العودة إلی حق الحل النهائی مع إسرائیل شعار سیاسی ام استراتیجیة مشروعة إنسانیاً؟
اعتادت السیاسة العربیة منذ أوسلو علی إلغاء قاموس کامل من مفردات النهضة فی مرحلتها النضالیة ضد الغرب إبان النصف الثانی من القرن العشرین.
کان ذلک القاموس یدور فی محوره الأساسی حول الخلاص من إسرائیل بحیث أن مختلف المعارک الأخری التی غصَّت بها أحداث النهضة خلال تلک المرحلة، کانت تعتبر فروعاً لذلک المحور وتطبیقات کلیانیة فی حقولٍ متعددة تفترضها معرکة الحسم التاریخی المسیطرة علی المخیال العربی، مع الصهیونیة المستولیة علی فلسطین والغازیة المعیقة لمستقبل النهضة العربیة وجودیاً أنطولوجیاً، ولیس سیاسیاً تنمویاً فحسب. قاموس هذا الصراع الکلی تساقطت مفاهیمه تدریجیاً مع خیبات الوقائع العسکریة الفاشلة التی انتهت إلی تحیید النظام العربی الحاکم ککل واقعیاً. لم تخرجه بإرادته غالباً، وبدونها أحیاناً، من صف القوی المناهضة للمشروع الصهیونی فحسب، بل دفعت ببعض أرکانه الرئیسة إلی القیام بتلک النقلة النوعیة المضادة لأولویات البداهة المصیریة لمعنی غریزة البقاء لدی (الأمة) المغلوبة علی أمرها. إنها النقلة نحو صف الغزاة أنفسهم، والاشتغال لدیهم لا کحلفاء وأعوان للعدو، بل کذلک کأجهزة قمع وحراسة لما وراء خطوط الصراع ضده، لا یسمح لها حتی أن ترقی إلی درجة الحلیف المعترف به من قبل الغازی الأصلی.
الانکسارات العسکریة المتتالیة أجهزت علی مرحلة کاملة من معایشة الجمهور الکبیر لأحلام الثأر، والتحشید الانفعالی وراء مخططات الهجوم المضادة، أو وعود الثأر والانتقام ضداً علی هزیمة الاغتصاب الأولی للوطن الفلسطینی، وتداعیاتها الجماهیریة المکبوتة لدی القطاع الأشمل للأمة کلها ما فوق حدودها القطریة. لم تشک هذه الجماهیر بإمکانیة الرد الساحق حتی ما بین هزیمة عسکریة وأخری. ثمة اعتقاد جذری عاشت علیه القضیة الفلسطینیة عربیاً، ولیس لدی أبنائها فقط، بحتمیَّتین معاً، زوال الاغتصاب وعودة الشعب المطرود إلی مدنه وقراه. قیام إسرائیل لیس حقیقة نهائیة، وهزیمة کل العرب والمسلمین لیست قدراً أبدیاً. لکن أثبتت الحروب الفاشلة أن الأنظمة الحاکمة لیست فی وارد التوافق، لمرة واحدة، علی مخطط استراتیجی شامل لمعرکة الحسم الکلی مع العدو. وتنظیف الأرض العربیة من الطارئین المغتصبین. کان ذلک بمثابة الیأس القاطع من أیة استراتیجیة هجومیة، الذی یفرض الانکفاء إلی مخططات محض دفاعیة. ومع ذلک لم تجتمع کلمة الأنظمة حول أیة سیاسة دفاعٍ مشترک أمکنها أن تخرج من ملفات المؤتمرات والقرارات إلی واقع الجبهات الصامتة، خاصة ما بعد حرب الـ 67. فهل جاءت الثورة الفلسطینیة لتغیر شیئاً رئیسیاً من هزائم (الدول) وتفتح الطریق أمام انتصارات (الشعوب). قبل أن یعطی تاریخ الأحداث المستقبلیة جوابه علی هذا التساؤل فقد رحبت الأنظمة بالثورة کوسیلة تسویغ لانفراط عقد ما کان یسمی بالأمن القومی. صار علی الفلسطینیین وحدهم أن یقلعوا أشواکهم بأظافرهم.
