الفساد فی إسرائیل: مسار النخب السیاسیة و قدر التحدیث وثابتة العلاقة مع الفلسطینیین

عندما یتفشى فی قلب «الجیب الأبیض فی الشرق الأوسط» ... الفساد فی إسرائیل: مسار النخب السیاسیة وقدر التحدیث وثابتة العلاقة مع الفلسطینیین
یتزاید الکشف، فی الآونة الأخیرة، عن قضایا فساد وفضائح جنسیة یبدو أن کبار المسؤولین السیاسیین فی إسرائیل ضالعون فیها. وخلال العام الفائت وحده طاول الأمر الرئیس الإسرائیلی السابق، موشیه کتساف ورئیس الحکومة، إیهود أولمرت ووزیر المالیة السابق، أبراهام هیرشزون ومدیرة مکتب رئیس الحکومة، شولا زاکین، ورئیس حزب اللیکود ورئیس الحکومة الأسبق، بنیامین نتنیاهو ووزیر العدل السابق، حاییم رامون وغیرهم.
و وصلت فضائح الفساد حدّاً غیر مسبوق، إلى درجة یمکن القول، من دون خشیة الوقوع فی المبالغة، إنها أصبحت تشکل ظاهرة. وتکاد لا تخلو وسیلة إعلام إسرائیلیة، أخیراً، من تقاریر حول فضائح فساد سلطویة. هنا تحقیق ومراجعة للظاهرة:
قال رئیس «الحرکة من أجل نزاهة الحکم فی إسرائیل»، المحامی إلعاد شراغا، فی معرض تعقیبه على الفساد فی إسرائیل، إن ظاهرة الفساد أصبحت مقلقة جداً، حتى أنها تهدّد استقرار الحکومة الإسرائیلیة.
ویرى أکثر من خبیر أن هذه الظاهرة تعکس، من باب أولیّ، التغییرات التی خضعت لها إسرائیل على مدار أعوامها الستین المنصرمة. ومن هذه التغییرات، على سبیل المثال، أنّ المجتمع الإسرائیلی کله أصبح مادیّاً أکثر من ذی قبل. وتنتج عن هذه النزعات المادیّة فوارق اجتماعیة شاسعة بین الشرائح القویة والضعیفة لا یمکن تحملها. کما ترافق سیرورة من هذا النوع عملیة فساد فی القیم والأخلاق لم یعد خافیاً أنها أصبحت واجهة المجتمع الإسرائیلی، وهذه الحال لم تکن سائدة فی الماضی.
علاوة على ذلک یؤکد خبراء آخرون أن مؤسسة تطبیق القانون فی إسرائیل قد تآکلت کثیراً. ویشمل الحدیث فی هذا الشأن کلاً من الشرطة والنیابة العامة والمستشار القانونی للحکومة وحتى جهاز المحاکم. وقد حدث هذا، ضمن أسباب أخرى، لأن الحکومة الإسرائیلیة ذاتها ترغب فی أن تکون هذه الأجهزة ضعیفة، وأیضاً لا یتمّ رصد الموازنات الکافیة، وکذلک لأن أفراد الشرطة الإسرائیلیة ینشغلون بـ «الشؤون الأمنیة الجاریة» أکثر من انشغالهم بمحاربة الفساد والجریمة. وعندما یکون هناک جهاز ضعیف لتطبیق القانون، وعندما تتغیّر القاعدة الأخلاقیة، فإن ما یحدث هو تفجّر الفساد، کما هو حاصل فی إسرائیل الیوم.
ولیس سرّاً أنّه عندما یُحقق مع رئیس الحکومة مباشرة فی قضایا فساد مشتبه بالضلوع فیها، أو یُحقق مع عدد من الوزراء، مثل وزیری المالیة والعدل السابقین (الأول بتهمة سرقة الأموال، وقد تقرّر تقدیم لائحة اتهام ضده أخیراً، والثانی بتهمة التحرش الجنسی) أن کل هذا یهدّد استقرار الحکومة. وإذا ما تقرّر تقدیم لائحة اتهام ضد رئیس الحکومة فی القضیة الأخیرة (تلقی رشى مالیة من الثری الیهودیّ الأمیرکیّ موریس تالانسکی) فإنه لن تکون هناک حکومة، لأنّ المتوقع هو أن تُحلَّ مباشرة إثر ذلک.
