الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

" مملکة الحاخامات" الصاعدة بقوة فی الکیان الصهیونی "

" مملکة الحاخامات" الصاعدة بقوة فی  الکیان الصهیونی "

 

 

یمکن القول، وبعد حوالی ستین عاماً على قیام دولة “إسرائیل”، وعلى ضوء تنامی النزعة العنصریة الفاشیة بین الجمهور الیهودی الذی أظهر استطلاع أجرته قناة الکنیست التلفزیونیة ونشرته یوم 31/3 أن 75% منه یؤید ترحیل فلسطینیی ال48 إلى “الدولة الفلسطینیة” الموعودة، وفی ظل تصاعد حالة الاستقطاب الأیدیولوجی الحاد داخل “إسرائیل” وارتفاع وتیرة الحرب الثقافیة الداخلیة بین من یرید أن یحوّل ما یسمى “الشریعة الیهودیة” إلى قانون ملزم، ومن یرید العیش فی دولة ذات منظومة قانونیة غربیة، وتحت وطأة الاستحقاقات الکبرى التی تعیشها الدولة العبریة فی خضم ما یسمى “المخاطر الاستراتیجیة”، ولا سیما بعد عدوان یولیو/تموز 2006 وتداعیاته المصیریة، یمکن القول إن الصهیونیة، وکما یعتقد یغئال سیرینا فی “یدیعوت أحرنوت” باتت “تتأرجح بلا توقف بین وضع الصعود وحالة الاکتئاب، بین المثالی والخیالی، مثلها مثل العصاب الجماعی”.

الطبعة الأحدث فی طفو واقع الانقسام المجتمعی “الإسرائیلی” على سطح المشهد الراهن ظهرت على خلفیة العملیة الفدائیة التی نفذها مقاوم فلسطینی (علاء أبو دهیم) فی المدرسة التوراتیة “مرکاز هراف” فی القدس المحتلة قبل بضعة أسابیع، حیث حرکت هذه العملیة التی کانت بمثابة رد على “محرقة” “الإسرائیلیین” فی قطاع غزة، عش الدبابیر الحریدی المتطرف الذی شحذ أسلحته ونزل إلى شوارع بلدة جبل المکبر وحی أبو طور فی القدس المحتلة، محطماً السیارات وزجاج المنازل العربیة، وسط إطلاق الصراخ والهتافات العنصریة المعادیة للفلسطینیین والعرب، فیما کانت توزع منشورات تحمل تواقیع 10 حاخامات فی القدس والمستوطنات تطالب ب”الانتقام” من العرب و”رد الصاع صاعین”، وتقول بصراحة فاقعة إنه “یجب العمل من أجل قیادة یهودیة وصالحة”، وهی ذات الدعوة التی یروج لها الحاخام اسحق غینزبورغ منذ زمن بعید لفک الارتباط عن مؤسسات الدولة واقامة “ملکیة” یهودیة بدیلة، ویقوم، فی الوقت ذاته، ما یمسى “سنهدرین الجدید” بإطلاق فتوى تقرر انه “کلما لم تقم القوات الأمنیة بتسویة الحساب مع أعدائنا، فرضت واجب الانتقام على غیرها من الافراد، بنفس الدرجة التی لا تتصرف فیها الحکومة فی دولة الیهود کحکومة یهودیة وانما کحکومة متنکرة الامر الذی یلقی بالمسؤولیة لاحراز السلام على الیهود”، وذلک فضلاً عن صدور عدة “تعلیمات فقهیة” تدعو إلى تعمیق الهوة بین الیهود والعرب، بما فیها دعوة الحاخام حاییم کینیابسکی، وهو من أهم الحاخامات الاصولیین، إلى التوقف التام عن تشغیل عرب فی المدارس الدینیة، وتشدید رئیس لجنة حاخامات “مجلس المستوطنات”، الحاخام دوف لیئور، على حظر تشغیل عرب بشکل عام او حتى تأجیرهم البیوت.

ومع أن العنوان الأبرز لهذه الحملة المسعورة من قبل قوى الأصولیة الدینیة الیهودیة المتطرفة، هو الانتقام من الفلسطینیین العرب، سواء فی الأراضی المحتلة عام ،1948 أو فی مناطق القدس والضفة الغربیة وقطاع غزة باعتبارهم مجرد “زبالة یجب رمیها فی الجزیرة العربیة”(!!) إلا أن ثمة من حذر من عدم الاستخفاف بتعلیمات الحاخامات وفتاواهم ودعواتهم العنصریة بذریعة الادعاء أنهم لا یؤثرون الا فی مجموعات قلیلة متطرفة فقط، مذکراً بان  التجربة برهنت ان لحاخامات الیمین المتطرف جمهوراً ینصاع لاوامرهم ویصغی لهم، وأن فتاواهم التوراتیة تتحول فی المعسکر الاصولی فی أکثر من مرة إلى رموز سرعان ما یصطف الحاخامات الذین یعتبرون من المعتدلین من ورائها وینصاعون لها. ولعل اغتیال رئیس الوزراء الأسبق إسحق رابین عام 1995 على ید متطرف حریدی هو المثال الأبرز على قوة تأثیر هؤلاء الذین یسعون إلى زج الرؤیة الدینیة المتطرفة فی الجدل الشعبی، وفی علاقة المواطن مع الدولة فی مسائل مهمة ومصیریة، ویعملون على  تطبیق المفاهیم التوراتیة على شؤون الدولة کالأمن والأراضی المحتلة عام ،1967 ومکانة فلسطینیی 48 وما إلى ذلک. وهم، عبر سلوکهم العملی، یقومون بتربیة أتباعهم على التصرف مثلما تصرف الیهود فی الغیتوات المغلقة: باعتبار الحکم “الإسرائیلی” طرفاً معادیاً واخفاء الامور عنه والتمرد على قوانینه والترکیز على مصلحة جمهورهم الاصغر، الأمر الذی یشکل تهدیداً للدولة وللمجتمع “الإسرائیلیین”.

فی تعلیقه على ما جرى فی مدرسة “مرکاز هراف” قرر أحد الحاخامات أنه “لو وقعت العملیة فی جامعة لکان الجمهور العلمانی صدم بقدر أکبر”، کاشفاً بهذه العبارة المختصرة، وبصرف النظر عن مدى صحتها، الهوة الأیدیولوجیة العمیقة بین “قبائل إسرائیل” المختلفة والمتنوعة إلى حد التباین، والتی أظهر  مقیاس  المناعة الاجتماعیة الذی نشر عشیة انعقاد “مؤتمر سدروت” فی 6/11 الماضی، انخفاضاً فی ثقة الجمهور بضمانة التکافل المدنی (54 فی المائة فی 2007 مقابل 27 فی المائة فی ،2003 قالوا إنهم لا یثقون بمساعدة سلطات الدولة لهم عند الحاجة)، فیما أظهر “مقیاس الدیمقراطیة”، الذی نشره “المرکز “الإسرائیلی” للدیمقراطیة” قبل نحو عشرة أشهر، النتائج التالیة: 31 فی المائة فقط من مواطنی “إسرائیل” یثقون ببعضهم بعضاً، 27 فی المائة فقط یعتقدون أن مصالح الدولة أهم من المصالح الشخصیة (مقابل 64 فی المائة فی 1981). وعندما طُلب من المستطلعین أن یحددوا هویتهم وضع 39 فی المائة فقط منهم الهویة “الإسرائیلیة” على رأس الأولویات.

