحتکاریة عن مبادئ العقلانیة والدیمقراطیة وأفکار التنویر. "لاهوت ما قبل الألفیة" یقنّع سیاسات الامبریالیة بتعالیم الدین ومشیئة الرب، إذ ینطوی على خرافات لا تعترف بصحتها الکنائس المسیحیة الرئیسة، تزعم أن الأحداث تمضی بمشیئة ربانیة ولیس بدینامیکیتها الذاتیة، المتجسدة بدوافع أطماع الرأسمال فی الأرباح الاحتکاریة. هذا التخریف یفسر ما یجری فی وقتنا الراهن من تکالب غربی تقوده إدارة بوش على دعم ومساندة إسرائیل حتى وهی تعلن مواقفها المناقضة للقانون الدولی، وترتکب جرائم الحرب. فالأحداث، حسب لاهوت "ما قبل الألفیة"، تعْبُر حقبة من الحروب والکوارث تمهیدا لإقامة دولة الیهود وإعادة بناء الهیکل الثالث تختتم بمعرکة هرماجدون التی ینتصر فیها الخیر على الشر ویفنى فیها الیهود وینزل المسیح لیقیم حکم العدل فی الألف الأخیرة من حیاة البشریة.
تؤکد وثائق التاریخ أن عام 1852 شهد بناء أول مستوطنة یهودیة بنیت فی فلسطین بجهود القنصلیة الأمریکیة فی القدس. وقال القنصل الأمریکی فی حفل التدشین " هنا ستعیش الأمة الیهودیة وهنا تزدهر". وتلتها مستوطنتان شیدتا عام 1862، إحداهما بتمویل القنصلیة الألمانیة والأخرى بأموال القنصلیة البریطانیة. جاء بعد ذلک دور الرأسمال الیهودی؛ إذ اشترک فی البناء الاستیطانی عام 1877. وفی عام 1897، حین عقد المؤتمر الصهیونی الأول، کان قد شید 22 مستوطنة یهودیة على مائتی ألف دونم من أراضی فلسطین، وکانت الخارجیة الأمریکیة تعطی التعلیمات لسفیرها فی اسطمبول للضغط على "الباب العالی" کی یسهل الهجرة إلى فلسطین.
وفی المجال الفکری یقدم البروفیسور الأمریکی " دونالد واغنر" ، أستاذ الأدیان ودراسات الشرق الأوسط بجامعة نورثباک فی شیکاغو والمدیر التنفیذی لمرکز دراسات الشرق الأوسط، دراسة تحلیلیة تاریخیة للاهوت الأنجلیکانی، یبرز بنوده التی حظیت بإعجاب المخططین لتوسع الرأسمال الاحتکاری فی الأقطار المتخلفة، ومنها العالم العربی. ویورد فی دراسته أن القس الإنجلیزی ویلیام هیتشلر، مندوب الکنیسة الإنجلیکانیة البریطانیة فی فیینا، هو الذی جمع بین لورد بلفور، أحد أتباع الحرکة، وهیرتزل. الحرکة بطبیعتها من إفرازات اللاسامیة، لأنها تتحدث عن انقراض الیهود، ولکن الصهیونیة، التی تقاطعت مع اللاسامیة ومع جرائم النازیة ضد الیهود، تقبل الواقعی المتمثل فی المساعدات المادیة والمعنویة وتترک الخرافی أداة فکریة لدفع جماهیر المسیحیین مع التوسع الامبریالی والاستیطان الیهودی فی فلسطین. شکلت المسیحیة الأصولیة الأداة الفکریة للامبریالیة المتعاونة مع الصهیونیة، من شانها أن تحشد وتعبئ جمهور المؤمنین لدعم ومناصرة بدوات الرأسمال، خاصة منطقة الشرق الأوسط. ونظرا لرسالتها الفکریة هذه رحبت بها الکلیات العسکریة فی الدول الرأسمالیة المتقدمة وکذلک فی کلیات إعداد الدیبلوماسیین وخبراء الإدارة فی المستعمرات.
فی عام 1881 حدث أول اشتباک بین الیهود والعرب الذین طردوا من المزارع التی عملوا علیها لصالح الإقطاعیین العرب المتغیبین بمدن بیروت ودمشق. وحتى عام 1948 کان قد هجر من مزارعهم اکثر من أربعمائة ألف مزارع من قراهم. البروفیسور کلاوزنر بات على بینة من وجود عرب مقیمین فی فلسطین؛ ووجودهم الکثیف، حسب تقدیرات ذلک العهد، یتعارض مع مقتضیات إقامة الدولة الیهودیة. تأکد تواطؤ دول الغرب مع المشروع الصهیونی للمراقب الحصیف بعد الحرب العالمیة الأولى، حین وافقت عصبة الأمم على منح بریطانیا، صاحبة وعد بلفور،
سلطة الانتداب على فلسطین، بوصفها الأقدر على المساعدة فی تنفیذ المشروع الصهیونی. وفی الأمم المتحدة عام 1947 تمت صیاغة قرار التقسیم الجائر والاستفزازی کی تضمن معارضة العرب للقرار وتحملهم مسئولیة العملیات الحربیة التی ستکون الستار لعملیة التطهیر العرقی، والتـأصیل للکراهیة العرقیة والتناقض التناحری بین الدولة العبریة والشعب الفلسطینی ودول الجوار.