فی واقع الأمر ثمة تداعیات أخرى لتآکل مؤسسة تطبیق القانون مرتبطة، مباشرة، بالفساد. وقد المح البروفسور شلومو أفینیری، أستاذ العلوم السیاسیة فی الجامعة العبریة - القدس، والمدیر العام الأسبق لوزارة الخارجیة الإسرائیلیة، أخیراً، إلى أنه على رغم الضجة الکبیرة، التی یثیرها التحقیق مع رئیس الحکومة، إیهود أولمرت، فی شأن تلقیه تبرعات من الخارج، فإن سؤالاً واحداً لم یُطرح، ویتعلق بمصادر الأموال وهویة المتبرعین. وأضاف أن الحدیث یدور هنا على مبالغ کبیرة تبرع بها یهود أثریاء فی الولایات المتحدة، من أجل التأثیر على نتائج الانتخابات فی إسرائیل، وبقیت هویتهم مجهولة. ولا توجد دولة فی العالم (باستثناء إسرائیل) تسمح بتلقی تبرعات من الخارج لانتخاباتها الداخلیة. ومنذ بضع سنوات تعانی المؤسسة السیاسیة الإسرائیلیة من تأثیر مجموعات معینة لدى یهود الشتات - لیست مستوطنة فی إسرائیل ولا تنوی أن تهاجر إلیها - على الواقع والخطاب السیاسی هنا، بواسطة تبرعاتها.
ورأى هذا الأستاذ الجامعی أن من حقّ جمهور الناخبین فی إسرائیل أن یعرف هویة هذه الجهات المتبرعة، کی یدرک ما هی مواقفها ومرامیها. أمّا واجب تطبیق هذا الحق فهو ملقى، برأیه، على عاتق المؤسسة القضائیة، وذلک نیابة عن المواطنین فی إسرائیل.
أمّا رئیس تحریر مجلة «ذی مارکر» الاقتصادیة الشهریة، التابعة لصحیفة «هآرتس»، غای رولنیک، فقد أکد أن الفساد فی إسرائیل بات ممأسساً. وأضاف أن تصنیف (رئیس الحکومة السابق) أریئیل شارون باعتباره الزعیم الأعظم فی إسرائیل، على رغم کونه متورطاً فی عدد لا یُحصى من القضایا الجنائیة المتعلقة بالفساد، وعلى رغم أنه لم یستبطن فی حیاته قطّ ما هو الحکم الرشید وما هی المعاییر العمومیة، أوجد نمطاً سلوکیاً جدیداً فحواه ما یلی: دعوا القیادة السیاسیة تفعل ما تشاء على المستوى السیاسی - الأمنی، بغض النظر عن الأحابیل الإعلامیة، التی ینتجها المستشارون الإستراتیجیون، وبغض النظر عما إذا کان هذا السلوک یسرق من إسرائیل مستقبلها.
استنفاد المسؤولیة الشخصیة أصبح فی خبر کان
فی العام الفائت، 2007، أنهى القاضی أهارون باراک دورة رئاسته للمحکمة الإسرائیلیة العلیا، التی ینظر إلیها الإسرائیلیون، فی غالبیتهم الساحقة، باعتبارها «فخر الدیموقراطیة ونزاهة الحکم» فی إسرائیل. وبالتزامن مع ذلک جرى الترکیز على أن الدرس الرئیس فی ما یمکن تسمیته بـ «إرث باراک» هو الحزم فی تقصّی واستنفاد مسؤولیة کبار الشخصیات والمسؤولین، سواء إزاء ارتکاب مخالفات جنائیة أو شوائب أخلاقیة، أو بسبب تقصیرات وإخفاقات. وقد وجد هذا الأمر تعبیراً له، مثالاً لا حصراً، فی إصرار باراک - عندما کان یشغل منصب المستشار القانونی للحکومة فی سبعینات القرن الفائت - على تقدیم شخصیات رفیعة إلى المحاکمة الجنائیة حتى إذا کان الأمر سیفضی إلى سقوط الحکومة (کما حدث بالفعل فی «الانقلاب السیاسی» الأول عام 1977، بعد أن تمّ تقدیم رئیس الحکومة آنذاک إسحق رابین إلى المحاکمة بتهمة إدارة زوجته حساباً بنکیاً، سریّاً، فی أحد بنوک سویسرا).
وقد تجلّى هذا التوجه فی سلسلة قرارات وأحکام اتخذها باراک کقاضٍ، وهی الأحکام التی أکد فیها أن على کبار الشخصیات فی الزعامة أو القیادة الرسمیة، بما فی ذلک السیاسیون، التخلی عن مناصبهم بسبب شائبة أخلاقیة، حتى وإن کانت هذه غیر قابلة للإثبات فی المحکمة، وذلک على اعتبار أن هؤلاء لم یعودوا مؤهلین لتجسید «الاستقامة والنزاهة» على المستوى العمومی.
وقد عبّر ذلک عن نفسه عندما أکد باراک (سویة مع رئیس المحکمة العلیا فی حینه، إسحق کاهان) فی تقریر لجنة التحقیق الرسمیة فی مذابح صبرا وشاتیلا، على وجوب إقالة وإقصاء شخصیات، من ضمنهم مسؤولون فی المؤسسة السیاسیة، إذا ما أخفقوا فی قراراتهم وأدائهم. لم یقبل أ. باراک الإدعاء أو الطرح القائل إنه لا یجوز إقصاء منتخبین من قبل الجمهور، بدعوى أن هذا الامتیاز أو الحق یعود للناخبین فقط، وقد أعلن بنفسه قائلاً: «إن حکم الجمهور لیس بدیلاً عن حکم القضاء».
غیر أنّ التنکر لهذا «الإرث القیمی» بات واضحاً وجلیاً فی الوقت الحالی. ویبرز هذا التنکر فی شکل خاص فی قضیة رئیس الدولة الإسرائیلی، موشیه کتساف، الذی ظلّ متشبثاً بمنصبه الرفیع، على رغم توافر أدلة وإفادات حول ارتکابه مخالفات جنسیة خطرة، وعلى رغم إعلان المستشار القانونی للحکومة أن الانطباع الذی کونه من إطلاعه على مجریات التحقیق یُشیر إلى أن تلک الإفادات لیست محض افتراء.
وقد اعتبر أکثر من معلق أن کتساف فقد قدرته على تجسید الاستقامة والنزاهة، غیر أنه شخصیاً وکذلک الکنیست - المخوّل بإقصائه عن منصبه - لم یستخلصا العبرة المطلوبة من إرث باراک.
إنّ هذا الأمر ینطبق أیضاً على سلوک القیادة السیاسیة والأمنیة التی أخفقت فی حرب لبنان الثانیة (صیف 2006)، حتى بموجب القراءات الإسرائیلیة. صحیح أن رئیس الحکومة، إیهود أولمرت، صرّح بأنه یتحمل کامل المسؤولیة عن الإخفاقات والتقصیرات، وأنه لن یشرک أحداً فی تحمل هذه المسؤولیة. غیر أنه، کما هو معلوم، لم یستخلص أی استنتاج شخصی من تحمله لهذه المسؤولیة، بل عمل على عرقلة وإحباط استنفاد المسألة (سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرین) برفضه إقامة لجنة تحقیق رسمیة موثوق بها وذات صلاحیات، واکتفائه بتشکیل لجنة تقصی وقائع لا تلزم استنتاجاتها أحداً (لجنة فینوغراد). وذهب أولمرت أبعد من ذلک بادعائه أنه لو استخلص العبر وقدم استقالته لکان قد تنصل بذلک من مسؤولیته!
من هنا فإن رفض إقامة لجنة تحقیق رسمیة - کان یمکن أن یترأسها القاضی المتقاعد أهارون باراک - یبدو بمثابة «إحباط موضعی» أو «اغتیال» فعلی لإرث باراک.
یؤکد الخبیر القانونی الإسرائیلی موشیه نغبی أنه لیس مفاجئاً البتة، وربما لیس من قبیل المصادفة أیضاً، أنه لا یوجد فی اللغة العبریة مصطلح قصیر، مصیب وملائم لکلمة Accountability (القابلیة للمحاسبة). غیر أنه ثبت هذه المرة أن ثمن عدم استنفاد المسؤولیة الشخصیة قد یکون خطراً وجودیاً، وأن استنفاد المسؤولیة أمر حیوی، لیس فقط من أجل «معاقبة» المسؤولین و/ أو ردع آخرین عن ارتکاب أخطاء مماثلة، وإنما أیضاً من أجل الحیلولة دون استمرار المسؤولین أنفسهم فی التسبب بکوارث ومآس.
قبل هذا الخبیر رأت إحدى الصحافیات الإسرائیلیات البارزات، شیلی یحیموفیتش التی کانت تعمل فی قناة التلفزة الإسرائیلیة الثانیة، والتی أصبحت لاحقاً عضواً فی الکنیست عن حزب العمل، أن إسرائیل قاب قوسین أو أدنى من أن تکون «دولة تسیطر علیها المیزتان الأبرز لجمهوریة الموز»، وهما: المستوى المتردی لنزاهة الحکم، والفجوات الهائلة بین الفقراء والأغنیاء.
