qodsna.ir qodsna.ir

ماذا بقى من الصهیونیة ؟

من بین المطالب التى تقدمت بها الحکومة الإسرائیلیة للسلطة الوطنیة الفلسطینیة، استعدادا لمؤتمر 'أنابولیس'، أن تعترف السلطة الوطنیة بإسرائیل کدولة یهودیة، أو دولة الشعب الیهودى، وهو الأمر الذى رفضه الجانب الفلسطینى، مؤکدا أن منظمة التحریر تبادلت الاعتراف مع إسرائیل، ومن ثم لا یوجد مبرر لإعادة الاعتراف من قبل الفلسطینیین بإسرائیل کدولة یهودیة. وقد أثار هذا المطلب تساؤلات فى إسرئیل، حیث طرح بعض الکتاب والمحللین هناک تساؤلات عن مغزى أن تطلب الحکومة الإسرائیلیة من السلطة الوطنیة الفلسطینیة الاعتراف بیهودیة الدولة، فى حین أن الدولة ذاتها تعرف نفسها على أنها دولة 'یهودیة دیمقراطیة'، وهل تطلب الدول من الخصوم أو الأصدقاء الاعتراف بتعریفها لنفسها، أم أن مسألة تعریف الدولة لذاتها أمر یخصها، بصرف النظر عما یحتویه التعریف ذاته من تناقضات؟ فإسرائیل فى نظر قطاع رئیسى من الدارسین هناک لیست بدولة دیمقراطیة وفق التعریف الغربى للمفهوم، بل إن دیمقراطیتها مقصورة على الیهود، والغربیین منهم، ولذلک یعرفون الدیمقراطیة الإسرائیلیة بأنها دیمقراطیة دینیة - للیهود- وعرقیة - أى لیهود الغرب.

والحقیقة أن المطلب الإسرائیلى الأخیر یعکس المأزق الجوهرى الذى تعانیه إسرائیل بعد مرور ستة عقود على قیامها بقرار من الأمم المتحدة، وهو هاجس طبیعة الدولة: هل ستستمر إسرائیل کدولة یهودیة، أم أن یهودیة الدولة مهددة بسبب تراجع موجات هجرة الیهود من العالم من ناحیة، وعمل الزیادة الطبیعیة لمصلحة غیر الیهود - الفلسطینیین - من ناحیة أخری؟ إضافة إلى ذلک، فقد یترتب على عملیة التسویة السیاسیة عودة لاجئین فلسطینیین إلى دیارهم داخل إسرائیل، مقابل طموح إسرائیلى بنقل کتلة کبیرة من الفلسطینیین الذین یحملون الجنسیة الإسرائیلیة إلى الدولة الفلسطینیة الولیدة فى صفقة للتبادل السکانى، على غرار ما جرى بین ترکیا والیونان.

تعریف المأزق على هذا النحو یعید الحدیث مجددا عن طبیعة الحرکة الصهیونیة ومآلها. وقد طرح الموضوع على نحو جدى عقب انتخابات الکنیست الإسرائیلى السابع عشر التى جرت فى السادس والعشرین من مارس 2006 . حیث کتب جادى طاؤوف مقالا فى صحیفة معاریف فى الثامن من مایو من العام نفسه بعنوان 'الصهیونیة تعود إلى هرتزل'، مؤکدا أن جوهر الرؤیة الصهیونیة لدى تیودور هرتزل یتلخص فى أنه 'لکى یستطیع الیهودى أن یکون کسائر البشر، یحتاج إلى شعب ودولة، فإنه یحتاج إلى مکان واحد فى العالم لا یکون الیهود فیه أقلیة'. وقد مثل هرتزل الصهیونیة السیاسیة مقابل الصهیونیة الدینیة التى لا تتوقف عند حدود الدولة، بل تراها، أى الدولة، أداة فى ید العنایة الإلهیة لإعداد إسرائیل للخلاص، ومن ثم فالهدف لا أن یکون شعب إسرائیل کسائر الشعوب، کما یرى هرتزل، بل أن یکون شعبا مقدسا مع إله حى مرکزه القدس والهیکل داخلها'. ومقولة إن هرتزل انتصر فى الانتخابات الأخیرة جاءت تعلیقا على تقدم تیار الوسط الذى یدعو إلى ' دولة یهودیة دیمقراطیة ، دون علاقة لذلک بالخلاص التام'. فالفکرة التى طرحها رئیس الوزراء الإسرائیلى السابق آرییل شارون بالانسحاب من قطاع غزة جاءت فى سیاق الحفاظ على إسرائیل کدولة یهودیة أو ذات أغلبیة یهودیة، وهو ما یمثل قلب الفکرة الصهیونیة، کما حددها جابوتنیسکى، وکما بلورها هرتزل. وعندما بلور شارون خطته للانسحاب من أجزاء کبیرة من الضفة الغربیة، فقد انطلق من الفکرة نفسها وللهدف نفسه. وعندما تبنى خلیفته إیهود أولمرت الفکرة نفسها، فقد تبناها إیمانا بالهدف نفسه على النحو الذى جاء فى کلمته أمام مؤتمر هرتزیلیا السادس حول 'میزان المناعة والأمن القومى الإسرائیلی' الذى عقد فى الفترة من 21 إلى 24 ینایر 2006، على النحو الذى سیرد ذکره.