بطبیعة الحال، لا نأتی بجدید إذا کررنا المعروف حول الانقسامات الأفقیة والعمودیة فی “إسرائیل” بین الیهود الأشکناز (الغربیین) ونظرائهم السفاردیم (الشرقیین)، وبین العلمانیین الذین یشکلون نحو 30% من یهود “إسرائیل”، والتقلیدیین (نحو 50%) والمتدینیین (نحو 20%) الذین ینقسمون بدورهم إلى: المتطرفین الحریدیم (الحریدی تعنی التقی) الذین یرتدون القبعات السوداء غیر المشغولة والملابس السوداء، و”المتدینین القومیین” ذوی الطواقی المشغولة، وینتظمون راهناً فی إطار ثلاثة أحزاب رئیسیة: “یهدوت هتوراة” وهو حزب الحریدیم الغربیین الذین قدموا من أوروبا الشرقیة، وحزب “شاس” (حراس التوراة) الذی یضم الحریدیم الشرقیین، والحزب الدینی القومی (المفدال) الذی ینتظم فی صفوفه المتدینون القومیون. کما أن من نافل القول إعادة التذکیر بحقیقة الخلافات الجوهریة بین العلمانیین والمتدینین حیال مختلف القضایا، سواء المصیریة الکبرى، أو التفصیلیة الیومیة، ذلک أن الإشکالیة المتعلقة بهذا الجانب استندت إلى حقیقة أن الدین الیهودی الذی استخدم کحاضنة دیمغرافیة وعقیدیة للمشروع الصهیونی، کان المرجع والأساس الذی توکأ علیه الحاخامات فی إدارة شؤون یهود الغیتوات المختلفة. ولم یعتد الیهود، ولا سیما المتدینون منهم، على قوانین الدولة قبل قیام دولة “إسرائیل”، ما أجبر دافید بن غوریون على التشدید، بعد قیام الدولة، على أن “على الیهودی من الآن فصاعداً ألا ینتظر التدخل الإلهی لتحدید مصیره، بل علیه أن یلجأ إلى الوسائل الطبیعیة العادیة مثل الفانتوم والنابالم” معتبراً أن “الجیش “الإسرائیلی” خیر من یمثل التوراة”!!

غیر أن هذا التشدید من قبل مؤسس الدولة العبریة لم یستطع أن یلغی تأثیر المتدینین الیهود الذین تمکنوا من تضمین بیان إعلان الدولة بعضاً من مطالبهم بحیث تضمن نص الإعلان عبارة حمالة أوجه جاء فیها: “بثقتنا برب “إسرائیل” ها نحن نوقف بأیدینا کشهود على إعلاننا هذا فی دورة أعضاء مجلس الدولة المؤقت، هنا فی المدینة العبریة مساء سبت 14/ 5/ 1948”. وقد شکلت هذه العبارة التوفیقیة بدایة عملیة لقوانین “الستاتیکو” العامة التی اعتمدتها “إسرائیل” بدلاً من الدستور الدائم الذی یصعب حتى اللحظة الاتفاق على شکله ومضامینه ما بین العلمانیین والمتدینین بتیاراتهم ونتفهم ورؤاهم المختلفة. وقد أفصح البروفیسور الیهودی یشیعاهو لیفوفیتش عن هذا الواقع عندما اعترف بأنه یوجد فی “إسرائیل” بین الیهود شعبان لا یستطیعان العیش معاً کل إلى جانب الآخر، ولا أن یتزوج الواحد من الآخر، وهما المتدینون وغیر المتدینین”. فالطرف الأول (المتدینون) یؤمن بضرورة اعتبار التوراة والتلمود (بشقیه المقدسی والبابلی) وأقوال وفتاوى الحاخامات عبر التاریخ الأسس الثابتة للثقافة الیهودیة، والسلوک الیهودی فی “إسرائیل”، وبضرورة منح الحاخامات الصلاحیات التامة لفرض الحیاة السیاسیة والاجتماعیة التی تتطابق مع هذه الأسس، فیما یرى العلمانیون ضرورة اعتبار مسألة الإیمان بهذه الثوابت والالتزام بما تتطلبه من سلوک وطقوس مسألة شخصیة لا حق لأیة مؤسسة “إسرائیلیة” أن تعمل على فرضها، خصوصاً وأن النظام “الإسرائیلی” یعتمد الدیمقراطیة وحریة الفرد.