وقد وردت «شهادة» هذه الصحافیة فی سیاق «مونولوج فصحی» (من «الفصح العبری») کان عبارة عن شکوى حادّة، صافیة وصریحة، من أداء وسائل الإعلام الإسرائیلیة التی باتت تتماشى، إلى حدّ التماهی أحیاناً، مع أصحاب الرسامیل فی تأیید السیاسة الاقتصادیة - الاجتماعیة التی تنتهجها الحکومة لمصلحتهم، وتنذر بأن تقضی قضاء مبرماً على «دولة الرفاه»، حتى إلى ناحیة تجاهل معاناة ضحایا هذه السیاسة، من الیهود أنفسهم. ولا شکّ فی أن أداء وسائل الإعلام هذه فی میدان التماثل، حتى لا نقول الامتثال، مع سیاسة الحکومة العامة أصبح هو أیضاً من الممارسات المفضوحة. وعلى صلة بمسألة «نزاهة الحکم» فی إسرائیل نشیر إلى أن أحد أعداد سلسلة «أوراق إسرائیلیة»، الصادرة تباعاً عن المرکز الفلسطینی للدراسات الإسرائیلیة - «مدار»، جرى تخصیصه لهذا الأمر، وفیه عرض الخبیر القانونی موشیه نغبی ما اعتبر أنه «فشل ذریع لمنظومة أجهزة سیادة القانون (الإسرائیلیة) فی حمایة الدیموقراطیة من الذین یحاولون تدمیرها وتقویضها من الداخل» لغایاتهم المخصوصة، والتی لیس أبسطها التغطیة على الفساد المستشری فی القمة. وقد احتوى هذا العدد على مقالتین مأخوذتین من کتاب لهذا الخبیر صدر فی خریف 2004 عن منشورات «کیتر» فی تل أبیب، مشتملاً على العرض ذاته، إنما بصورة أکثر سعة وشمولیة. وجاء الکتاب تحت عنوان «أصبحنا مثل سدوم: فی المنزلق من دولة قانون إلى جمهوریة موز».
النتیجة التی یخلص إلیها نغبی فی الکتاب عموماً فحواها أن «لا نهضة ترجّى لدولة تخاف سلطاتها من أعداء القانون والدیموقراطیة، بدل أن یکون سلوکها نقیض ذلک جملة وتفصیلاً».
أما فی ما یختص بالفجوات الضخمة بین الفقراء والأغنیاء، وهی المیزة الأبرز الثانیة لـ«جمهوریة الموز» على ما تقول یحیموفیتش، فیمکن استعادة ما سبق أن قاله عالم الاجتماع الإسرائیلی د. شلومو سبیرسکی فی شأن کون ذلک أشبه بصیرورة «ثقافة تطوّر» أو «ثقافة تنمیة» اقتصادیة - اجتماعیة انطلقت من «مبدأ» تکریس هذه الفجوات، بدایة بین أبناء الطوائف الیهودیة المختلفة (أشکنازیون وشرقیون) وبینهم وبین العرب الفلسطینیین المواطنین فی إسرائیل، ثم اتسع تطبیق هذا «المبدأ» لاحقاً لیشمل، بعد عام 1967، الفلسطینیین فی الضفة الغربیة وقطاع غزة ومن ثمّ غیرهم على مرّ السنوات الماضیة وصولاً إلى الزمن الراهن.
وبطبیعة الحال کانت هناک، قبل قیام إسرائیل بفترة طویلة، أجهزة اقتصادیة - سیاسیة غیر متساویة (تمییزیة) تابعة لقیادة «الییشوف». وقسم من هذه الأجهزة ساعد أیضاً فی تحدید نزعات «التطوّر» الجدیدة بعد إنشاء الدولة. لکن الفارق المبدئی بعد ذلک کمن فی أن الذی قاد النزعات الجدیدة هو جهاز دولانی مستقل وعظیم النفوذ، نسبیاً، وإلى جواره «طبقة وسطى صنیعة الدولة» سرعان ما استأثرت لنفسها بقدر کبیر من «الأوتونومیا»، بتغطیة دائمة من جهاز الدولة.
