الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

حقیقة موقف السلطة وبعض العرب من المسألة الفلسطینیة

 خلال خمسة أیام فقط من الأسبوع الماضی، کان الجیش الإسرائیلی، المسکون بمرارة الإهانة البالغة التی أوقعها به المقاتلون اللبنانیون قبل عام ونصف العام، یصب قذائف مدفعیته وصواریخ طائراته علی مختلف مدن ومخیمات قطاع غزة. قلة بین مئات القتلی والجرحی من الضحایا کانوا من مسلحی تنظیمات المقاومة، بینما کان ثلثهم علی الأقل من الأطفال.

هذه، بالطبع، لیست حرباً بالمعنی المعروف، لیست الحرب التی تستدعی کل هذا الحشد من الدبابات والعربات المجنزرة وأحدث طائرات سلاح الجو. هذه، وکما أرید لها أن تکون، مجزرة ضد أهالی عزل، وسیلة أخری من وسائل الحرب الحدیثة لتحقیق أهداف سیاسیة محددة عن طریق زرع الرعب والخوف فی أوساط المدنیین، ودفعهم إلی التخلی عن قادتهم وسیاسات هؤلاء القادة. کل الحروب الحدیثة تضمنت هجمات بشعة، محسوبة ومخططة، علی المدنیین، من الحرب العالمیة الثانیة، الحرب الفیتنامیة، الحروب ضد العراق، الحروب المتعددة ضد لبنان، وهذه الحرب الطویلة ضد الفلسطینیین. منطق الحرب الإسرائیلیة بسیط وواضح: لإسقاط حماس أو إضعافها، أو إجبارها علی انتهاج سیاسة جدیدة، لابد من تحریض أهالی القطاع للانقلاب علی حکومة هنیة، أو للضغط علی هذه الحکومة وإحراجها. ولدفع أهالی القطاع إلی مثل هذا الطریق، لابد من إیقاع آلام کبری بهم، حصاراً وتجویعاً وإفقاراً وقتلاً، لابد من إقناعهم بأنهم سیدفعون ثمناً باهظاً لوقوفهم مع، أو حتی صمتهم عن، قوی المقاومة.

عندما أذیع تصریح الرئیس عباس، الذی أکد فیه علی وجود القاعدة فی قطاع غزة، لم یفهم من التصریح سوی محاولة من أعلی المسؤولین الفلسطینیین موقعاً لتسویغ التصعید الإسرائیلی البشع ضد أهالی القطاع. وهذا ما حدث بالفعل. وعندما بدأ التصعید، تردد صدی تصریحات الرئیس فی تصریحات مشابهة لوزیر إعلامه المالکی (أحد أبرز الوطنیین الفلسطینیین المعاصرین!)، الذی قال، ومرة أخری، إن مسؤولیة التصعید تقع علی کاهل المقاومین الفلسطینیین. هذا، بالرغم من أن کل الأطراف المعنیة، بما فی ذلک حکومة رام الله، التی یتحدث المالکی باسمها، تدرک أن التوصل إلی هدنة هو أمر ممکن، ولا یحتاج سوی أن تقبل الدولة العبریة بإیقاف الاعتداءات علی القطاع والضفة. توقف الاعتداءات الإسرائیلیة، کما أکدت التنظیمات الفلسطینیة المختلفة، یؤدی تلقائیاً إلی توقف الصواریخ. المشکلة، بالطبع، لیست فی إدراک عباس والمالکی، أو عدم إدراکهما، للتفاصیل المتعلقة بالاعتداء والهدنة، المشکلة فی جوهر التوجه والسیاسات الرئیسیة. مضت المفاوضات بین قیادة رام الله والقیادة الإسرائیلیة فی طریقها أو لم تمض، توصلت إلی نتائج أو لم تتوصل، فقد حددت القیادة الفلسطینیة خیارها، وهو خیار الشراکة مع الدولة العبریة. ولسبر کنه هذه الشراکة، ینبغی العودة إلی الأساسیات.

لم یکن اتفاق أوسلو کما قیل عند توقیعه تسویة تاریخیة للصراع علی فلسطین، بل إطاراً مرجعیاً للعلاقة بین الدولة العبریة وقطاع من قیادة منظمة التحریر کان سیتحول إلی سلطة الحکم الذاتی وطبقتها الحاکمة. وإن کان معقولاً أن یثور جدل عربی حول أوسلو فی سنوات منتصف التسعینات، فإن تطورات التفاوض بین السلطة والإسرائیلیین حسمت الجدل. کل خطوة فی مسار اوسلو تطلبت مفاوضات شاقة وطویلة؛ وما أن وصل مسار التفاوض إلی مرحلة محددة، بعد وای ریفر، حتی توقفت المفاوضات کلیة، ولم یعد للجدول الزمنی الذی تضمنه أوسلو من قیمة. أوسلو لم یکن هو التسویة التاریخیة، مهما کان معنی هذه التسویة، أوسلو کان شیئاً آخر مختلفاً تماماً.