إن ما بات یعرف بالنکبة یسجل مرحلة تطهیر البلاد من سکانها وشطب فلسطین من الخارطة ومن الذاکرة. ودوّن الجریمة المؤرخ الیهودی المشهور الدکتور إیلان بابیه فی کتابه "التطهیر العرقی فی فلسطین".
أورد الدکتور إیلان بابیه، أنه فی "عصر یوم أربعاء بارد، فی 10 آذار (مارس) 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مکونة من قادة صهیونیین قدامى وضابطین عسکریین شابین، اللمسات الأخیرة على خطة لتطهیر فلسطین عرقیاً. وفی مساء الیوم نفسه، أُرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقیام بطرد منهجی للفلسطینیین من مناطق واسعة فی البلد. وأتت الاشتباکات المسلحة مع المیلیشیات الفلسطینیة المحلیة لتوفر السیاق والذریعة المثالیة من أجل تجسید الرؤیا الأیدیولوجیة التی تطلعت إلى فلسطین نقیة عرقیاً. وکانت السیاسة الصهیونیة فی البدایة قائمة على ردات فعل انتقامیة على الهجمات الفلسطینیة فی شباط (فبرایر) 1948، لکنها ما لبثت أن تحولت فی آذار (مارس) 1948 إلى مبادرة لتطهیر عرقی للبلد بأکمله.
علق المؤرخ الیهودی على العملیة بالقول،" إن هذه الخطة التی تقرر تطبیقها فی 10 آذار 1948، والأهم من ذلک تنفیذها بطریقة منهجیة فی الأشهر التالیة، تشکل مثالاً واضحاً جداً لعملیة تطهیر عرقی، وتعتبر الیوم فی نظر القانون الدولی جریمة ضد الإنسانیة". تحدث بابیه فی نفس الکتاب عن فترة من القلق انتابت القیادة الصهیونیة، نظرا لظاهرة هدوء ومراجعة من جانب العرب الفلسطینیین قد تعرقل، إذا ما استمرت، خطة التهجیر القسری من خلال المعارک المسلحة. ثم تهیأت الملابسات التی مکنت بن غوریون من تنفیذ خطة التهجیر. وقال بابیه فی الکتاب أن دول الغرب کانت موافقة ضمنا على المجازر باعتبارها وسیلة للوصول إلى دولة موسعة نقیة من سکانها الأصلیین.
بدأت إسرائیل فکرة ومضت فی التنفیذ العملی مشروعا وحروبا متتالیة وتهجیر واحتلال تنسیق مع الأطماع الاستعماریة وإجراءات أخرى شتى أدت من خلالها وظیفة محددة تخص الرأسمال العالمی، وظیفة تناقض ما تدعیه من أمن الیهود وبقاء دولتهم؛ کما أن طبیعة الدولة ونهجها السیاسی وعلاقاتها الدولیة قد صممت طبقا لهذه الوظیفة. ولولا هذه الطبیعة وتلک الوظیفة لما اتخذت العلاقة منحاها التراجیدی على أرض فلسطین. وکتب رجل السلام الإسرائیلی، أوری أفنیری، فی کتابه باللغة الانجلیزیة " إسرائیل بلا صهاینة " أن خطة بن غوریون المسماة " الصهیونیة العملیة"، والتی نفذت فی ظل الانتداب، والمبنیة على الأرکان الثلاثة - الملکیة العبریة والعمل العبری والدفاع العبری- شکلت الدینامو المولد للصراعات الدامیة بین العرب والیهود، والمحفز للصراع العنصری فوق أرض فلسطین.
لم تأت مصادفة علاقات التعاون والتنسیق بین الیهودیة الأصولیة (الصهیونیة) والمسیحیة الأصولیة؛ بل ضرورة أملاها الانطواء على الفکر التبریری للمشاریع التوسعیة لمراکز الراسمالیة فی قارتی آسیا وإفریقیا. کانت الصهیونیة ومشروعها فی فلسطین ضرورة عضویة لمشاریع الاحتکارات الرأسمالیة-والاحتکارات البریطانیة على وجه الخصوص - فی المنطقة العربیة. ولم تتبدل وظیفة المشروع الصهیونی بفلسطین طوال حقبة الإعداد لإقامة الدولة العبریة وعبر نشاطها طوال الستین عاما الماضیة. فاهتمام الحرکة لم یقتصر على فلسطین، بل شمل جمیع أقطار المنطقة التی ناقش مصائرها مؤتمر بنرمان. فالدولة العبریة إحدى ضرورات السیطرة الکولنیالیة على المنطقة، وهی تنسق حاجاتها ومشاریعها وعلاقاتها طبقا لمنطق هذه السیطرة. کان ذلک فی الماضی ولم یزل فی الحاضر وضمن مخططات المستقبل. وکتب اوری أفنیری فی مقال نشر له مؤخرا هناک أجندة مخفیة لإسرائیل قائمة فی اللاوعی، بموجبها تتهرب إسرائیل من السلام وتمتنع عن رسم حدودها لأن حدودها تتقرر وفق قدراتها السیاسیة والعسکریة. وفی مقالة أخرى استرعى اوری أفنیری الانتباه إلى أن إسرائیل هی المبادرة دوما لکسر التهدئة، حیث تکمن مصلحتها فی استمرار الصدامات المسلحة. حقا فهی غیر معنیة بأمن الیهود ولا یضیرها تقدیم الیهود وقودا لمغامراتها العسکریة. إسرائیل معنیة بتشجیع کل مظهر للتخلف العربی فی أی من مجالات الحیاة.