لعل ما یعنینا من هذه الحصیلة، على رغم ما تنطوی علیه من مؤدى مثیر، هو أن «ثقافة التنمیة» هذه ترتبت ولا تنفک تترتب علیها مفاهیم اجتماعیة عنصریة، قلباً وقالباً، تجاه الداخل الإسرائیلی وتجاه الخارج أیضاً. وفی ما یتعلق بالفلسطینیین تحدیداً أشار الباحث نفسه إلى أنه لن یکون هناک فی المدى المنظور والبعید جیش احتلال فی وسعه أن یفرض على الفلسطینیین جوهر التشغیل وشروطه وظروفه ولذلک ستتطور، فی شکل علنیّ أکثر فأکثر، أیدیولوجیا تسوّغ وتبرّر الفوارق الطبقیة الناشئة بین الیهود والفلسطینیین بمفاهیم ثقافیة عنصریة أو قومیة - تماماً مثلما أن الأیدیولوجیا حول «الاستضعاف الثقافی» تطورت فی الخمسینات والستینات من القرن العشرین کتسویغ ومبرّر للفوارق الطبقیة التی نشأت بین الأشکنازیین والشرقیین. ومن الجائز جداً أن تعرض هذه الأیدیولوجیا ذاتها الیهود بصفتهم «شعب الأسیاد» و/ أو «شعب المجتمع التکنولوجی المتطور»، الذی یُسمح بل ویحقّ له تشغیل «المستضعفین فی الأرض» الى الأستغلال.
فی واقع الأمر لا تقتصر المفاهیم الاجتماعیة العنصریة فی الممارسة والتفکیر الإسرائیلیین على جانب التطوّر الاقتصادی فحسب، وإنما تنسحب أیضاً على المواقف السیاسیة من الحلول المرتجاة للنزاع الإسرائیلی - الفلسطینی. وهذا ما سبق أن تطرّق إلیه المؤرخ والأستاذ الجامعی، إیلان بابه، فی مقاربته «عن العودة والعنصریة» المنشورة فی آخر نیسان (أبریل) 2005.
یؤکد الکاتب، ضمن أشیاء أخرى، أن قضیة اللاجئین الفلسطینیین هی، فی العمق، أکثر من سؤال حول حلّ صحیح أو غیر صحیح للتطهیر العرقی، الذی اقترفته إسرائیل فی عام 1948. فهذه القضیة هی الأساس لفهم المشروع الصهیونی کافة، فی لبوسه الحالی، وربما هی الأساس أیضاً للبدیل الوحید لوجوده. ویضیف: إنّ التسویغ الإسرائیلی الأکثر أساسیة، الإجماعی، ضد عودة اللاجئین یتمثل فی الخوف من فقدان الأکثریة الدیموغرافیة الیهودیة لدولة إسرائیل. وهذا الخوف یبدو أقوى حتى من الرغبة فی إنکار النکبة أو من السعی للتهرّب من المسؤولیة عن ارتکاب الجریمة فی 1948. والموقف الإسرائیلی الأخلاقی وکذلک الدولی تآکل جداً، إلى حد لم یعد معه هناک أی خوف إسرائیلی من الإدانة ولا رغبة یهودیة فی التکفیر عن الذنب.
ویتابع: ثمة فی صلب هذا الموقف المأزق الذی أرّق الصلیبیین حین اکتشفوا أنهم أنشأوا دولة فی لبّ العالم الإسلامی لا فی أوروبا، وأرّق الکولونیالیین البیض الذین سعوا إلى إقامة دولة قبلیة خاصة بهم فی أفریقیا ولم یقدروا على القارة السمراء، لکنه لم یؤرّق بالمقدار نفسه الکولونیالیین فی الأمیرکتین الذین أبادوا على نطاق واسع البیئة غیر البیضاء بمجرّد أن وطأت أقدامهم هناک. وعلى ما یبدو فإنّ هذا المأزق لا یؤرّق الصهاینة الذین یمضون قدماً فی الحفاظ على ما أسماه «الجیب الأبیض» فی قلب العالم العربی الذی استوطنوا فیه.
لعل الشیء المهم هو أن مساعی الحفاظ على هذا «الجیب الأبیض» هی التی تحکمت فی مبررات آخر البرامج الإسرائیلیة المعروضة للتسویة السیاسیة، وفی طلیعتها خطة أریئیل شارون للانفصال عن غزة وشمال الضفة الغربیة، وخطة إیهود أولمرت التی عرفت باسم «خطة التجمیع» أو «خطة الانطواء»، قبل أن تدفنها الحرب على لبنان. وعلى ما یبدو فإنها ستتحکم بما قد یأتی، إذا ما أتى، فی مرحلة لاحقة. ومن غیر المستبعد قطّ أن تلد مخططات أکثر جهنمیة!
( للباحث فی المرکز الفلسطینی للدراسات الإسرائیلیة – مدار أنطوان شلحت )
م/ن/25