فالثورة الفلسطینیة هی الفریدة من بین ثورات التاریخ المعروفة، التی یعلنها شعب هو علی غیر أرضه ووطنه. شعب من اللاجئین المشردین فی عدد من الأقطار العربیة، وانتشرت له جالیات فی العدید من دول أوروبا وأمریکا. فأمست الثورة هی الوطن المعنوی الجامع للشتات، هی العاملة علی إعادة إنتاج اللحمة شبه العضویة، المنشئة بدورها لکیان إنسانی قادر علی إفراز عوامل تماسکه الثقافی والاجتماعی، تحت طائلة هویة حرکیة جامعة هی الثورة الواعدة بمشروع العودة المظفرة إلی أرض الوطن. فکان علی الشعب الموزع معظمه خارج ذلک الوطن السلیب تحقیق أنبل مهمة تحریریة معترف له بأحقیتها المطلقة فی استرداد بلاده، لدی جمیع الشرائع السماویة والمدنیة. کانت هذه الأحقیة البالغة حدها الأعلی لکل معانی المشروعیة الإنسانیة والأخلاقیة والقانونیة الفریدة فی مظلومیتها وفظاعة عواقبها المستدیمة بین مختلف قضایا التحرر العالمیة، کانت هی القضیة الأشد وضوحاً، والمالکة لکل مسوغاتها فی ثقافة الحق والحقیقة، لیس بالنسبة لشعبها الفلسطینی، وأمتها العربیة الإسلامیة فحسب، بل للمجتمع الدولی عامة الممعن فی تجاهل جریمته التاریخیة الکبری غیر المسبوقة فی تاریخ المظالم الإنسانیة العظمی، مع ذلک القرار الذی اتخذته مؤسسته (الأمم المتحدة) فی استلاب فلسطین وتقسیمها، وإنشاء دولة إسرائیل لشعب غیر موجود أصلاً علی أرضها، وطرد الشعب المالک لکینونته المتحدة بترابه منذ آلاف السنین.
هذه المظلومیة الفریدة کان یمکن أن تتحول إلی نوع من مأتمیة مستدیمة، تبدد حیویة الشعب المفجوع بکارثته الملازمة لأحوال لجوئه وتشرده، تفرض علیه فی النهایة الاستسلام لمصیره. فبعد ضیاع الوطن یحل ضیاع الشعب وإنسانه. کان ذلک هو الوضع المشؤوم الذی خلفته هزائم جیوش الأنظمة عشیة الکارثة الثابتة ذات الاسم العربی الشامل هذه المرة، ولیس الفلسطینی وحده، لعام 67. فما کانت تعنیه انبثاقة الثورة آنذاک هو کونها رداً وجودیاً علی الکارثتین معاً. وقد توصف بأنها ثورة الذاکرة المأتمیة الباحثة عن مستقبلها المختلف، فیما استطاعت أن تبتدعه من انتفاضات شعب الداخل الفلسطینی، التی کرست تقالید المقاومة العربیة الآتیة.
هذه الذاکرة العائدة إلی الحیاة بأشکال جدیدة من الکفاح غیر معهودة فی ثقافة العنف الثوری، حتی العالمی منه، لم تفتک بها قوی أعدائها الطبیعیین، بقدر ما جرت علیها أفعال القرارات الخاطئة، وانقساماتها العضویة، ومآزقها السیاسیة مع محاور الأنظمة الحاکمة، وتورطها فی حروب الساحات الداخلیة، ما جرَّت علیها من هزائم تکوینیة جدیدة نابعة من ذات النفس، جعلتها فی المآل الأخیر تختار طریق التفاوض إیذاناً بانتهائها هی عینها کقضیة وثورة معاً، مع حلول منطق المساومات والصفقات المشبوهة بین من کانوا قادة لمفاهیم وأهداف تحرریة کبری، وصاروا إلی زُمَر من محترفی العلاقات العامة ودبلوماسیة الأبواب المغلقة.
ما یتبقی من (الثورة) هی المقاومة. وکان وطنها الأول هو الداخل الفلسطینی الذی شهد أروع وقائعها البطولیة ذات الصفة الشعبیة المعممة حتی علی أطفالها، وکان لها أثمانها الباهظة کذلک. لکنها لا تزال تمثل الشهادة الحیة الیومیة علی بقاء (القضیة) عند ثوابتها التأسیسیة الأولی. وهی التی شرَّعت من ذاتها نموذجاً یُحتذی ضد کل احتلال إسرائیلی فی لبنان، أو أمریکی فی العراق فیما بعد.