تجلیات هذا الاختلاف الجذری ما بین دعاة “جمهوریة الحاخامات” وسلیلی الثقافة الغربیة بوجهها العنصری حیال الآخر الفلسطینی والعربی، أکثر من أن تعد خلال العقود الستة الماضیة، إلا أن الأبرز الذی یمکّن من التقاط خیوط کثیرة من وسط الجدل المحتدم راهناً حول مستقبل دولة “إسرائیل” التی تعرضت لخضات غیر مسبوقة فی الآونة الأخیرة، ولا سیما بعد الهزیمة المرة فی حرب یولیو/تموز ،2006 هو تلک الدعوة التی وجهها عام 2002 عشرون مفکراً ومثقفاً “إسرائیلیاً” تتزعمهم البروفیسورة میشیل عورین لإقامة دولة صهیونیة علمانیة فی أی مکان، حتى ولو کان ذلک وراء المحیط. ومرد ذلک، وفق عورین، هو أن “إسرائیل” “أصبحت مرکزاً للظلام الدینی”. وذلک بعد أن فشلت الدیمقراطیة فی “إسرائیل”، على ما یرى آلان دوتی، “فی ترسیخ جذورها، لأن الخصوصیة الیهودیة البازغة تغلبت علیها فی نهایة المطاف”. ویتوکأ دوتی على رصک برنارد أفیشای للمجتمع “الإسرائیلی”، حیث تعلم المدارس “الإسرائیلیة” الأطفال ما یتعلق بقبائل بنی “إسرائیل” أکثر بکثیر مما تدرسه لهم عن التنویر. ویرصد دوتی عشر عقبات أمام إقامة نظام دیمقراطی بعیداً عن تطرف الحاخامات “الإسرائیلیین” أهمها وجود عناصر فی الدیانة الیهودیة والفکر الصهیونی تتعارض مع مطالب الدیمقراطیة، ووفقاً للمنظور الدینی الیهودی یتعین إعطاء الأولویة للشریعة الإلهیة على القواعد والمؤسسات البشریة، کما أن الحریدیم یرفضون الاعتراف بشرعیة القوانین التی یتم وضعها بأسالیب دیمقراطیة، والتی یشعرون أنها تتعارض مع ما یسمونه “القانون السماوی الأعلى”.

ولعل من المناسب الإضاءة، للتوضیح، على بعض الجوانب المتعلقة بالشریعة الیهودیة (الهالاخاه) والتی ینتظم فی عقدها أسفار التوراة التی کتبت على مدى قرون عدة، وشروحات التلمود بشقیه، والتی صیغت کذلک على مدى فترة زمنیة طویلة، وضمن ظروف یهودیة مختلفة، والمزامیر، وفتاوى الحاخامات، والتی یضیف إلیها البعض ما یسمه ب “بروتوکولات حکماء صهیون” التی یرى العدید من المهتمین بأنها صناعة قیصریة روسیة. والمقصود هنا هو فتاوى الحاخامات التی تمثل رکناً مهماً فی حیاة الیهود المتدینین، ما دفع الحاخامات إلى السعی باتجاه خلق نوع من التماهی ما بین شخصیاتهم وفتاواهم وبین النص التوراتی والشرح التلمودی. وقد تناول هذا الموضوع، وبکثیر من التفصیل، الدکتور إسرائیل شاحاک ونورتن مینرفینسکی فی کتابهما الممیز الذی صدر قبل نحو خمس سنوات “التطرف الیهودی فی “إسرائیل””، حیث یشیر المؤلفان إلى أن “المناصرین للأصولیة الیهودیة فی “إسرائیل”، یقاومون العدالة الاجتماعیة والمساواة التی هی من حق جمیع المواطنین، خاصة هؤلاء (غیر الیهود) ویشیران إلى الدراسة التی قام بها عالم الاجتماع الیهودی یورش کیمرلینغ والتی قال فی نتیجتها: “إن قیم الدین الیهودی، على الأقل فی جانبه الأرثوذکسی والقومی، الذی ینتشر فی “إسرائیل” راهنا، لا یمکن أن تتماشى أو تنسجم مع قیم الدیمقراطیة، ولا توجد أی متغیرات، لا القومیة ولا القیم الاجتماعیة أو الاقتصادیة ولا التعلیمیة، یمکنها أن تؤثر فی السلوک الذی یتبناه الیهود “الإسرائیلیون” ضد الدیمقراطیة، خاصة هؤلاء الیهود مفرطی التدین”.