نجحت مخططات الصهیونیة وحلفائها فی إنجاز مهماتها فی أغلب المصادمات، لأنها استندت إلى مظاهر التخلف العربی، وغلفت العدوان ب"الدفاع"، وذلک بموجب مؤامرات حیکت فی الظلام مستثمرة الاندفاع المتهور غیر المحسوب والعفوی والارتجالی لحرکات الممانعة والمقاومة. ونظراً للنهج غیر العلمی والمبنی على اعتبارات ذاتیة غیر موضوعیة ولا واقعیة لقادة حرکات الممانعة العربیة والفلسطینیة فقد ظلت تواجه الفشل والاندحار. واستمرت هذه الحرکات طوال اکثر من قرن ذات طابع مقاومة عاجزة عن إیقاف مد التوسع الاستیطانی الإسرائیلی على حساب الوجود العربی بفلسطین.
أما فی الآونة الأخیرة، خاصة بعد انهیار الاتحاد السوفییتی فقد باتت خطط التحالف المعادی لشعوب العالم تطرح على المکشوف وتعلن قدرا لاراد له ولا فکاک منه. فمنذ أوائل عقد التسعینات من القرن الماضی کشف المحافظون الجدد فی الولایات المتحدة عن خطة القرن الأمریکی، وبموجبها یعاد شرذمة منطقة الشرق الأوسط وتتطلع إسرائیل إلى أن تصبح دولة تستأثر بجمیع " أرض المیعاد"، دولة إقلیمیة مقررة لشئون الدویلات المحیطة بالمنطقة. اتضح للشعوب العربیة أن برامج إسرائیل لا تقتصر على الإضرار بالشعب الفلسطینی وحده؛ بل إنها تطال جمیع الأقطار العربیة، تحول دون خروجها من مأزق التبعیة والتخلف واستبداد الحکم والتشرذم. قدم مثال العدوان على العراق وما واکبه من أعمال تخریب وسرقة وتدمیر للمعالم الحضاریة واغتیالات بالجملة للکوادر العلمیة وتجهیز مشاریع التقسیم أن التحالف الامبریالی الإسرائیلی ممعن فی إحکام طوق التخلف والتبعیة والتمزق العرقی والطائفی على العراق، کنموذج مهیأ للأقطار العربیة کافة. وفی نفس الوقت اشهرت الصهیونیة ضلوعها فی مشاریع الاحتکارات عابرة الجنسیة التی جلبت الجوع والفقر على شعوب العالم کافة. إسرائیل والحرکة الصهیونیة جزء عضوی من العولمة المعاصرة.
ضمن هذه العلاقة الاستراتیجیة یتضح استحالة ردع مخططات إسرائیل داخل فلسطین وضد الدول العربیة کافة بجهود منفردة. فالنضال ضد نهج دولة إسرائیل یجب ان ینظر إلیه مندمجا بالنضال المناهض للامبریالیة. وهو نضال مشروط بنهوض عربی شامل ینشد التحرر والدیمقراطیة والتنمیة والوحدة. لقد فضحت إسرائیل نفسها فی قلب الحرکة العالمیة التی فرضت الخصخصة وتقلیص خدمات الدولة وأسفرت عن المزید من إفقار الشعوب. إسرائیل أحد فصائل العولمة التی سببت المجاعات والحروب الطائفیة والعرقیة فی کل جنبات المعمورة. إن وقوف بوش المتضامن مع إسرائیل ومشاریعها التوسعیة لیس قوة لإسرائیل، بقدر ما جاء فضیحة أخلاقیة وعزلة سیاسیة. یمکن فی الوقت الراهن، بل یجب وقف التوسع الاستیطانی الإسرائیلی داخل الأراضی العربیة المحتلة، وذلک من خلال وحدة جمیع قوى المقاومة الفلسطینیة ضمن حرکة شعبیة دیمقراطیة. ینبغی خوض نضال یستلهم الطابع الإنسانی للمقاومة الفلسطینیة ویستحوذ على تضامن قوى مناهضة العولمة ومساندتها. وفی هذا النضال الدولی لا یتطفل النضال الفلسطینی على الحرکة العالمیة؛ إنما یلعب دورا محوریا فاعلا فی حرکة العولمة المضادة.
( الدراسة لابو یوسف محمون )
ن/25