 أوسلو هو إطار الشراکة بین الذین قدموا ضمانات ملموسة لاستعدادهم للشراکة، من جهة، والدولة العبریة، من جهة أخری: شراکة لضمان أمن الدولة العبریة، وشراکة لتمهید الطریق أمام سلام عربی وإسلامی ـ إسرائیلی شامل، وشراکة لفتح أبواب المنطقة العربیة أمام الانتشار الإسرائیلی الاقتصادی، وحتی السیاسی. وجهة النظر الفلسطینیة التی قالت (بعد انهیار الاتحاد السوفییتی والانقسام العربی فی أزمة الکویت) أنه قد آن للفلسطینیین أن یتوجهوا نحو المتوسط (أی الغرب) وأن یدیروا ظهرهم للصحراء (أی العرب)، وأن شراکة بین النخبة الفلسطینیة والقوة والإمکانیات الإسرائیلیة ستسیطر علی الشرق الأوسط کله، کانت تدرک مغزی الاتفاق الذی فاوضت علیه (أو هی فی الحقیقة قبلته ولم تفاوض علیه) فی أوسلو. ولم یکن مدهشاً أن یقول شمعون بیریز، الشریک الهام فی حکم الدولة العبریة آنذاک، أنه صادق علی مسار أوسلو التفاوضی عندما قرأ الورقة الفلسطینیة للشراکة والتنمیة الاقتصادیة فی المنطقة، وأدرک بالتالی مصداقیة المفاوض الفلسطینی!

خلال السنوات القلیلة التالیة لتوقیع أوسلو، سارت الأمور بالفعل ضمن الأفق الذی أسس له الاتفاق. اعتقلت عناصر تنظیمات المقاومة بالعشرات، وعندما استدعی الأمر فی مطلع 1996، اعتقلت هذه العناصر بالآلاف. تعرض المئات للتعذیب، ومات کثیرون من کافة الخلفیات فی غرف التعذیب. زیفت الانتخابات التشریعیة الأولی، واشتریت قیادات وکتل سیاسیة، من فتح ومن التنظیمات الأخری، بالأموال والمواقع والمناصب. نشرت قیم وسلوکیات جدیدة فی مجتمعات الضفة والقطاع المحافظة؛ وشجع الفساد علی نطاق واسع، داخل جسم السلطة وخارجها. وفی الوقت نفسه، کانت معاهدات سلام جدیدة توقع مع دول عربیة، وعندما لم یکن التوصل إلی معاهدة سلام ممکناً، فتحت السفارات أو القنصلیات أو الممثلیات الإسرائیلیة مختلفة الاهتمامات، بمبارکة فلسطینیة، بل وأصبح فلسطینیون کبار شرکاء أعمال واستثمارات عربیة وإسرائیلیة مشترکة. وعلی خلفیة من مناخ السلام والتطبیع العربی ـ الإسرائیلی، اندفعت دول إسلامیة رئیسیة لتأسیس علاقات دبلوماسیة بالدولة العبریة، أو تعزیز علاقات قائمة.

بید أن التصور الذی وضعه أوسلو لمستقبل العلاقة بین سلطة الحکم الذاتی والدولة العبریة تعثر فی النهایة، وکان السبب الرئیسی وراء تعثره هو شخص واحد فقط فی قیادة سلطة الحکم الذاتی: یاسر عرفات.

والحقیقة أن عرفات لم یعمل من أجل نقض کلی أو جذری لأوسلو؛ کل ما أراده عرفات أن یقدم الإسرائیلیون للجانب الفلسطینی ما یکفی لتسویغ السلام والشراکة کما تصورهما أوسلو. ولکن الإسرائیلیین، وکما هم دائماً، أرادوا استسلاماً فلسطینیاً مطلقاً. الأغلبیة العظمی من قیادات السلطة الأمنیة والسیاسیة خالفت عرفات نهجه. عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطینیة الثانیة فی خریف 2000، وبدا واضحاً أن عرفات قد انحاز إلی معسکر الانتفاضة، لم یجد حوله إلا قلة من الذین منحهم أوسلو مواقع السلطة والحکم والثروة. وبتصاعد وتیرة الانتفاضة، تصاعدت المؤامرات علی عرفات؛ وما أن فرض علیه الحصار العسکری الإسرائیلی فی مقره برام الله، حتی أخذ مساعدوه ورفاقه السابقون فی العمل علی نزع سلطاته وتحویله إلی مجرد رمز. وعندما توفی عرفات فی ظروف غامضة فی المشفی الفرنسی، صمت الرفاق صمت المتواطئ.

