qodsna.ir qodsna.ir

الأسد .. حین ضحک على بوش وأولمرت

التطورات المتسارعة على المسار السوری الإسرائیلی فی الأیام الأخیرة لم تکن بأی حال من الأحوال تعبیرا عن السلام بقدر ما کانت مناورة سیاسیة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ، فالعودة للتلویح بالانسحاب من الجولان  ما هو إلا طعم حاول بوش وأولمرت استدراج الرئیس السوری بشار الأسد إلیه على أمل التغطیة على مغامراتهما العسکریة الجدیدة من ناحیة والإیقاع بین دمشق وأقرب حلفائها إیران وحزب الله وحرکات المقاومة الفلسطینیة من ناحیة أخرى، إلا أن المفاجأة أن الأسد کان من الذکاء بمکان لدرجة أنه لم یفشل هذا المخطط الشیطانی فقط وإنما خرج أیضا منتصرا ومتوجا بلقب " رجل السلام ".

صحیح أن هناک شکوکا لدى البعض بأن هناک محادثات سریة تجری بین دمشق وتل أبیب بشأن الجولان السوری المحتل ، إلا أن الحقیقة التی باتت مؤکدة لدى صانع القرار السوری هى أنه لاأمل فی تحقیق أی سلام فی ظل إدارة بوش وبالتالی فإنه لاجدوى من المحادثات مع إسرائیل سواء کانت سریة أو علنیة ، فواشنطن لاتوجد لدیها رغبة حقیقیة فی إحلال السلام بالشرق الأوسط بالنظر إلى أن هذه الورقة مازالت حسب اعتقادها هى السیف الذی تسلطه على رقبة العرب من آن لآخر لابتزازهم فی هذا الموضوع أو ذاک ، بالإضافة إلى أن عقیدة المحافظین الجدد فی البیت الأبیض تستند لاسترتیجیة الحروب الوقائیة والاستباقیة ولیس للمفاوضات لتحقیق أهدافها الامبریالیة.

ولعل التهدیدات والتحرکات العسکریة التی طفت على السطح فی الأسابیع الأخیرة تعکس الحقیقة السابقة ، فبعد التقاریر التی خرجت من داخل الولایات المتحدة حول شن حرب ضد إیران قبل انتهاء ولایة بوش وقیام البنتاجون بإرسال المدمرة کول بالقرب من السواحل اللبنانیة ، أجرت إسرائیل فی الأسبوع الأول من إبریل مناورات عسکریة اعتبرت الأکبر من نوعها ، کما ظهرت فی 22 إبریل اتهامات أمریکیة لسوریا حول إقامتها برنامجا نوویا سریا بالتعاون مع کوریا الشمالیة وهى مزاعم شبیهة بتلک التی روجتها إدارة بوش قبل غزو العراق .

وبالنظر إلى ما قد ینتج عن تلک التحرکات من إجراءات مضادة فی محور "المتشددین" ، سارعت واشنطن وإسرائیل للتغطیة على الأهداف الخفیة للتحرکات المشبوهة السابقة عبر التلویح بالسلام مجددا ، حیث کشف رئیس الوزراء الإسرائیلی إیهود أولمرت لصحیفة "یدیعوت أحرونوت الإسرائیلیة" فی 18 إبریل عن وجود شکل من الاتصالات بین کل من دمشق وتل أبیب وعن تبادل للرسائل لمعرفة إمکانیة توقیع اتفاقیة سلام مستقبلیة بین البلدین ، قائلا :"نعلم ما نرید منهم، وأعلم بالکامل ما یریدونه منا" ، وردا على سؤال عن الانسحاب من الجولان ، قال إنه یعمل على القیام بتحرک مهم من أجل السلام مع سوریا ،

التصریحات المریبة السابقة ، تعاملت معها القیادة السیاسیة فی سوریا بحذر بالغ وبذکاء منقطع النظیر ، فهى أدرکت سریعا أن التلویح بالسلام یعتبر بمثابة فخ أرادت إسرائیل ومعها أمریکا نصبه لسوریا فإن رضخت وقبلت بالتنازلات المطلوبة منها فإن هذا یخدم مخطط أمریکا وإسرائیل لضرب إیران عبر تحیید دمشق وبالتالی حلیفها فی لبنان حزب الله أو على الأقل إحداث وقیعة بین دمشق وحلفائها ، وإن رفضت تکون بذلک أمام العالم غیر راغبة بالسلام وما یجلبه هذا علیها من زیادة عزلتها الدولیة من ناحیة وتبریر أی عمل عسکری قد تقدم علیه إسرائیل سواء کان ضدها أوضد حزب الله وإیران من ناحیة أخرى.

