نجاح قمّة دمشق مرهون بما بعدها
وصحیحٌ أیضاً أنّ قمّة دمشق ما کانت لتختلف کثیراً، فی ما حصل فیها من أعمال ومناقشات وما صدر عنها من مقرّرات، لو شارک فیها کلُّ من تغیّب عنها. فالقمم العربیة فی السنوات الأخیرة تشابهت أعمالها ونتائجها، ولم تخرج عن سیاق اللقاء الدوری التقلیدی بین الزعماء العرب دون القدرة الفاعلة على مواجهة التحدّیات التی تعصف منذ مطلع القرن الحالی بالأمّة العربیة.
لکن هذا النجاح "السوری" و"العربی" فی قمّة دمشق سیکون مرهوناً الآن بما سیحدث بعد القمّة حیث ستخضع معاییر النجاح إلى امتحانات صعبة.
فالمعیار الأول کان یختصّ تحدیداً بسوریا ودورها، وبمواقفها العربیة والإقلیمیة والدولیة. هذه المواقف السوریة التی جعلت إدارة بوش، منذ غزوها للعراق، تسعى لعزل سوریا وللضغط علیها من أجل تغییر سیاساتها وتحالفاتها فی المنطقة، ولفکّ ارتباطها المؤثّر فی مثلّث أزمات العراق وفلسطین ولبنان.
فجاءت قمّة دمشق لتعزّز دور سوریا العربی ولتجعلها معنیّة مباشرة الآن فی عموم الأزمات العربیة من خلال رئاستها للقمّة العربیة لمدّة سنة. لذلک کانت الضغوط الأمیرکیة تستهدف تأجیل القمّة أو تغییر مکانها أو تفجیر مناقشاتها حتى لا تسیر هذه القمّة بشکل طبیعی، فتخسر دمشق الدور المقرّر لرئاسة القمّة الدوریة، وتکون أسیرة الصراعات مع أطراف عربیة أخرى. وهنا خسرت واشنطن وربحت دمشق حینما انعقدت القمّة فی مکانها وزمانها، وحینما سادت أجواء هادئة فی أعمالها.
لکن ماذا بعد؟!
إنّ قمّة دمشق قد وضعت سوریا الآن أمام مسؤولیة کبیرة، وهی أوّل قمّة تنعقد على أرضها وفی أخطر مرحلة تمرّ بها سوریا والأمّة العربیة معاً.
إنّ قمّة دمشق ونجاحها فی الانعقاد والأعمال والمقرّرات یضع قیادتها السیاسیة وأجهزتها الإعلامیة والدبلوماسیة أمام تحدّیات هامّة وامتحانات خطیرة، حیث أنّ هذه المرحلة تتطلّب أقصى درجات الوعی السیاسی، والانتباه إلى مخاطر الانجرار وراء معارک سیاسیة تتناقض مع أهداف وشعارات قمّة دمشق، ولا تصبّ فی خانة العمل العربی المشترک والتضامن العربی الفعّال، ولا تعزّز طبعاً دور سوریا العربی والإقلیمی والدولی.
وما هو مؤشّر خیرٍ فی هذا المجال، کلمة الرئیس بشّار الأسد فی افتتاح القمّة وما صرّح به هو ووزیر الخارجیة ولید المعلّم خلال القمّة وما بعدها، حیث کان الموقف السوری متمیّزاً فی هدوء الأسلوب ووضوح الهدف بالحرص على التضامن العربی وعلى إفشال الغایات التی سعت إلیها إدارة بوش من وراء حملتها لمقاطعة قمّة دمشق.
وما هو مؤشّر خیرٍ أیضاً ما جاء فی مقرّرات القمّة و"إعلان دمشق" من دعوةٍ إلى وضع المصلحة العربیة العلیا فوق أیّ مصالح أخرى، ومن تأکید على جملة ضوابط للتعامل مع أزمات المنطقة.
وصحیحٌ أنّ هناک جروحاً الآن فی جسم العلاقات العربیة/العربیة، وخاصّة فی العلاقات السوریة/السعودیة/المصریة، لکن یبدو أنّ هناک أیضاً إدراکاً لمخاطر الضغط على هذه الجروح عوضاً عن معالجتها، فالنتائج السلبیة لاستمرار تدهور العلاقات العربیة لن ترحم لا طرفاً ولا أحداً.
إنّ قادة دمشق والریاض والقاهرة یدرکون أهمّیة التضامن والتنسیق بین حکوماتهم من خلال تجارب سابقة أثبتت نجاحاتها فی عقود ماضیة وفی قضایا مصیریة، کما حصل ضدّ إسرائیل فی حرب تشرین /أکتوبر 1973، ثمّ فی کیفیّة التعامل مع غزو نظام صدام حسین لدولة الکویت، وکذلک فی إنهاء الحرب الأهلیة فی لبنان من خلال توقیع اتفاق الطائف.
وإذا کانت تداعیات الاحتلال الإسرائیلی المستمر لأراضٍ فلسطینیة وسوریة ولبنانیة، ثمّ تداعیات الاحتلال الأمیرکی للعراق، قد أدّت، فی ظلّ غیاب المرجعیة العربیة الفاعلة، إلى نموّ الدور الإیرانی فی المنطقة، وانقسام حکومات المنطقة حول کیفیّة التعامل مع هذا الدور، فإنّ من شأن عودة الروح قریباً إلى التحالف السوری/المصری/السعودی، وموقع دمشق فی ریادة العمل العربی المشترک خلال هذا العام، أن یحقّقا أفضل الظروف لإقامة حوار عربی/إیرانی، وحوار عربی/ترکی، یضمن کلٌّ منهما المصالح العربیة على قاعدة تضامن عربی متین، ویخدم التنسیق المطلوب الآن بین الأمن العربی وجواره الإیرانی والترکی وما لهذا الجوار الإقلیمی/الإسلامی من دور مؤثّر حالیاً فی أحداث المنطقة.
إنّ العکس قد یحدث فی حال تعثّر التضامن العربی وجهود المصالحة بین دمشق والریاض والقاهرة. فالجوار الإقلیمی له مصالحه وأولویاته وسیعمل على ملء أی فراغ ینتج عن غیاب الطرف العربی أو المرجعیة العربیة حتى لا یُعبَّأ هذا الفراغ من قبل طرفٍ آخر معادٍ له.
هذا واقع الجغرافیة السیاسیة والأمنیة الذی تتحکّم به أولویة المصالح الذاتیة، والذی یتحکّم هو الآن بصراعات المنطقة وبقوى النفوذ فیها.
ربّما تکون هناک جوانب شخصیة وفئویة الآن إضافةً إلى الأبعاد السیاسیة الهامّة وراء التوتّر فی العلاقات العربیة الراهنة، بل ربّما تکون هذه الجوانب مسؤولة إلى حدٍّ ما عن التعثّر الحاصل فی المصالحات الوطنیة داخل الأزمتین اللبنانیة والفلسطینیة. لکنّ ذلک لا یضعف من آثار العامل الأمیرکی فی التشجیع على التوتّر وتأزیم العلاقات بین أرکان التضامن العربی المنشود.
إنّ أهمّ نتیجة حالیّة فی معاییر نجاح قمّة دمشق هی فشل واشنطن بعزل دمشق عن محیطها العربی، فسوریا الآن هی رئیس القمّة لمدّة عام، وهی مطالبة بالقیام بمبادرات وتحرّکات لإنعاش جسم التضامن العربی. ودمشق أیضاً هی عاصمة الثقافة العربیة الآن وما یعنیه هذا الأمر من تأکید على الهویّة الثقافیة المشترکة بین العرب ومن تعزیز الهویّة العربیة لعموم العرب فی کلّ مکان.
وقبل ذلک کلّه، وأهمّ من ذلک کلّه، فإنّ دمشق هی أکثر الأطراف العربیة التصاقاً بالقضایا المصیریة التی تعصف الآن بالأمَّة. فسوریا هی طرف فاعل ومهم ومؤثّر فی مصیر الأزمة السیاسیة الداخلیة فی لبنان، وفی الصراع الدائر بین السلطة الفلسطینیة ومعارضیها، وهی معنیّة بشکل مباشر بما حدث ویحدث فی العراق، وعلى أرض سوریا الآن أکثر من ملیون مهاجر عراقی، وحدود سوریا مع العراق ومع ترکیا یجعلها عاملاً مهمّاً فی مصیر أمن العراق ومستقبل وحدته واستقراره. وسوریا تربطها علاقة خاصّة جداً بأطراف المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائیلی فی فلسطین ولبنان، وهی على علاقة قویة جداً أیضاً مع طهران التی لا یمکن تجاهل دورها الآن فی أزمات المنطقة وفی حلولها ..
أخیراً، فإنّ سوریا هی مفتاح التسویة النهائیة فی عملیة السلام مع إسرائیل، وأرضها فی الجولان ما زالت محتلّة، ولیس هناک بینها وبین إسرائیل ما حصل من اتفاقات ومعاهدات کما جرى على الجبهتین المصریة والأردنیة.
کلّ هذه العوامل تجعل من فکرة "عزل سوریا" فکرةً سخیفة وخاطئة وغیر منطقیة أو عملیة. فهذه القضایا المعنیّة دمشق بها هی الآن قضایا الأمَّة والشرق الأوسط بأسره، وهی محور وأساس کل السیاسة الأمیرکیة فی هذه المرحلة. ولقد أضیف حالیاً إلى موقع سوریا ودورها، مسؤولیة قیادة العمل العربی المشترک فی أخطر عام ومرحلة.
قیل فی السابق: "أن لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سوریا". الآن أصبحت سوریا معنیّة مباشرةً بالحرب والسلام معاً فی قضایا المنطقة بأسرها.
( المقال للدکتور صبحی غندور مدیر "مرکز الحوار العربی" فی واشنطن )
ن/25