وبعد أن یظهر المؤلفان قلقهما المتزاید حیال هذا المیل الذی یظهر ازدراء المتطرفین الیهود لکل من هو غیر یهودی، یسجلان ما قاله الحبر الأکبر کوک “إن الفرق بین روح الیهودی وروح غیر الیهودی هو أعظم وأعمق من الفرق بین روح الإنسان وروح الماشیة”. والملفت أن تعالیم هذا الحبر تتبع بإخلاص وورع من قبل الذین قادوا، وما زالوا، حرکة الاستیطان فی الضفة الغربیة مستندین إلى “لیوریانک کابالا” أو مدرسة التصوف الدینی التی سیطرت على الیهودیة فی أواخر القرن السادس عشر وحتى بدایات القرن التاسع عشر. وکما کتب المؤلفان فإن “واحدة من المعتقدات الرئیسیة فی مدرسة التصوف هی مرکب الاستعلاء التام للروح والجسم الیهودیة، فوق الروح والجسم غیر الیهودی، حیث إن الکون خلق من أجل الیهود، وکان الیهود فی البدء، ثم جاء خلق غیر الیهود بعد ذلک کأمر ثانوی”.

هذا النمط من الرؤى العنصریة المبتذلة وتجلیاتها على أرض الواقع أفسح فی المجال أمام فیض من الفتاوى المتطرفة والغیبیة، والتی یثیر العدید منها الاشمئزاز والاستهزاء، ناهیک عن ظهور بعض ما یمکن تسمیته ب “فتاوى السوق” التی تتناسب ومصالح بعض السیاسیین والتجار وأصحاب المصانع وسواهم، فعلى سبیل المثال، أصدر الحاخام الأول فی “إسرائیل” مائیر لاو، قبل عدة سنوات، فتوى حرم خلالها التدخین، ودعا العاملین فی مصانع التبغ إلى ترک العمل فی تلک المصانع لأنها “ملعونة”، مدعیاً أن التدخین عمل شیطانی یصرف المرء عن اتباع تعالیم الله، وینفق فیه نقوده بلا فائدة، ویبعد الملائکة “التی تکره النار وکل من یتسبب فی إشعاله” عنه تماما. وقد کان لهذه الفتوى تأثیرها الکبیر حیث انخفضت مبیعات السجائر بنحو 35%، ما دفع أصحاب المصانع ومستوردی السجائر إلى الشکوى للرئیس الأسبق عیزرا وایزمن الذی اجتمع بالحاخام لاو وأقنعه بإصدار فتوى مضادة جاء فیها: إن “الحرام هو تدخین السجائر الأجنبیة فقط، ویجوز للیهود تدخین السجائر المحلیة لأن فیها منافع اقتصادیة عدیدة للیهود”. وقد کافأ أصحاب المصانع الحاخام “المتفهم” بإهدائه کتاباً توراتیاً کبیراً محفوظاً فی علبة من الذهب الخالص!!

وعلى النمط ذاته، یواصل الحاخامات والقوى السیاسیة الحریدیة الیوم فرض رؤاهم “السوقیة” على الجمهور الیهودی تحت ذریعة الامتثال لأوامر الشریعة، فعشیة عید الفصح الیهودی أصدرت “محکمة الشؤون المحلیة” فی القدس قراراً یتیح بیع “المأکولات الحامضة” فی مختلف المطاعم والبقالیات خلال العید شرط ألا تکون معروضة فی مکان علنی وإنما فی متجر مغلق، وهو ما یرى المتشددون أنه یتناقض وفتاوى الحاخامات، ما دفع إیلی یشای زعیم حرکة “شاس” إلى تقدیم اقتراح قانون فی الکنیست یحظر بصورة واضحة “ای بیع للخبز الحامض فی العید”. ذلک أنه یرى أن هذه هی الوسیلة لتقریب شعب “إسرائیل” من الیهودیة، فیما یعتبرها العلمانیون محاولة لإجبارهم على نمط عیش لا یؤمنون به، أو لم یکتب فی التوراة. والملفت أن هذه القضیة انفجرت بالضبط فی الیوم الذی طرحت فیه قضیة “مقاطعة” لجنة الحاخامات للحفاظ على قدسیة السبت “على مجموعة دور ألون التی یسیطر علیها دودی فایسمان. الحاخامات حظروا شراء الناس من شبکات التسویق التابعة له لأنها تعمل فی أیام السبت. وقد تجاهل هؤلاء أن هناک رجال اعمال یملکون متاجر تعمل فی أیام السبت، ومع ذلک لم تفرض المقاطعة علیهم ومن بینهم لیف لافییف وتصادیک بینو صاحب السیطرة فی بنک “بن لئومی” وبنک “عمال أغودات یسرائیل” الناشط جداً فی الاعیاد الاصولیة.