ولذا سارع الأسد إلى تأکید رغبته هو الآخر بالسلام وعلى طریقته أیضا ، حیث کشف خلال تصریحات أدلى بها لصحیفة "الوطن" القطریة فی 24 إبریل عن تلقیه عرضاً للسلام مع إسرائیل عبر رئیس الوزراء الترکی رجب طیب أردوغان یقضی بانسحاب القوات الإسرائیلیة من مرتفعات الجولان، مقابل توقیع اتفاق سلام بین کل من دمشق وتل أبیب ، قائلا :" الوساطات بین دمشق وتل أبیب تکثفت بشکل أساسی بعد العدوان على لبنان فی صیف 2006، وبعد انتصار المقاومة، ولکن دخول ترکیا على الخط منذ العام الماضی، وبالتحدید فی شهر إبریل 2007، أثمر تفاصیل إیجابیة جدیدة".

وفی تصریحات هادئة ، وضع الأسد شروطا لاستئناف المفاوضات معروف سلفا أن إسرائیل سترفضها وبالتالی یضمن عدم إثارة غضب حلفائه ، ومنها نفی وجود أیة مفاوضات سریة مع إسرائیل وتأکید أن المفاوضات ستکون معلنة إن حصلت ولن تکون مباشرة بل عبر وساطة ترکیة ، أی أنه رمى الکرة فی ملعب إسرائیل التی ترفض بشدة تدخل أی طرف إسلامی بفعالیة فی المفاوضات بینها وبین العرب ، بجانب أن الوساطة الترکیة فی الماضی لم تسفر عن تحقیق أی اختراق یذکر فی هذا الشأن.

 

تلک السیاسة الحکیمة جاء مردودها الإیجابی سریعا وبطریقة شکلت صفعة على وجه بوش وأولمرت ، فقد خرج الرئیس الأمریکی الأسبق جیمی کارتر بعد لقائه مع الأسد بدمشق فی 18 إبریل وهو مقتنع بأن الرئیس السوری حریص جدا على إحلال السلام وأن واشنطن وتل أبیب هما من یعرقلان تحقیق مثل هذا الأمر ، حیث کشفت صحیفة هآرتس الإسرئیلیة أن ما نقله کارتر ومرافقوه للإسرائیلیین من انطباعات ومعلومات عن الأسد یختلف عما هو رائج عنه فی الغرب، فالأسد جدی ومدرک للأمور ومطلع على تفاصیل المفاوضات التی أجراها والده مع رؤساء الحکومات الإسرائیلیة السابقین ، مشیرة إلى أن کارتر اقتنع بأن إسرائیل هى من ترفض السلام ، بینما ظهر الأسد أمام کارتر والعالم فی صورة رجل معتدل محب للسلام وفی الوقت ذاته لم یتنازل عن أی من ثوابته.

وفی السیاق ذاته، علق فولکر بیرتیس، مدیر مؤسسة العلوم والسیاسة فی برلین ، على التطورات السابقة ، قائلا :" إنه لا بدیل عن الحوار الأوروبی مع دمشق فمن شأن قیام سلام راسخ أن یتوافق مع مصالحنا ومع مصالح أصدقائنا فی المنطقة، وبطبیعة الحال مع قیمنا أیضًا . تحقیق السلام فی الشرق الأوسط یعنی ضمان المصالح المشروعة لکل الأطراف المعنیة فی نهایة الأمر، ما یعنی استعادة منطقة الجولان المحتلة منذ عام 1967

. لا یمکن تحقیق اتفاق سلامٍ شاملٍ بین إسرائیل وجیرانها منفردین لأنه لا یمکن الاستغناء عن سوریا بسبب قدرتها الکبیرة على تشویش وإعاقة أیة عملیة سلمیة لاتشملها".