والحرکة الصهیونیة هى أیدیولوجیة سیاسیة نشأت فى القرن التاسع عشر بهدف إعادة توطین الیهود فى فلسطین باعتبارها أرض المیعاد کوسیلة لحل المشکلة أو المسألة الیهودیة. وقد بدأت الحرکة مع کتابات موسى هیس ( 1812-1875) وتحدیدا کتابه ' روما والقدس' عام 1862، الذى دعا فیه إلى بعث القومیة الیهودیة فى القدس بعد تحریرها. وجاءت نقطة التحول الجوهریة فى تطور الفکرة الصهیونیة وتحولها إلى حرکة سیاسیة مع تیودور هرتزل (1860-1904) الذى حدد الهدف الرئیسى للحرکة فى عودة الیهود إلى فلسطین. وقد استند جوهر رؤیة الحرکة الصهیونیة على ما سماه المشکلة الیهودیة، وهى المشکلة التى ترجع إلى تردى أوضاع الیهود فى المجتمعات الغربیة لأسباب سیاسیة واقتصادیة وتاریخیة، حولتها الحرکة إلى عوامل میتافیزیقیة تتعلق بالطابع الوجودى للیهود. فمادام هناک یهود وغیر یهود، فسوف تستمر المشکلة متجاوزة الزمان والمکان. ومن ثم، فالمشکلة لدى الحرکة الصهیونیة ترتبط بوجود الیهود أنفسهم فى عالم لا ینتمون إلیه، ولا ینبغى علیهم الذوبان فیه، ولیس هناک من حل للمشکلة الیهودیة سوى عودة الیهود إلى فلسطین، أرض المیعاد، وإقامة دولتهم الیهودیة النقیة، حیث یستطیع الشعب الیهودى ممارسة حیاته الیهودیة الحقیقیة.

وقد استندت الحرکة الصهیونیة على دعامتین فکریتین أساسیتین :

الأولی: الاعتقاد بفکرة النقاء العنصرى للیهود، أى أنهم کجماعة لم یتعرضوا لما تعرض له غیرهم من تداخل بین السلالات والأعراق المختلفة. وفى هذا السیاق، قال موسى هیس - فى کتاب 'روما والقدس الصادر عام 1862 - 'الجنس الیهودى من أقدم وأعرق الأجناس البشریة، وإلیه ترجع وحدة الیهود، لأن الجنس الیهودى حفظ صفاءه عبر القرون'. کما أکد هرتزل أن 'الیهود یکونون جماعة بیولوجیة ممیزة'. وفصل کثیرون فى مسألة التفوق والتمیز الیهودى على سائر الأعراق البشریة، فکتب آحاد هعام ' من الطبیعى أن یسلم الإنسان بحقیقة وجود درجات کثیرة فى سلم الخلیقة، والتى یتقدمها جمیعا الجنس الیهودی'. الثانیة: أبدیة معاداة السامیة ، فمادام هناک یهود وغیر یهود، فسوف یتعرض الیهود للاضطهاد والظلم لکونهم یهودا. وحسب زفى هیرتش کالیشر، فى کتابه 'البحث عن صهیون'، فإن 'کراهیة الیهود واحتقارهم شعور أصیل فى النفس البشریة، ومعاداة السامیة لا یمکن أن تزول، مادمنا - الیهود - لا نملک وطنا قومیا خاصا بنا'. أما تیودور هرتزل، فقد کان أکثر وضوحا فى التوظیف السیاسى لفکرة معاداة السامیة، حیث کتب یقول ' یجب على الیهود أن یعرفوا کیف یستخدمون معاداة السامیة لصالحهم'.