ولعل من أطرف أنواع الفتاوى التی یقدمها الحاخامات لمستهلکی التطرف والعنصریة، هو تلک المطالبة التی قدموها إلى الحکومة بتغییر حرکة الطیران “الإسرائیلیة” والعالمیة فوق القبور الیهودیة. وقد أطلق هذه الفتوى الحاخام یوسف إیتسیک الذی علل إصدارها بضرورة عدم إزعاج الملائکة التی تعیش وتحوم فوق قبور الیهود لتحرسها وتطرد الکائنات الشیطانیة الشریرة التی تسیء للیهود فی نومهم الهانئ!!

ویبدو من المهم، فی غمرة الحدیث عن ارتفاع منسوب القوة الأصولیة الحریدیة وتدخلها المباشر فی فرض القوانین المختلفة، ومحاولاتها الدؤوبة لفرض نمط اجتماعی وثقافی محدد خاضع لشطحات ومصالح الحاخامات والقوى السیاسیة التی تحتکر النطق باسم الشریعة الیهودیة، التوقف أمام المؤسسات التعلیمیة الدینیة التی فرضتها القوى الحریدیة، بتمویل من الدولة، إلى جانب إنشاء جهاز کامل من الحاخامات والقضاء الدینی، حیث تم تشکیل هیئة متخصصة للتعلیم الدینی (الیشیفوت) ورعایته، وتنقسم إلى قسمین: الأول توراتی أرثوذکسی ویشتمل على تعلیم قصص التوراة والشرائع الدینیة وتمجید الیهودیة، أما القسم الثانی فیرکّز على تعلیم الأطفال مناهج الشخصیة الیهودیة، ودورها فی غرس العدوان والتسلط واحتقار الغیر، وخاصة المسلمین أو “الیهود العلمانیین”، لا بل والتحریض على قتلهم.

ویرى جون لافین، أحد أهم المحللین السیاسیین فی کتابه “العقلیة الإسرائیلیة”، أن أهم نصر حققه المتشددون الدینیون الیهود هو افتتاح أکثر من مدرسة دینیة متطرفة، وهی المدارس التی یصفها لافین ب “قنابل موقوتة” من شأنها أن تنفجر فی أیة لحظة، لا سیما وأن المسؤولین عن هذه المدارس یبیحون للطلاب استخدام الأسلحة ضد “الأغیار والعلمانیین”. ومن أشهر تلک المدارس “میشیفان هشارون” الواقعة فی القدس، والتی تضم أکثر من ألف طالب، وجمیعهم یتبعون تقالید صارمة ویرتدون ملابس المتشددین الیهود، ویغطون رؤوسهم بالقبعات الدینیة (کیبا). وکانت هذه المدرسة قد أعلنت مراراً حثّ أعضائها على حمل السلاح، وممارسة “حرب منظمة” على عدوین رئیسیین: الأول، العلمانیون الذین لا یواظبون على الصلاة فی المعابد لإجبارهم على الالتحاق برکب المتشددین وطرق حیاتهم، حتى لو اضطر الأمر إلى تحویل حیاتهم إلى جحیم، والثانی، العرب والمسلمون الذین یباح قتلهم استناداً إلى عدد من “القطع التوراتیة” فی سفر “نشید الأناشید” و”الخروج”، والتی تطالب بقتل کل من لا یتبع الدیانة الیهودیة، ویؤمن بها، ویعیش على “أرض إسرائیل”.

وإلى جانب تلک المدرسة، ثمة العدید من المدارس الأخرى مثل مدرسة “کیبا” التی أنشأتها جماعة حریدیة متشددة ما زالت تعیش فی غیتو القرون الوسطى، وتتحدث بلغة “الییدش”، وهی عبارة عن خلیط من العبریة  والألمانیة، وکان یتحدث بها الیهود الذین عاشوا فی شرق أوروبا.

فی ظل هذه الصورة التی تصفها البریطانیة جاکلین روز فی کتابها الجدید “صهیونیة بلا راحة”، بأنها “إحدى صور اللاعقلانیة الجماعیة” بعد أن أخذت “الصلاحیة التی منحت للصهیونیة من السماء، کما یدعى، تحولها إلى هذیان فتاک من حیث قوته”، یصبح من المنطقی أن یتم الاحتفاء بأی تقارب بین الحریدیین والعلمانیین، حتى ولو کان ذلک فی أمور تفصیلیة صغیرة لا تطاول القضایا الکبرى التی یأتلف حولها الشعب أو الأمة التی تمتلک الحد الأدنى من القواسم الوطنیة أو القومیة المشترکة. فعلى سبیل المثال، هللت افتتاحیة صحیفة “هآرتس” العبریة یوم 13/4 الماضی للمبادرة التی صادق علیها الکنیست بالقراءة العاجلة لإقامة تیار رسمی متداخل فی التعلیم، حیث یتعلم معاً متدینون وعلمانیون. ورأت أن هذا “التیار المختلط” یمکنه أن یکون الرد على سلسلة من المشاکل العسیرة الأخرى للتعلیم الرسمی والرسمی  الدینی، لا سیما وأن نخبة ما تسمیه “الجمهور الدینی  الوطنی” فرت منذ زمن بعید من التعلیم الرسمی  الیهودی إلى المدارس الخاصة، والکثیر من أبناء الجمهور التقلیدی، ممن تعلموا فی الماضی فی الرسمی أو فی الرسمی  الیهودی، یرسلون الیوم إلى مدارس أحزاب “أغودات یسرائیل” و”شاس” ویتلقون هناک تعلیماً أصولیاً ولا صهیونی. أما أحد الاسئلة الکبرى التی ستقرر مستقبل “التیار المختلط”، حسب “هآرتس”، فهو: هل أن هذا الجمهور المسمى “دینی  وطنی” سیستجیب للتحدی ویرسل أبناءه للقاء الأطفال العلمانیین؟ لا سیما وأنه فی بدایة عهد الدولة کان الأصولیون یعیشون على نحو مختلط مع السکان فی المدن الکبرى، فی القدس، تل أبیب وحیفا. أما الیوم، فباستثناء الأحیاء فی المراکز القدیمة من تل أبیب وحیفا، فإن العلمانیین والأصولیین غیر قادرین على السکن فی حی واحد، والاقتراب بینهما یولد بشکل عام صراعات عنیفة. والنتیجة هی أن اطفال الیوم لا یعرفون إلا امثالهم فقط. من الصعب الاستخفاف بمساهمة هذا الوضع فی الاغتراب، الابتعاد والجهل فی المجتمع “الإسرائیلی”، کما ترى افتتاحیة “هآرتس”.

قد یکون من السابق لأوانه فحص دقة التفاؤل الذی تأمله “هآرتس” وسواها من وسائل الإعلام والتعبیر التی تحاول الإیحاء بأن الحرب الثقافیة المستعرة بین قبائل “إسرائیل” “الحریدیة” وعشائرها “العلمانیة”، مسألة طبیعیة فی “بلد دیمقراطی” و”دولة راسخة”، ما یضمن قواعد اللعب المتبع، ویؤمن عدم سیطرة اعتبارات قطاعیة أو دوافع عرقیة أو دینیة، غیر أن ما یدب على الأرض فعلاً یؤشر بقوة إلى أن ما یسمى “المجتمع الإسرائیلی” لیس أکثر من نتف بشریة متباینة إثنیاً وثقافیاً ومتخمة بالتناقضات الإیدیولوجیة والمعضلات الداخلیة، ولا یجمعها فی إطار “إسرائیل الوظیفیة” سوى العداء للفلسطینیین والعرب. ولیس بلا معنى أنه فی الوقت الذی تستعد فیه “إسرائیل” للاحتفال بالذکرى الستین لقیامها على أنقاض الشعب الفلسطینی، تعید الأسئلة الوجودیة التی رافقتها طوال العقود الستة الماضیة طرح نفسها، ولکن بشکل أکثر حدة، فالنظام السیاسی “الإسرائیلی” المتخم بالفساد، عاجز عن فرض قوانینه على المخلوق الذی أنشأه بنفسه، أی على القوى الدینیة المتطرفة، وفی القلب منها المستوطنون الذین یستبیحون مجمل أراضی القدس والضفة الغربیة، مستندین إلى دعم قوی من أوساط الحکومة وأحزابها، ولا سیما حرکة “شاس” التی تربط بقاءها فی الائتلاف الحکومی بعدم المس بالاستیطان. أما المؤسسة العسکریة والجیش الذی اعتبر بمثابة “عمود الخیمة” لدولة “إسرائیل” ومؤسساتها المختلفة، فقد أصیبا بنکسة کبیرة بعد أن تآکلت قدرة الجیش الردعیة خلال حرب تموز/ یولیو ،2006 وبات بحاجة إلى إعادة تأهیل على المستویات کافة، بما فی ذلک إعادة إنتاج معنویات عالیة، أو حتى مقبولة، تستند إلى أحدث أنواع الأسلحة والتجهیزات.