فالثورة العربیة فی عصر الإحتلال والغزو هی المقاومة الوطنیة. وحتی المعارضة السیاسیة فی أقطار الاستبداد والتبعیة للمصالح الأجنبیة لن تؤتی ثمارها إلا إذا تحولت إلی مفاهیم المقاومة ووسائلها. ذلک أن أنظمة الاستبداد کادت أن تجهز علی مرحلة ما کان یُسمی بالمعارضات المدنیة. فالقمع البولیسی والتشویه الفکری والمالی والاستیعاب الإعلامی القومی، کادت عواملها المتعاظمة أن تقضی علی آخر هامش من حریة العمل السیاسی، وحمایة الأمن الشخصی للفرد المعارض. فالسلطة القمعیة العربیة استعادت تحالفها العضوی مع أعلی مؤسسات الإرهاب الدولتیة الأمریکیة والصهیونیة.
وبالتالی لم یعد ثمة من طریق للخلاص الشعبی والاجتماعی إلا المقاومة بکل مفاهیمها ووسائلها أو الانجرار إلی أفخاخ الاقتتالات الأهلیة، المنصوبة والمنظمة بقوة هذه المؤسسات الدولیة وشبکیاتها الإقلیمیة والمحلیة.
ما ینبغی ملاحظته والتأشیر علیه بأکبر خط عریض هو حالة موت السیاسة سواء علی مستوی الدولة أو المجتمع معاً. والسیاسیون الظاهرون المسموح لهم بلعب أدوار عامة طارئة أو عابرة، لا یختارونها بإرادتهم غالباً، ولا تُترک لهم حریة ممارستها کما یشاؤون. وهم صائرون فی أکثریتهم إلی أن یکونوا مجرد أشباح أو أبواق لمراکز قوی أخری قابعة وراء أستار کثیفة. فالأجهزة الاستخباریة هی أحزاب العصر العولمی. وتلقی تطبیقها الأول فی دول العالم الثالث المنهارة. لذلک تبرز المقاومة کخط الدفاع الأخیر عما تبقی من براءة الصیرورة السیاسیة للمجتمع المضطهد.
حین یردُّ زعیم المقاومة اللبنانیة التی حررت وطنها من احتلال اسرائیل لخُمْسِ مساحته عشرین عاماً أو نیف، والتی أحبطت أشرس حرب همجیة صهیونیة تعرَّض لها أیُّ قطرٍ عربی، حین یعلی هذا القائد صوته الداوی، ویعلی معه سقف الهدف الجدید القدیم لأصل کل مقاومة عربیة حقیقیة، معلناً صیغة (الحرب المفتوحة) ضد إسرائیل حتی زوالها، فلن یکون الإعلان هذا شعاریاً، ولا مجرد نداء تعبوی، وحتی أنه لن یکون رداً انتقامیاً علی الغدر بأحد قادة النصر التموزی علی جیش العدوان العبری. إنه الإعلان الأوضح منذ ستین عاماً عن استرداد ثقافة المشروعیة الأعظم فی الحق المؤسس لإنسانیة الإنسان ومدنیته، وهی مشروعیة الحریة ورفض الظلم والقهر والاضطهاد واغتصاب حقوق الشعوب فی الحیاة الحرة الکریمة فی أوطانها المستقلة.
إنه نداء العودة إلی أصول الأشیاء کلها. فالعدوان وحده لا یمکن أن یمنح المشروعیة لما یسمی بالدولة الیهودیة. والمقاومة الفلسطینیة ثم اللبنانیة ثم العراقیة، والتی ستصیر إلی المقاومة العربیة والإسلامیة الشاملة هی التی تمتلک مشروعیتها المطلقة المعبرة عن إطلاقیة وجودها المادی والإنسانی والحضاری. وهی التی لا تستمد أحقیتها من خرافة میتافیزیقیة، ولا من صدفة عالمیة فی التقاء الإجرام الدولتی الشمولی بأسباب التسلط العولمی الإرهابی، وتشکیل سلطة الاستبداد الکلیانی ضداً علی عالمیة الکینونة الإنسانیة وحقیقتها السرمدیة.
من حق المقاومة العربیة الإسلامیة أن تجهر من جدید بأنبل إنکار لـ (حق) الشر المحض فی بناء مؤسساته، مع مصادرة حقوق الآخرین من ضحایاها حتی فی إطلاق صرخة الاعتراض علی حکم الموت، أو الاستسلام لشرعته الباطلة.
فلا شیء یحد من طموح الضحیة فی مقاومة جلادها، وتفویض دولته وسلطانه، واعتماد هذا الحق، والإعلاء من صوته قد لا یغیر الواقع البائس بین لیلة وضحاها، لکنه لن یمنح هذا الواقع شرعیة البقاء إلی الأبد.
( المقال للمفکرالعربی مطاع صفدی )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS