أمیرکا بین التهدئة والاستعداد لمواجهة إیران
أمیرکا بین التهدئة والاستعداد لمواجهة إیران
اتفاق الدوحة والهدنة مع حماس ومفاوضات السلام الإسرائیلیة- السوریة تطورات هامة تتعارض بشکل واضح مع السیاسة الأمیرکیة بالمنطقة القائمة حتى الآن على عزل النظم والجماعات المعارضة لأمیرکا بهدف إسقاطها – وعلى رأسها سوریا وحماس وحزب الله ومن خلفهم إیران – فما مغزى الموقف الأمیرکی الراهن والذی تسامح مع التغیرات الکبیرة السابقة حتى الآن ؟
هل غیرت إدارة الرئیس الأمیرکی جورج دبلیو بوش سیاستها خلال شهورها الستة الأخیرة لها بالحکم فی اتجاه منح الحوار فرصة بعدما فشلت سیاسة الصدام والمواجهة على مدى سنوات؟ أم أن ما یحدث یسیر عکس إرادة الإدارة الأمیرکیة التی باتت تلهث وراء الأحداث على أمل استیعابها؟ أم أن الهدنة الحالیة هی سیاسة أمیرکیة مقصودة استعدادا لمواجهة أکبر قد تکون مع إیران
خرق سیاسة العزل الأمیرکیة
للإجابة على الأسئلة السابقة یجب تذکیر القارئ أولا بأن سیاسة أمیرکا الشرق أوسطیة قامت منذ أوائل عام 2002 وحتى أواخر عام 2006 على أساس من إستراتیجیة "تغییر النظم وإعادة بناء الشرق الأوسط" والتی تبنتها إدارة بوش فی أعقاب أحداث 11-9 وبإیحاء من المحافظین الجدد الذین أمنوا منذ نشأتهم بأن حل قضایا المنطقة المستعصیة - کالصراع العربی-الإسرائیلی - لا یکون بالمفاوضات أو المهادنة، وإنما یتحقق من خلال تغییر النظم العربیة ذاتها وإعادة بناء الشرق الأوسط على شاکلة ترضی أمیرکا وتقبل بإسرائیل وتنشط فی تطبیق التصور الأمیرکی للمنطقة
وقد مثلت حرب العراق نواة المشروع الأمیرکی واختباره الأهم، حیث أراد المحافظون الجدد أن یجعلوا من العراق الجدید الدیمقراطی - فی نظام حکمه - والموالی لأمیرکا والمساند لإسرائیل - فی سیاسته الخارجیة - نقطة انطلاقهم لتغییر بقیة نظم المنطقة وسیاساتها، ولسوء النوایا والتخطیط تحول العراق لأکبر مشاکل أمیرکا فی الشرق الأوسط، بعدما أدت الحرب لصعود نفوذ إیران - بشکل غیر مسبوق – وأزاحت نظام صدام حسین والذی وزان النفوذ الإیرانی لعقود، کما دفعت الحرب إیران للإسراع ببرنامجها النووی، وتحولت تکلفة الحرب لعبئ لا یحتمل عسکریا واقتصادیا، وفشل الغزو فی مکافحة الإرهاب بعدما تحولت حرب العراق لبؤرة للمواجهة بین أمیرکا والجماعات المعارضة لها وأفقدت أمیرکا کثیر من الاحترام والدعم الدولیین .
هذا إضافة إلى صعود الجماعات الإسلامیة عبر العالم العربی بسبب سیاسة نشر الدیمقراطیة – قصیرة العمر – التی دفع بها بوش - خاصة فی أوائل إدارته الثانیة - ضمن إستراتیجیة إعادة بناء الشرق الأوسط .
ونتیجة لما سبق شعرت الإدارة الأمیرکیة بأزمتها وبتضارب أهدافها وفضلت التراجع عن سیاسة "إعادة بناء الشرق الأوسط" باهظة التکالیف غیر مضمونة العواقب، وقررت الإمساک بالعصی من الوسط، حیث تخلت الإدارة عن الضغط على "الدول الحلیفة" کمصر والسعودیة لتغییرها، واحتفظت ببقایا خطاب متشددة تجاهها یظهر بین حین وآخر لینتقد سجلها الداخلی، وسعت – فی المقابل – إلى ضم تلک الدول بجوارها فی حلف یرمی لعزل وإسقاط الدول والجماعات التی صنفت من قبل الإدارة على أنها "معادیة لأمیرکا" - وهی إیران وسوریا وحماس وحزب الله، وبذلک تکون أمیرکا قد تخلت عن تغییر "النظم الحلیفة" بهدف الاستعانة بها فی تغییر "النظم والجماعات المعادیة .
سیاسة العزل الأمیرکیة التی ترفض التعامل مع حماس وحزب الله وتفضل المواجهة مع إیران وسوریا وتسعى لعزلهما ومن ثم إسقاطهما مازالت قائمة حتى الآن – کما هو معلن على أقل تقدیر، ومع ذلک أقدمت دول المنطقة – بما فی ذلک إسرائیل – على عقد عدد من الاتفاقات التی من شأنها خرق الحظر المفروض أمیرکا على تلک الدول والجماعات .
