الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

"إسرائیل" فی شیخوختها

تحتفل "إسرائیل" بعید میلادها الستین هذه السنة. والکیان الصهیونی، ظاهراً، صامد منیع فی وجه کل القوى العربیة المحیطة به. استطاع تحیید دولة عربیة ذات شأن متمیز هی مصر، إذ فاز باتفاق صلح معها فی عام ،1979 ثم تمکن من تحیید قوة عربیة مجاورة أخرى بعقد صلح مع الأردن فی عام ،1994 فبقی من قوى المواجهة فی الجانب العربی، إلى فلسطین، سوریا ولبنان.

جسّدت فلسطین وجه المأساة بأحلک صورة، ووجه البطولة بأبهى صورة.

فلسطین عنوان قصة فاجعة قلما شهد تاریخ الإنسانیة نظیراً لها فی فظاعتها. فبقرار من رأس الشرعیة الدولیة، مجلس الأمن، قُسّمت فلسطین لیقام على أرض عربیة کیان یهودی. وما کان ذلک لیتحقق، وسط مقاومة الشعب الفلسطینی الباسلة، إلا باقتلاع عشرات الألوف من العرب من بیوتهم عنوة، وإحلال غرباء، وفدوا بأسلحتهم الفتاکة من أقاصی الأرض برعایة دولیة فاجرة، لیحلوا محلهم فیها. وما کان ذلک لیتم سلمیاً. فکان الثمن الذی دفعه الشعب الفلسطینی باهظاً، على حساب دماء أعداد لا تُحصى من هذا الشعب وأرواحهم، وتشرید مئات الألوف حلّوا لاجئین فی مخیمات داخل الأرض المحتلة وفی أقطار عربیة مجاورة. کانت الحصیلة مشهداً مأساویاً أفرخ أزمة مزلزلة کان الوطن العربی بأسره مسرحاً لها، فلم یسلم من تداعیاتها المباشرة أو غیر المباشرة شعب من شعوب هذه الأمة.

هذا وجه المأساة فی فلسطین الذبیحة، أما وجه البطولة فیتجلى فی صمود خارق للشعب المنکوب، فهو فی مواجهة أعتى قوة فی الشرق الأوسط، مدعومة من أعظم قوى العالم، لم یستسلم ولم یقنط بعد ستین سنة على نکبته، لا بل سطّر فی سفر التاریخ صفحة مُضیئة من الصمود. سقطت الأرض فی ید العدو الغاشم ولم تسقط القضیة على الرغم من کل ما تعرض له هذا الشعب الأبی من عنت على ید الإجرام التی کانت تطارده أنّى حل، وما ناله من جور الأنظمة العربیة وإهمالها، وفی حالات مشهودة ما کان من تواطؤ من جانب بعض الأنظمة مع حاضنی الصهیونی فی المجتمع الدولی من الذین یرفعون زوراً شعارات الحریة والدیمقراطیة وحقوق الإنسان. هذه القیم التی تُعدّ من الثوابت فی المقاییس الحضاریة أُهدرت بلا هوادة فی فلسطین على مرأى من العالم المتحضر وسمعه.

الشعب الفلسطینی رفض سوء المصیر الذی شاءه له الصهیونی ومعه أعظم قوى العالم، ولو أن ذلک کله نُفذ باسم الشرعیة الدولیة، فعبّر هذا الشعب المناضل عن رفضه للواقع المفروض علیه بصموده العظیم، بمواصلة نضاله، بمقاومته العنیدة ولو بالأیدی العاریة، ووقف المواطن العربی فی کل مکان وقفة وفاء أمینة إلى جانب أخیه الفلسطینی، ففرضت فلسطین نفسها عنواناً لقضیة العرب المرکزیة. فکان من جراء هذا الواقع الألیم أن بقیت فلسطین ماثِلة فی خلفیة حالة من الاضطراب عمّت المنطقة العربیة، کان من تجلیاتها تظاهرات عارِمة وتحرکات صاخِبة وانقلابات عسکریة متتالیة وقلاقل قضّت مضاجع مسؤولین ما کانوا یوماً على مستوى المسؤولیة القومیة.

بعد ستین عاماً على ولادة الکیان الصهیونی، یظهر للعیان جلیاً أن هذا الکیان العدوانی لم یعد یتمتّع بالأمان ولا یشعر بالاطمئنان، بل هو یدرک أنه یقف على مفترق مصیری أمام تعاظُم مدّ المقاومة داخل فلسطین کما فی الجوار العربی، وبخاصة فی لبنان. اعتاد هذا الکیان الفاجر أن یحمی نفسه بالبطش، بقوة السلاح، بالإرهاب المتمادی الذی مارسه ویمارسه، إلا أن قدرة الشعب العربی على الصمود والتصدّی لم تکن فی حسبان هذا العدو اللئیم.

ستون سنة مرّت ولم یستسلم الإنسان العربی، فإذا بالعدوان أمام مشهد جدید لم یکن یتوقعه. فبفضل المقاومة فی فلسطین ولبنان وصمود الشعب العربی على العهد فی کل مکان، یواجه العدوان الیوم تحوّلاً جذریاً فی مسار الصراع العربی  "الإسرائیلی" فی غیر مصلحة العدوان ومآربه التوسّعیة. وذلک بعدما استیقن العرب أن جَبه العدو الصهیونی لا یکون بالحروب التقلیدیة بل بالمقاومة الشعبیة. فقد أظهرت التجارب أن لا قِبَل للعرب بالتصدی للعدوان المتمادی بجیوش نظامیة نظراً لتفوق الجیش الصهیونی بما یمتلک من أسلحة وعتاد وتکنولوجیا متطورة وإمکانات مادیة هائلة، تمدّه بها أقوى دول العالم وأغناها. فجاءت المقاومة فی فلسطین ولبنان لتفضح مواطِن ضعف هذا الجبّار المصطنع ووهنه.

المقاومة الوطنیة لم تمکّن الاحتلال الصهیونی من البقاء طویلاً فی عاصمة لبنان بیروت بعد احتلالها عام ،1982 فکان علیه أن یُخلیها بلا قید ولا شرط، حاول أن یجنی ثمناً باهظاً عبر اتفاق 17 أیار المشؤوم، إلا أن الشعب اللبنانی سرعان ما لفظ هذا الاتفاق وأسقطه، واضطر الاحتلال إلى الجلاء عن الأرض اللبنانیة فی 25 مایو/ أیار عام 2000 من دون أی مقابل، فلم یبقَ فی یده سوى مزارع شبعا التی کانت وما زالت تحکمها معطیات وظروف خاصة. وسجلت المقاومة صموداً أسطوریاً فی وجه العدوان "الإسرائیلی" الماحِق إبّان حرب یولیو/ تموز ،2006 فاعترف "الإسرائیلی" بهزیمته فی واقع الحال عبر ما کان من مساءلات وتحقیقات حول مجریات تلک الحرب ونتائجها. واضطرت قوات الاحتلال إلى الجلاء عن قطاع غزة تحت ضربات المقاومة من دون محادثات أو اتفاقات، ولو أن السلطة الصهیونیة ما زالت تمارس شتى ألوان العدوان والإرهاب على شعب غزة الباسل.

مع غلبة منطق المقاومة فی الجانب العربی تبدّل وجه الصراع العربی  "الإسرائیلی" ومجراه. فلم یعد "الإسرائیلی" یشعر بالاستقرار والأمان کما کان. وقد تولّد عن هذا الواقع المستجد معطیات لا تبعث الاطمئنان فی نفوس المعتدین ومن هم وراءهم، من ذلک أن میزان حرکة الهجرة الوافدة والمغادرة، کما میزان حرکة أموال الاستثمار المستوردة والمصدرة، کلاهما أخذ ینحو منحى سلبیاً من الزاویة "الإسرائیلیة"، وهذا ینذر الکیان الصهیونی بأوخم العواقب مع الزمن.

"إسرائیل" أمست فی الستین من عمرها أشبه بالشیخ الهرِم، أما العرب ففی حال مرضیة تسمّى الشرذمة.

یبدو کأن الدول العربیة متهافِتة على التوقیع على صلح مع العدو الصهیونی، بدلیل ما یصدر عن بعض المسؤولین العرب من مواقف فی هذا الصدد، وبدلیل ما یدور على مستوى ما یُسمى مبادرة عربیة للسلام. والضغط الأمریکی فی هذا الاتجاه سرّ معلن. إننا نرى فی أی حال ضرورة الترکیز على حق العودة للاجئین، کل اللاجئین، إلى فلسطین، کل فلسطین فی امتدادها التاریخی من البحر إلى النهر، بذلک یستعید العرب بعض حقهم السلیب. المهم ألا نؤخذ بمقولة "الحل العادل لقضیة اللاجئین" التی قد تستبطن قبولاً بمبدأ توطین اللاجئین بعیداً عن دیارهم فی مقابل تعویض ما.

ختاماً، إن تهافت الحکام العرب على التوقیع مع العدو یجب ألا یلزم الشعب العربی الذی یُفترض فیه أن یواصل مقاومته للعدوان ولو سلمیاً، ولنا أن نتلمّس فی المهاتماغاندی القدوة الحسنة، إذ کانت مقاومته الاحتلال البریطانی للهند سلمیة، غیر مسلحة.

 

( المقال لرئیس الوزراء اللبنانی الأسبق سلیم الحص )

م/ن/25


| رمز الموضوع: 142764







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)