بخروج عرفات من الساحة السیاسیة، أصبح من الممکن العودة من جدید إلى تصور وعقد ومناخ الشراکة. ولکن بروز حماس والجهاد وکتائب الأقصی خلال سنوات الانتفاضة، والقاعدة الشعبیة الواسعة الملتفة حول نهج المقاومة، طرح مشکلة أخرى أمام اعادة بناء علاقات الشراکة. والمؤکد أن الرئیس عباس لم یکن یرغب فی عقد انتخابات فلسطینیة تشریعیة قبل سنتین، ولکن الضغوط الأمریکیة، التی بنیت على تقدیرات أکادیمیة فلسطینیة ساذجة، صدیقة لإدارة بوش، أجبرت قیادة السلطة على عقد الانتخابات، التی انتهت کما هو معروف بفوز حماس. وبذلک أصبحت المشکلة أمام معسکر الشراکة أکثر تعقیداً؛ وقد حاول هؤلاء کل الطرق والوسائل خلال العامین الماضیین للتخلص من حماس، إلى أن وصلت الأمور إلی الصدام الکبیر فی قطاع غزة فی الصیف الماضی، ومن ثم الانقسام السیاسی والجغرافی للضفة عن القطاع.

خیار قیادة الضفة هو خیار تصور وقیم ومفاهیم أوسلو، هو خیار الشراکة الکاملة مع الدولة العبریة، سیاسیاً واقتصادیاً وأمنیاً. وهذا هو جوهر السیاسات التی تنفذها وزارة فیاض فی الضفة الغربیة، وجوهر موقف قیادة رام الله مما یجری ضد قطاع غزة. ومن العبث البحث عن تفسیرات أو مبررات أخرى . والانقسام الفلسطینی الواقع الیوم لیس انقساماً حول هدنة أو تفاوض (کما یظن بعض السذج فی حماس من دعاة التفاوض)، ولکنه انقسام حول خیار الشراکة وتبعاته. وهذه الدماء التی تسفک فی قطاع غزة بلا حساب، یراد منها إجبار حماس وقوى المقاومة الفلسطینیة الأخرى على التسلیم بما سلم به معسکر أوسلو.

على المستوی العربی، یأخذ الانقسام السیاسی صورة ومصطلحات مختلفة، ولکنه لا یختلف فی جوهره عن الانقسام الفلسطینی. عدد من أنظمة الدول العربیة الرئیسیة لم یعد منذ زمن یعتبر القضیة الفلسطینیة مسؤولیة عربیة، بل شأنا فلسطینیا؛ والدولة العبریة، من وجهة نظر هؤلاء، شریک اقتصادی وسیاحی، بوابة سیاسیة إلى دوائر واشنطن النافذة، وربما حتی حلیف استراتیجی إن وصل الخلاف مع إیران مستوی الصراع الساخن. والدور العربی هو فی أقصی درجاته دور الوسیط بین الفلسطینیین، من جهة، والإسرائیلیین والأمریکیین، من جهة أخرى. عدد آخر من الأنظمة العربیة یقف موقف المتفرج، متذرعاً بتأثیره الهامشی أو بعده الجغرافی عن الساحة المباشرة للمسألة الفلسطینیة. وقلة فقط من الأنظمة العربیة لا یزال یرى الارتباط الوثیق بین الصراع على فلسطین وأمنه الوطنی، والأمن العربی ککل. لا ترغب هذه القلة فی الذهاب إلى الحرب، وهی تدرک عواقب الحرب فی ظل میزان قوى دولی مختل، ولکنها تسعی للحفاظ علی الحد الأدنی من المصالح الفلسطینیة والعربیة. ولکن حتی هذا الموقف لا یقبله معسکر فک الارتباط بین الدولة العربیة القطریة والمسألة الفلسطینیة. الانقسام العربی حول لبنان، لاسیما حول حرب صیف 2006، حول حکومة غزة وحکومة رام الله، حول الحصار المفروض على قطاع غزة والحدود المصریة ـ الفلسطینیة المغلقة أمام أهالی القطاع، حول استمرار الاحتلال الامریکی للعراق، وصمت بعض من العواصم العربیة المدوی إزاء الاعتداء الإسرائیلی المتصاعد علی قطاع غزة، کلها انعکاسات لانقسام أعمق حول الموقف من مسألة الصراع الأساسیة على فلسطین.

فی مطلع القرن الحادی والعشرین، وعدید العرب قد تجاوز المئات الثلاثة من الملایین، ودولهم أکثر من عشرین، یقف فلسطینیو قطاع غزة فی مواجهة هجمة إسرائیلیة لا رادع لها إلا ثبات هذه الثلة من العرب على موقفها. ثمة سماء ملبدة فی المجال العربی، ثمة موت ونذر حرب وبوادر انفجارات هائلة فی الأفق؛ فلیتحسس العرب رؤوسهم.

( للکاتب والباحث العربی فی التاریخ الحدیث  الدکتور بشیر موسی نافع )

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 142718







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)