ومن ثم، فإن الحرکة الصهیونیة کانت المحرک الأساسى وراء إضفاء صفة القومیة على الیهود واعتبارهم عرقا نقیا لابد أن یحافظ على نقائه هذا، ومن ثم فقد عارضت الحرکة اندماج الیهود فى أوطانهم الأصلیة، وروجت لفکرة أن الیهود لا یمکن أن یحافظوا على نقائهم هذا إلا بالهجرة إلى فلسطین 'أرض الموعد'.

ونجح هرتزل فى تحویل أمانى العودة الیهودیة من هدف دینى إلى سیاسى، حیث صاغ هرتزل أفکاره هذه فى کتیب نشره بالألمانیة بعنوان 'دولة الیهود' عام 1896، وفى العام التالى دشن أول حرکة یهودیة عالمیة، ممثلة فى المؤتمر الصهیونى الأول (بازل)، حیث تضمن برنامج المؤتمر مبدأ تشجیع الهجرة الیهودیة إلى فلسطین، والحصول على اعتراف دولى بشرعیة الاستیطان الیهودى فى فلسطین، وإنشاء منظمة دائمة توحد کل یهود العالم بهدف خدمة القضیة الیهودیة. وعلى الرغم من أن معظم قادة الحرکة الصهیونیة کانوا من العلمانیین وبعضهم کان ملحدا، إلا أنهم جمیعا وظفوا فکرة العودة إلى أرض المیعاد واستخدموا لغة ومفردات دینیة فى دفع الیهود وحفزهم على الهجرة إلى فلسطین، ثم إسرائیل عند إعلان الدولة، ثم فى الفترة التى تراجعت فیها موجات الهجرة الیهودیة من الشتات. فمن جانبه، قال دیفید بن جوریون - أول رئیس وزراء لإسرائیل- فى یولیو 1949 ' إن من واجب یهود العالم أن یعودوا إلى وطنهم الأول، إن هدفنا الآن ینحصر فى حث جمیع یهود العالم على العودة إلى إسرائیل'. وعاد فى أواخر عام 1960 لیؤکد عدم استقامة بقاء الیهودى خارج إسرائیل مع دیانته الیهودیة، قائلا 'إن الیهود الذین یعیشون خارج إسرائیل کفار ویتعرضون لنقض الفرائض الیهودیة کل یوم'. وفى کلمة له أمام الکنیست، قال بن جوریون ' بالهجرة الجماعیة، أمکن إنشاء الدولة وبفضل الهجرة وحدها یمکن أن تصمد'. أما جولدا مائیر، فقد کانت أکثر وضوحا فى القول 'لا جدوى لدولة إسرائیل دون شعب یهودى مرتبط بها، کیف یکون لنا دولة بدون هجرة؟'. ولخص أحد مسئولى الوکالة الیهودیة جوهر الفکرة الصهیونیة فى مسألة الهجرة بالقول: 'إذا نضب ینبوع الهجرة، فلن نستطیع الحفاظ على الدولة، حتى وإن عقدنا تحالفا سلمیا مع کل جیراننا، إن المحیط العربى سیبتلعنا دون أن یترک لنا أى أثر'.

من هنا، یمکن القول إن الحرکة الصهیونیة التى نجحت فى إقامة الدولة عبر تدفق موجات الهجرة الیهودیة من ' الشتات'، بدأت بمرور الوقت تعانى مشاکل جمة، أبرزها تراجع موجات الهجرة الیهودیة نتیجة 'نضوب' الوجود الیهودى فى کثیر من دول شرق ووسط أوروبا، واندماج الیهود فى عدد من المجتمعات الغربیة، أبرزها الولایات المتحدة الأمریکیة، حیث لم تعد فکرة 'معاداة السامیة' تجدى فى جذب المزید من الیهود. وأدى بدء عملیة التسویة السیاسیة مع الفلسطینیین إلى طرح تساؤلات حول انتهاء دور الحرکة الصهیونیة أو ما اصطلح على تسمیته بـ 'ما بعد الصهیونیة'. ورأى البعض فى تراجع الصهیونیة وتحلل الأسس التى استندت إلیها مؤشرات واضحة على مستقبل إسرائیل کدولة یهودیة، وهو ما دفع عددا من القیادات السیاسیة الیمینیة إلى طرح أفکار حول 'التخلى عن أجزاء من أرض إسرائیل للحفاظ على نقاء الدولة الیهودیة'.

ومن بین أبرز الدراسات التى تناولت هذه القضیة بکافة أبعادها الدراسة التى أعدتها ' لیئة کوهین' بعنوان ' الصهیونیة .. معالم واتجاهات'، وذلک ضمن مشروع استشراف مستقبل إسرائیل فى عام 2020، والذى ترجمه مرکز دراسات الوحدة العربیة ببیروت، وأصدره فى ستة مجلدات عام 2005، وقد جاءت الدراسة فى المجلد السادس ص ص 395-415 . وقد عرّفت الدراسة الصهیونیة باعتبارها محاولة لضمان استمرار وجود الشعب الیهودى بفعل عوامل موجودة فى الحاضر التاریخى ولیس فقط بواسطة التقالید التاریخیة. ورأت أن عوامل الکینونة الصهیونیة تتمثل فى الأرض، واللغة والسلطة السیاسیة. وعبر تشابک هذه العوامل، تظل الفکرة ساریة المفعول، ومن ثم فإن أیة تطورات تمر بها تقتضى إعادة صیاغة من جدید ولیس إلى مراجعة. وربما جاء هذا الاستخلاص کنوع من الرد على تیار 'ما بعد الصهیونیة'، وهو التیار الذى نشط عقب توقیع اتفاقیات أوسلو فى سبتمبر 1993، وذلک عندما حرر 'أورى رام' من دائرة علوم السلوک بجامعة حیفا کتابا بعنوان 'المجتمع الإسرائیلى .. جوانب انتقادیة'. وانطلق هذا التیار من مقولة إن الصهیونیة قد استنفدت نفسها أو حققت مهمتها بنجاح ملحوظ، ومن ثم فقد بدأت عملیة مراجعة تاریخیة لحقیقة ما جرى من المنظمات الصهیونیة قبل وأثناء وبعد إعلان الدولة الیهودیة، وتحدیدا ما ارتکبته المنظمات الصهیونیة من جرائم وما مارسته الدولة الإسرائیلیة من 'عملیات إرهابیة'.

وقد مثل تیار ما بعد الصهیونیة تحدیا واستفزازا للحرکة للصهیونیة. وأوضح عالم الاجتماع أورى رام - فى مؤتمر عقد بجامعة حیفا عام 1994 حول 'تاریخ الصهیونیة بین الحلم والمراجعة' - أن ما بعد الصهیونیة هو انتقال من وعى تاریخى احتکارى إلى وعى تعددی. فالصهیونیة، کثقافة سیاسیة، دعت إلى التجند لمهام حرکیة وسیاسیة، کما أوجبت اعتبار الصهیونیة جزءا من الهویة الشخصیة. ویتمثل جوهر ما بعد الصهیونیة فى تأکید أنه نظرا لأن الیهود وصلوا إلى نجاح ملحوظ من خلال الدولة الیهودیة، وهم فى اتجاه المصالحة والسلام، فإنه بالإمکان التحدث عما بعد الصهیونیة، ورأوا أن ما بعد الصهیونیة لا یعنى اللاصهیونیة. وإذا کانت الصهیونیة علاجا لنوع من المرض، فإنه بالإمکان الآن - وإلى حد معین - تخفیف کمیة وحدة العلاج. وتتمثل إحدى الطرق فى إزالة رفض المنفى أو منح شرعیة محدودة على الأقل للمنفى عبر زیادة انفتاح المجتمع الإسرائیلى على ثقافة المنفى، وکذلک المبادرة إلى مشروعات مشترکة بین إسرائیل والمنفى، لیس فقط فى إسرائیل، بل حتى تجاه العالم کمشروع مساواة ومشارکة متساویة الأضلاع .

وقد تعرض رموز هذا التیار، أمثال بنى موریس وإیلان بابه، لهجوم شدید واتهامات واسعة النطاق دفعت العدید منهم، وتحدیدا بنى موریس، إلى مراجعة مواقفه والتراجع عن جوهر مقولات تیار ما بعد الصهیونیة. وبمرور الوقت، تراجع هذا التیار نتیجة تعثر عملیة التسویة واندلاع الانتفاضة الفلسطینیة الثانیة فى سبتمبر عام 2000. وفى هذا السیاق، یقول توم سجیف 'لقد أرغمتنا الانتفاضة على العودة إلى داخل ذواتنا الصهیونیة .. الإرهاب الفلسطینى یعیدنا إلى الرحم الصهیونیة، فکل الانفتاح الذى لاحظت حصوله عقب توقیع اتفاقیات أوسلو لم یبرهن على نفسه حتى الآن'. وأضاف 'الشیء الذى تصدر اهتمام تیار ما بعد الصهیونیة کان الجدل حول الکیفیة التى یمکن أن تکون فیها الدولة یهودیة ودیمقراطیة..الیوم لم یعد هناک من یأبه بهذا الموضوع .. فنحن نشعر - کما یخیل إلیّ - بأننا نحارب ونصارع دفاعا عن حیاتنا ، وهذا بسبب العرب'. وتذهب الدراسة إلى أن الصهیونیة سوف تستمر، لأنها لا تکتفى بالعودة إلى صهیون (أرض إسرائیل) بالمعنى الرسولى أو الدینى، فقد جرى إرساء مکونات واضحة: الکیان الجماعى، وإرساء المکانة الإقلیمیة واللغة العبریة. فالصهیونیة حددت، کأساس، الیهودیة: هى کیان قومى ذو خصوصیة اجتماعیة وثقافیة وروحیة، تبلورت فى عملیة تاریخیة، وبذلک فهى صادرت الهویة الیهودیة من مجال التفویض الدینى المطلق، ووضعت الدین کأساس ثقافى روحی. وترى الدراسة أیضا أن الصهیونیة افترضت أن التکتل القومى للشعب الیهودى المبعثر سوف یتحقق فى عملیة تدرجیة طویلة وربما لا نهایة لها، تتمثل فى الاستیطان فى أرض إسرائیل. کما أولت الصهیونیة أیضا أهمیة علیا للتربیة القومیة، کقائد للثقافة الیهودیة للفرد، وکسد أمام اندماج الکثیرین.

تناقش الدراسة - التى أعدتها لیئة کوهین بعنوان 'الصهیونیة .. معالم واتجاهات - مشکلة الصهیونیة فى عالم الیوم، وترى أن هذه المشکلة تتمثل فى انتقال مرکز ثقل الحیاة الیهودیة فى المنفى من أوروبا إلى الولایات المتحدة الأمریکیة، حیث تحقق للیهود تحرر أکثر مما کان متوقعا، تحقق التحرر فى کینونة یهود الغرب وبخاصة یهود الولایات المتحدة. وقد حدث ذلک ویحدث کعملیة موازیة لقیام ورسوخ دولة الیهود على طریق الوجود المشترک _ التحرر والتحرر الذاتى - جنبا إلى جنب، وهنا، تکمن المشکلة الجوهریة للوجود الیهودى فى العصر الحالی. فالحریة السیاسیة والاقتصادیة والتسامح والتعددیة والوعى الاجتماعى، کل ذلک یکبل أکثر فأکثر أقدام الخصوصیة الیهودیة فى منافى الغرب. والاندماج فى المجتمعات الجدیدة آخذ بالتعاظم إلى درجة أنه یمکن القول - حسب المؤرخ 'روبرت ویستریخ'، - 'إن هذه الأمور، وبشکل تناقضى، تهدد بأن تحقق بالطرق السلمیة ما عجزت البربریة النازیة عن تحقیقه، أى الاختفاء التدریجى للشعب الیهودى، إذ إن استمرار وجوده وخصوصیته، کمجموعة إثنیة ذات أعراف ومعتقدات دینیة ووعى یهودى ومعرفة وإبداع ثقافى، بات مثار شک فى الوقت الذى یعیش فیه المهاجر فى ظروف أفضل من أى وقت مضی'.