ومن تلک المبادرات اتفاق الدوحة والذی أنهى الفراغ الرئاسی اللبنانی باتفاق یسمح بوجود ممثلین لحزب الله فی الحکومة اللبنانیة على الرغم من رفض أمیرکا التعامل مع حکومة حماس وسعیها لإسقاطها على مدى عامین ونصف، ومحادثات السلام السوریة-الإسرائیلیة التی خففت من العزلة الدولیة المفروضة أمیرکیا على سوریا، وحدیث إسرائیل عن رغبتها فی التفاوض مع الحکومة اللبنانیة حول "مزارع شبعا" المحتلة، هذا إضافة إلى حوار بعض دول الخلیج العربی مع إیران.
غیاب دبلوماسی
ینقسم المحللون لموقف أمیرکا نحو التطورات الهامة السابقة إلى ثلاثة فرق یعتقد أولها أن ما یحدث یسیر على عکس إرادة أمیرکا والتی تلهث دبلوماسیا وراء الأحداث بعدما اضطرت دول المنطقة کإسرائیل ومصر والدول العربیة مجتمعة (فی حالة اتفاق الدوحة) للتحرک للبحث لنفسها وبنفسها عن حلول لمشاکل المنطقة المتفاقمة بسبب سیاسات أمیرکیا الصدامیة والخاطئة
ویرى أصحاب هذا الرأی أن إدارة بوش لم تعد قادرة على الإمساک بجمیع خیوط السیاسات الإقلیمیة بالشرق الأوسط بسبب أخطائها السابقة والتی أضعفتها وهزت ثقة دول المنطقة فیها، وبسبب ضغطها السابق على دول حلیفة لها مما دفع تلک الدول لموازنة - وربما التملص من - الهیمنة الأمیرکیة، ولأن مشاکل المنطقة متفاقمة وحساسة ووصل بعضها حد الانفجار (کما حدث فی شوارع بیروت وعلى حدود مصر مع غزة)، ولأن دول المنطقة - بما فی ذلک إسرائیل - هی الأکثر تضررا منها، ویرى هؤلاء أنه فی ظل إصرار الإدارة الأمیرکیة على سیاستها المتشددة وعجزها عن إیجاد حلول بدیلة لمشاکل وصلت لحد الانفجار اضطرت دول المنطقة لأخذ زمام المبادرة بأیدیها .
فعلى سبیل مثلت أزمة قطاع غزة صداعا مزمنا لمصر والدول العربیة وإسرائیل، فالحصار یضغط على الدول العربیة من الداخل وعلى رأسها مصر لفک الحصار عن أهالی القطاع، خاصة مع مطالبة حماس المستمر للدول العربیة لکسر الحصار المفروض على 1.5 فلسطینی
هذا إضافة إلى فشل جمیع خیارات المواجهة فی إسعاف إسرائیل فی تعاملها مع القطاع، فقد جربت إسرائیل تشدید سیاسات الحصار غیر الإنسانیة والتی تضر بصورتها أمام الرأی العام العالمی، کما جربت الوسائل العسکریة المکلفة دبلوماسیا والتی لم تحقق الأمن لإسرائیل، حتى أن بعض الدوائر المساندة لإسرائیل فی أمیرکا طالبت الحکومة الإسرائیلیة بتجریب سیاسة الحوار مع حماس من باب التجربة إن لم یکن من باب السعی لاستخدام بدیل هام تهمله إسرائیل بدون سبب واضح.
وبناء على هذا التحلیل اضطرت مصر وإسرائیل للتعامل مع حرکة حماس والحوار معها مما یعد خرقا لسیاسة عزل حماس الأمیرکیة
وفیما یتعلق بالحوار مع سوریا یؤکد أصحاب هذا التوجه أن سیاسة عزل سوریا أثبتت فشلها منذ زمن لأنها لا تبدو قادرة على إسقاط النظام السوری کما أن سوریا تمتلک نفوذا کبیرا على جماعات مثل حماس وحرب الله مما یمثل أداة ضغط على إسرائیل
وعلى نفس المنوال یرى أصحاب هذا الرأی أن مواجهة إسرائیل مع حزب الله فی صیف عام 2006 کانت باهظة التکالیف وأن وجود حزب الله داخل لبنان یصب التغلب علیه بسهولة وأن الاستمرار فی سیاسة المواجهة بوازع أمیرکی یضعف حلفاء أمیرکا بالمنطقة.
دبلوماسیة مشروطة
یعیب آخرون على أصحاب الرأی السابق إهمالهم لحجم التوغل الأمیرکی فی المنطقة ولکون الدور الأمیرکی مطلوب للتوصل لأی حلول نهائیة، فعلى سبیل المثال لن تتوصل إسرائیل مع سوریا لاتفاق سلام نهائی دون موافقة وضمانة أمیرکیة وربما دور أمیرکی فی التواصل للاتفاق، ولن یتعامل المجتمع الدولی مع حکومة لبنانیة تضم عناصر من حزب الله دون ضوء أخضر أمیرکی، بل أن التقدم فی أی محادثات السلام والتهدئة یحتاج ضمانة أمیرکیة بألا تتدخل الولایات المتحدة نفسها لإفساد ما تم التوصل إلیه من حلول .
لذا یرى هؤلاء آن إسرائیل ومن وراءها أمیرکیا یریدون التطورات الأخیرة لأسباب بعضها داخلی مثل حاجة إیهود أولمرت لتحقیق بعض الإنجازات على ساحة السیاسة الخارجیة فی مواجهة أزمته السیاسة الداخلیة والاتهامات الموجهة له بالفساد، کما أن الرئیس بوش مازال یأمل فی تحقیق إنجاز دبلوماسی فی أواخر عهده، وهو الخط الذی بدأه بوش فی أواخر العام الماضی حین دعا لمؤتمر أنابولیس لتحریک عملیة السلام الفلسطینیة-الإسرائیلیة، کما قد یکون من مصلحة بوش والجمهوریین تهدئة الأوضاع فی الشرق الأوسط فی موسم انتخابی یتعرض فیه الجمهوریون لانتقادات عدیدة بسبب أخطائهم بالعراق وبالشرق الأوسط وسیاساتهم الصدامیة التی زعزعت استقرار المنطقة
ویرى أصحاب هذا الرأی أن ما یحدث هو نوع من التهدئة أو الدبلوماسیة المشروطة على غرار اتفاق التهدئة مع حماس، فهو بمثابة محاولة للسیر المشروط فی مسار التهدئة فإن نجح فی إیجاد بدیل حقیقی للتصعید والمواجهة کان بها، وإن فشل تکون إسرائیل ومن خلفها أمیرکا قد استفادتا دبلوماسیا وإعلامیا وامتلکتا فرصة القول بأنهما جربا الدبلوماسیة ولکن العرب لم یلتزموا بها .
مواجهة إیران
هناک فریق ثالث یرى أن ما یحدث مقصود أمیرکیا وإسرائیل ضمن خطة أکبر لمواجهة إیران، فإسرائیل تتحرک بدعم أمیرکی لشق الحلف الموالی لإیران بإخراج - ضلع الحلف الأهم بعد إیران - سوریا من المعادلة، فإسرائیل وأمیرکا تریدان إخراج سوریا من المعادلة من خلال إشعارها بإمکانیة حدوث تقدم على مسار محادثات السلام مع إسرائیل، وبذلک تضغط سوریا على حماس وحزب الله للموافقة مع التهدئة مع إسرائیل، کما أن دخول إسرائیل فی تهدئة مع حماس وحزب الله - ومن ورائهما سوریا - یفرغ إسرائیل وأمیرکا لمواجهة الخطر الأهم بالنسبة لهما وهو إیران .
بمعنى أخر أن الإدارة الأمیرکیة التی تخلت عن تغییر النظم الحلیفة لها لکی تستعین بها فی إسقاط النظم والجماعات المعادیة، تحاول الآن تحیید بعض تلک الجماعات والنظم حتى تتفرغ لمواجهة الخطر الأکبر القادم من إیران.
ویبرهن أصحاب الرأی السابق على صحة قرارهم بالإشارة إلى أن حکومة أولمرت لن تتمکن من التوصل لاتفاق سلام مع سوریا لأنها لا تمتلک الدعم الکافی جماهیریا وسیاسیا لتحقیق ذلک، کما أن مفاوضات السلام الفلسطینیة-الإسرائیلیة متوقفة، وکان من الأولى بإسرائیل والتی ترید الآن السلام مع سوریا ولبنان والتهدئة مع حماس أن تسرع فی تحریک محادثات السلام القائمة على استحیاء منذ سنوات والأکثر مرکزیة فی حل قضایا المنطقة
نوایا بوش
سیاسات الإدارة الأمیرکیة الحالیة تدفع العالم العربی لتوقع الأسوأ والخوف من نوایا بوش ومساعدیه فی شهورهم الستة الأخیرة بالحکم، ومن أن ما یدور من المنطقة هو استعداد لمواجهة قد تکون مرتقبة مع إیران، وهذا لا یمنعنا من الاعتراف بالواقع وبأن أخطاء الإدارة الأمیرکیة بالمنطقة حدت من خیارتها وخففت من حدة سیاساتها الصدامیة
وقد یکون من الضروری الاحتکام لعدد من المؤشرات الهامة على النوایا الأمیرکیة فی المستقبل المنظور مثل سرعة تشکیل حکومة توافقیة بلبنان، وسرعة رفع الحصار غیر الإنسانی المفروض على قطاع غزة، وحدوث تقدم حقیقی على صعید مفاوضات السلام الفلسطینیة-الإسرائیلیة والحوار الفلسطینی الداخلی، وتحرک دول المنطقة لتأسیس سیاسات الحوار والمهادنة ومدها لمساحات جدیدة تحول دون دخول المنطقة فی مواجهة جدیدة لا تعرف عواقبها
(المقال بقلم علاء بیومی )
ن/25