 یمکن قول الکثیر من الکلام حول واقع “إسرائیل” ومعضلاتها التی طفت على السطح بقوة عشیة الذکرى الستین لإنشائها، کما یمکن الإضاءة على بؤر عدیدة من مواقع الخلل البنیوی غیر القابلة للإصلاح، ولکن ربما ینبغی الاکتفاء بما طرحه جیفری غولدبرغ فی المجلة الأمریکیة القدیمة والقیمة “أتلانتیک” فی عددها الصادر فی أیار/ مایو 2008 الذی یحتفی بالذکرى الستین لتأسیس الدولة العبریة. وقد کرست المقالة الرئیسة الطویلة بکاملها لفحص قدرة “إسرائیل” على البقاء فی محیط معاد لها، وفیها یبدی غولدبرغ، الذی خدم فی صفوف القوات “الإسرائیلیة”، خشیته على مصیر ما یسمیه “الشعب الیهودی”، لا سیما وأن  یهود أمریکا، وخصوصاً الجیل الشاب، لا یدرکون بما فیه الکفایة المصاعب المستقبلیة التی تواجهها “إسرائیل”، بعد أن بات هذا الجیل یندمج بشکل کامل فی الحیاة الأمریکیة، ویفکر فی قرارة نفسه: “ما الحاجة إلى دولة “إسرائیل”؟ وتتبدى فکرة الدولة الیهودیة فی نظره کفکرة أکل الدهر علیها وشرب”.

ویتساءل غولدبرغ: “هل أن حشد کل هذا العدد الکبیر من الیهود فی قطعة أرض صغیرة یعانون من “رهاب الاحتجاز” فی المواضع المقفلة داخل المنطقة الأشد افتقاراً للاستقرار فی العالم یزعزع عملیاً قدرة “الشعب الیهودی” على البقاء؟”. أما الموضوع الذی قاد غولدبرغ للبحث فی قدرة “إسرائیل” على البقاء فقد کان “حرب لبنان الثانیة”. وهو یرى فی هذا الصدد أن ““إسرائیل” دمرت فی الماضی أعداء أکبر، سلاح الجو السوری، الجیش المصری والجامعة العربیة، ولذلک افترض الناس أن “إسرائیل” ستنجز “العمل بسرعة” مع حزب الله، وهو تنظیم یضم بضعة آلاف من المقاتلین و12 ألف صاروخ. ولکن خلال أیام من بدء الهجوم، بدا أن مهمة أولمرت معرضة للخطر”. کما یشیر غولدبرغ، فی مقالته، إلى مشکلة التوازن الدیموغرافی کمشکلة وجودیة “تساوی تقریباً الخطر الذی یمثله على “إسرائیل” المشروع النووی الإیرانی”.

ومع أن أصواتاً عدیدة فی “إسرائیل” تنطحت للرد على تساؤلات غولدبرغ، واعتبارها قدیمة أثبتت السنوات والعقود عدم مشروعیتها، إلا أن واقع الحال یؤشر بما لا یدع مجالاً للشک بأن حرب لبنان الثانیة والصراع القائم مع الفلسطینیین، عادا لیطرحا السؤال التقلیدی: هل أن “إسرائیل” هی الملاذ الآمن للیهود الذین تلمسوا حقیقة  أن الجیش “الإسرائیلی” عجز فی “حرب لبنان الثانیة” عن إلحاق الهزیمة بعدة آلاف من مقاتلی حزب الله فی الجنوب اللبنانی؟!

م/ن/25

 

 

 

 

 

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 142866







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)