وتطرح الدراسة بعد ذلک سؤالا مهما هو 'هل یستطیع شعب، نجح بصورة رائعة فى أن یتعافى من الکارثة وحافظ على بقائه على امتداد أکثر من ألفى عام من النفى، أن یسلم بحدث غیر دراماتیکى ولکنه قطعا ملموس یتمثل فى الاختفاء الهادئ والکئیب من مسرح التاریخ ؟

وفى الإجابة على هذا السؤال، تشیر الدراسة إلى أن معظم أبناء الشعب الیهودى، سواء فى إسرائیل أو الشتات، هم الیوم من العلمانیین .. وهکذا على ما یبدو سیکونون فى المستقبل. وکعلمانیین یدرکون أیضا أن الهویة الیهودیة لأبنائهم وأبناء أبنائهم لم تعد أمرا مفهوما من تلقاء ذاته، وبالقدر ذاته لم یعد بمقدورهم افتراض أن البقاء الجماعى للشعب الیهودى أمر مضمون حتى مع وجود الدولة الیهودیة. وترى الدراسة أنه فى غیاب نموذج مستحدث وموضوعى لـ 'الصهیونیة'، فإن علاقات إسرائیل ویهود الشتات قد تتدهور إلى سلبیة شاملة ترغم یهود الشتات على أن یطوروا لأنفسهم نموذجا مختلفا للهویة والوجود الیهودى، بحیث یصبح من الصعب کثیرا جسر الهوة القائمة بین هذه المجتمعات.

ولا یزال الجدل متواصلا حول مستقبل الصهیونیة. فالمؤکد أن قرار الجمعیة العامة للأمم المتحدة رقم 86/46 بتاریخ 16 دیسمبر 1991 - والذى قضى بإلغاء قرار الجمعیة العامة 3379 (د-30) بتاریخ 10 نوفمبر 1975، الذى اعتبر الصهیونیة حرکة عنصریة - قد أعاد قدرا کبیرا من الانتعاش والزخم للفکرة. کما أن ضغوط الواقع فى الأراضى الفلسطینیة، والتحولات الإقلیمیة المتسارعة، قد أدت إلى تعضید موقف الصهیونیة وإضعاف تیار ما بعدها. وقد استغلت النخبة السیاسیة الإسرائیلیة هذه التطورات کى تعید النفخ فى 'الصهیونیة'، وتتحدث مجددا عن المخاطر التى تحیط بمستقبل إسرائیل کدولة یهودیة. وعند الحدیث عن إسرائیل هنا، فإن التعامل معها یجرى باعتبارها نتاج الصهیونیة، ولولا الصهیونیة ما قامت دولة إسرائیل. ویستقر الرأى هناک أیضا على أنه بدون الصهیونیة، فإن مستقبل إسرائیل کدولة یهودیة یکتنفه الغموض، فإسرائیل هى نتاج الصهیونیة، ولا تزال تحتاج إلى الصهیونیة من أجل ترسیخ أرکان الدولة بعد نحو ستة عقود على إعلانها. وحتى عندما أرادت النخبة السیاسیة الإسرائیلیة التوصل إلى تسویة سیاسیة أو فرض تسویة أحادیة على الجانب الفلسطینى، عادت إلى الصهیونیة من أجل تبریر وتسویق الخطوة المنشودة. ویکشف عن ذلک بوضوح حدیث رئیس الوزراء الإسرائیلى الحالى إیهود أولمرت، أمام مؤتمر هرتزیلیا السادس حول 'میزان المناعة والأمن القومى الإسرائیلی' الذى عقد فى الفترة من 21 إلى 24 ینایر 2006 . فقد أکد أولمرت أمام المؤتمر أن ' الخطوة الأکثر أهمیة أمام إسرائیل هى رسم الحدود الدائمة لدولة إسرائیل من أجل ضمان الأغلبیة الیهودیة فى الدولة'. وعاد أولمرت فى کلمته إلى جابوتنیسکى لینقل عنه أهمیة تحقیق الأغلبیة الیهودیة والحفاظ علیها، مؤکدا أن 'اصطلاح دولة الیهود واضح بالتأکید، فهو یعنى أغلبیة یهودیة، بذلک بدأت الصهیونیة وفیه أساس وجودها وسوف تستمر على هذا الأساس إلى أن تحقق الهدف أو تندثر'. وأضاف أولمرت أمام المؤتمر ' إن وجود أغلبیة یهودیة فى دولة إسرائیل لا یتحقق مع استمرار السیطرة على السکان الفلسطینیین فى یهودا والسامرة (الضفة الغربیة) وغزة، نحن نتمسک بإصرار بالحق التاریخى لشعب إسرائیل فى أرض إسرائیل بأکملها، إن کل تلة فى یهودا وکل شبر فى السامرة جزء من وطننا التاریخى، فنحن لا ننسى ذلک للحظة واحدة. ومع ذلک، فإن الاختیار بین الرغبة فى تمکین کل یهودى من السکن فى أى مکان وبقاء دولة إسرائیل کدولة یهودیة یستوجب التنازل عن أجزاء من أرض إسرائیل، هذا لیس تنازلا عن الفکرة الصهیونیة، وإنما التجسید الجوهرى لهدف الصهیونیة المتمثل فى ضمان وجود دولة یهودیة ودیمقراطیة فى أرض إسرائیل'.

وأضاف أولمرت 'لذلک حتى نضمن وجود الوطن القومى الیهودى، نحن لا نستطیع مواصلة السیطرة على المناطق التى تعیش فیها غالبیة السکان الفلسطینیین، علینا أن نبلور فى أقرب وقت ممکن خطا حدودیا واضحا بعکس الواقع الدیموجرافى الذى نشأ على الأرض ، سوف تحتفظ إسرائیل بالمناطق الأمنیة وبکتل الاستیطان الیهودیة والأماکن التى لها أهمیة قومیة علیا للشعب الیهودى، فى طلیعتها القدس الموحدة تحت سیادة إسرائیل..لا وجود لدولة یهودیة دون أن تکون القدس العاصمة فى قلبها'. من هنا، یمکن القول إنه رغم أن التیار الرئیسى فى الفکر السیاسى الإسرائیلى یعتبر الصهیونیة قد أدت مهمتها بنجاح فى إقامة الدولة ودفع الیهود للهجرة إلیها، إلا أن البعض لا یزال یرى للصهیونیة دورا رئیسیا، فهى أداة التعبئة التى تستخدم فى أوقات الأزمات ولحظات اتخاذ القرارات المصیریة، وتبریر هذه القرارات. بل إن الرغبة فى الحفاظ على الفکرة الصهیونیة أدت - فى کثیر من الأحیان - إلى التأثیر على التوجه السیاسى للحکومات الإسرائیلیة المختلفة. فقد أدى الحدیث عن تواصل عملیة التسویة السیاسیة إلى ظهور تیار ما بعد الصهیونیة بمراجعاته المعروفة، فجاء الرد بتوفیر أجواء اندلاع الانتفاضة الثانیة، والتوجه صوب التحصن ضد البیئة الإقلیمیة والتراجع عن مطلب التطبیع- إلى حد کبیر- والعودة إلى أفکار الحل من جانب واحد للحفاظ على یهودیة الدولة عبر الانفصال عن الفلسطینیین، ودعوة المزید من الیهود للهجرة إلى إسرائیل، وربما أیضا الاستغراق فى مقولات معاداة السامیة کمحاولة لإعاقة اندماج الیهود فى 'الشتات'.

وجاء مطلب الاعتراف بإسرائیل کدولة یهودیة أو دولة الشعب الیهودى لإغلاق الطریق أمام حق العودة، وطرح أفکار لترحیل فلسطینیین من دیارهم أیضا. لا تزال للصهیونیة أدوار تلعبها، ووظائف تؤدیها، ولن یعلن عن وفاتها رسمیا بصرف النظر عن الرؤیة الإکلینیکیة.

( الدراسة للدکتور عماد جاد الخبیر بمرکز الدراسات السیاسیة و الاستراتیجیة و رئیس تحریر مجلة ' مختارات إسرائیلیة'  )

م/ن/25


| رمز الموضوع: 142882