وفی دحض لادعاءات إسرائیل وأمریکا حول دعمه للإرهاب ، وصف بیرتیس الرئیس السوری بأنه یبدو کرجل سلام وعزا هذا إلى أنه یضع التحدیث الاقتصادی على رأس سلم أولویاته الأمر الذی یدفعه إلى الإهتمام بإنهاء الصراع مع إسرائیل ، بجانب الفوائد التی ستجنیها سوریا فی حال إحلال السلام ، قائلا :" من شأن استقرار أوضاع المنطقة أن یستقطب مزیداً من المستثمرین، وأن یسهل اندماج سوریا فی الاقتصاد العالمی ،  علاوة على ذلک من شأن السلام بین سوریا وإسرائیل أن یجعل من دمشق شریکًا مقبولاً لدى الغرب وأن یوفق بین السیاسة السوریة وبین المملکة العربیة السعودیة ومصر. لکن وبالدرجة الأولى، من شأن السلام أن یعید مناطق الجولان المحتلة إلى سوریا، الأمر الذی سیعزز بدوره شعبیة الرئیس السوری على الصعید الداخلی وبالإضافة إلى ذلک هناک جانب شخصی جدًا، لکنه یتضمن بعدا سیاسیا هاما، حیث سیکون بإمکان بشار الأسد أن یستعید سلمیاً ما فقده والده حافظ الأسد خلال الحرب فی عام 1967 " ، وبالنظر لکل الفوائد السابقة التی ستعود على سوریا ، شکک بیرتیس فی نوایا إسرائیل بشأن السلام . 

واتساقا مع ما ذکره فولکر بیرتیس ، أکد الون لیئیل المدیر السابق لوزارة الخارجیة الإسرائیلیة ورئیس جمعیة السلام بین سوریا وإسرائیل أنه طالما دعا الرئیس بشار الأسد إسرائیل إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات ومناقشة السلام والشعب السوری یدعم رئیسه فی سعیه للسلام ولکن للأسف لم تجب الادارة الأمریکیة ولا الحکومة الإسرائیلیة على نداءات الأسد للسلام.

واستطرد یقول :" خلال محادثات السلام بین إسرائیل وسوریا فی التسعینات، برزت مواضیع السیادة السوریة على مرتفعات الجولان، والسیادة الاسرائیلیة على الموارد المائیة فی المنطقة، کمشکلات رئیسیة أعاقت تقدم المفاوضات، إلا أن مفاوضات غیر رسمیة فی سویسرا بین عامی 2004 و2006 خلصت إلى حلول جذریة ستمکن سوریا من بسط کامل سیادتها على مرتفعات الجولان باستثناء جزء صغیر یخضع لسلطة دولیة وبهذه الطریقة، ستکون سوریا قد حظیت بمطلبها فیما یتعلق ببسط سیادتها على الجولان، وستحظى إسرائیل بمطلبها فیما یتعلق بسیادتها على منابع المیاه، وستضمن سوریا عدم التدخل بمجرى المیاه الذی یصب فی بحر الجلیل (بحیرة طبریا) ، إلا أنه وللأسف الولایات المتحدة عرقلت تطبیق هذا الاتفاق . فمن الواضح أنها تقول لإسرائیل أن زمن السلام مع سوریا لم یحن بعد وهکذا، فإن إسرائیل تعرض حیاة ومستقبل مواطنیها للخطر ".

وأضاف لیئیل :" منذ الیوم الأول لإنشاء إسرائیل، قالت القیادة الإسرائیلیة إنها مستعدة لمناقشة السلام مع أی بلد عربی فی أی مکان. والآن، هناک رئیس عربی یطالب بالسلام (بشار الأسد)، لکن إسرائیل تجابهه بالرفض. الغارة الإسرائیلیة فی السادس من سبتبمر الماضی على موقع شمال شرقی سوریا کانت حدثا مؤسفا. والمؤسف أکثر کان صمت الرأی العام العالمی بالإجمال والعالم العربی بالأخص. فالأحرى کان أن یقوم المجتمع الدولی والعالم العربی بإدانة إسرائیل على الغارة، والإشادة بالقیادة السوریة لقدرتها على ضبط نفسها وعدم الرد على الهجوم. وبالنسبة للسوریین، فإن عدم ردهم على الغارة هو دلیل کاف على رغبتهم بالسلام".

وبالإضافة إلى ما سبق ، خرجت من داخل إسرائیل ذاتها تصریحات تؤکد صحة الآراء السابقة وتفضح نوایا إسرائیل أمام العالم ، حیث نقلت صحیفة "معاریف" عن الرئیس الإسرائیلی شیمون بیریز قوله فی 26 إبریل إنه یعارض إبرام أی اتفاقیة سلام مع سوریا تقوم على إعادة الجولان السوری المحتل ،  قائلا :" إن الأسد یفضل لبنان والعلاقات مع حزب الله وإیران على الجولان ، وإذا لم یقطع السوریون صلاتهم بإیران ، من المحظور إعادة الجولان لهم . الانسحاب من الجولان یعنی تسلیمها للإیرانیین" ، کما أظهر استطلاع للرأی أجرته صحیفة "یدیعوت أحرونوت" أن أکثر من ثلثی الإسرائیلیین یعارضون الانسحاب من الجولان مقابل اتفاقیة سلام مع سوریا ، وقال 68 بالمئة ممن جرى استطلاع آرائهم إنهم یرفضون إعادة الجولان للسوریین ، بینما عبر 32 بالمائة عن موافقتهم على ذلک .

وعلى ضوء هذا ، تأکد الجمیع أن إسرائیل لیس فی نیتها البتة التخلی عن هضبة الجولان المحتلة ، فهذه الهضبة لها تاریخ فی الأیدیولوجیا الصهیونیة، وتتمتـع بموقع استراتیجی عسکری بالغ الأهمیة، ثم إنها تزود الدولة العبریة بربع احتیاجاتها من المیاه العذبة.

ولاننسى أیضا أن التغیرات الإقلیمیة عقدت المشهد السیاسی فی المنطقة وأصبحت الملفات متداخلة وارتبطت العملیة السلمیة بین سوریا وإسرائیل بالظرف الإقلیمی الموسوم بالصراع بین الولایات المتحدة وإیران ، فقبل سنوات کانت الشروط الإسرائیلیة من سوریا مرتبطة بقضیة الجولان وحدها ، لکن بعد ذلک اتسعت المطالب الإسرائیلیة الأمریکیة لتشمل المستوى الإقلیمی ، وبات المطلوب من سوریا وقف دعمها للمقاومة فی فلسطین ولبنان، وإعادة النظر فی علاقتها مع إیران، ناهیک عما هو مطلوب منها فی العراق، وکذلک الأمر بالنسبة لسوریا فوقف الضغط الغربی وفک العزلة الدولیة عنها والاتفاق على عدد من القضایا بما فیها المحکمة الدولیة المخصصة للتحقیق فی اغتیال رئیس الوزراء اللبنانی الأسبق رفیق الحریری، تعتبر جزءا من السلام مع إسرائیل.

إذن هناک حزمة کاملة من المطالب من کلا الجانبین تجعل تحقیق السلام أمرا بعید المنال على الأقل فی الأمد المنظور، وفی حال کهذا فإن أی تحریک للمسار السلمی مع إسرائیل سیترتب علیه التزامات فی فلسطین ولبنان والعراق ما یعنی موت السیاسة السوریة فی المنطقة ، ولذا لجأ الأسد للأسلوب ذاته الذی طالما لجأ إلیه بوش وأولمرت وهو أسلوب المراوغة ، فهو مع استئناف عملیة السلام ولکن دون تقدیم أیة تنازلات أو المساومة على علاقاته مع حلفائه ، خاصة بعد أن تعززت قناعته بأهمیة تلک العلاقات بفعل تراجع المشروع الأمریکی فی المنطقة، والهزیمة التی منیت بها إسرائیل فی لبنان العام الماضی، وتقریر بیکر هاملتون الذی أوصى بالحوار مع دمشق، وما أعقبه من زیارات للمسئولیین الأمریکیین والأوروبیین لها.

ویمکن القول إن الرسالة کانت واضحة خلال محادثات الأسد مع أردوجان وکارتر وهى أن سوریا لن تضحی بالأوراق القویة التی تملکها مقابل وعود بسلام زائف فالعلاقات بین سوریا وإیران والمقاومة تأتی على رأس الأولویات وإعادة التفکیر فیها یجب أن تکون من نتائج السلام مع إسرائیل ولیس مقدمة له ، وهنا ضرب الرئیس السوری عصفورین بحجر واحد فهو ظهر کرجل سلام من ناحیة ورمی الکرة فی ملعب بوش وأولمرت من ناحیة أخرى.

( المقال لجهان مصطفى  من موقع محیط )

م/ن/25


| رمز الموضوع: 142862