الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

«یهودیة الدولة» و«هولوکوستیة الدولة» و«مَرَضِیّة الدولة»

  تطالب إسرائیل العالم، وخصوصا من الفلسطینیین، الاعتراف بیهودیتها. یدور الحدیث وکأن هذه هى المعضلة الواقفة أمام تقدم عملیة السلام بین الأطراف فى المنطقة. والقوانین الإسرائیلیة الأساسیة تعلن بأنها سُنَّت للحفاظ على "یهودیة ودیمقراطیة" الدولة.

الأبعاد السیاسیة لمفهوم "یهودیة الدولة" کثیرة، وأهمها عدم ارجاع اللاجئین الفلسطینیین والاعتراف بحدود إسرائیل تتجاوز قرار الشرعیة القضائیة الدولیة، التى وفقاً لها أقیمت دولة إسرائیل – قرار التقسیم 181 الذى أقر ما یقارب 45% من فلسطین التاریخیة کدولة عربیة و54% کدولة اسرائیل.

واحتدم النقاش والصراع حول قبول هذا المفهوم والمصطلح بدءا منذ مؤتمر بازل فى سنة 1897 وحتى أیامنا هذه فى مؤتمر انابولیس الاخیر.

فى إحدى موجات هذا النقاش الابدى کان أرییل شارون، ایاه رئیس الحکومة الاسرائیلیة السابق، قد طرح موقف اسرائیل من هذا المعضلة فى لقاء رسمى حضَّر لاجتماع العقبة سنة 2003، أمام المشارکین من بینهم موفاز ودحلان‏،‏ وولیم بیرنز المبعوث الأمریکى ومعه مندوب جورج تینیت والقنصل الأمریکى فى تل أبیب‏.‏ وموقف شارون هو الذى یمثل بشکل واضح تاریخ الحرکة الصهیونیة على کافة تنظیماتها وأحزابها تصرفاتها ورغباتها وهو الذى من الممکن للفلسطینیین ان یتوقعوه من أى حزب حاکم فى إسرائیل والحکومة الإسرائیلیة الحالیة.

قال شارون بإن الحل الذى نقبله ولا نقبل سواه هو أن یکون الأردن وطن الفلسطینیین‏،‏ وبإمکان أى فلسطینى فى أى مکان کان‏،‏ بما فى ذلک عرب "إسرائیل" التوجه إلى الأردن وإقامة دولتهم فیه‏.‏ وأردف قائلاً‏:‏ هذا هو الحل العملى الذى یوفر علینا وعلى الفلسطینیین العذابات وعدم الاستقرار‏.‏ فإسرائیل من البحر إلى النهر لن تکون إلا دولة یهودیة نقیة‏.‏ وقد حملنا وزیر السیاحة اقتراحاً یقضى بإسکان أهالى الضفة الغربیة وقطاع غزة فى العراق وتجنیسهم بالجنسیة العراقیة‏،‏ للإسهام فى عملیة تحقیق التوازن بین الشیعة والسنة‏.‏

ورکز شارون فى نهایة اللقاء على طلبه أن یعلم عباس وکل المسئولین الأمریکیین أن دولة "إسرائیل" هى دولة یهودیة نقیة‏،‏ وهى للیهود فى "إسرائیل" وکل العالم‏.‏ وأعلن أنه لم یقبل الذهاب إلى العقبة إلا بعد أن یعلن الأمریکیون أن "إسرائیل" دولة یهودیة‏.‏ وقد کان بوش قد أعلن بملء الفم فى العقبة مصطلح "دولة یهودیة" وأضاف "تنبض بالحیاة‏".‏

کان شارون قد طالب حینها محمود عباس أن یعلق أن "إسرائیل" دولة یهودیة لکن عباس فى مؤتمر العقبة لم یذکر دولة یهودیة وإنما ذکر عذابات الیهود على مر التاریخ.

جواب الفلسطینیین على مطلب یهودیة الدولة یعکس بحق الاستغراب من جدوى هذا المطلب وتلخص فى قول محمود عباس المعافى الطبیعى "تستطیع إسرائیل أن تسمى نفسها بما ترید وهذا لیس شأننا".

فى بواطن الأمور وجوهر تکون الوعى والذاکرة الجماعیة والهویة لدى الیهود والغرب یکمن الجواب على هذا المطلب. ومن وجهة نظر مراقب موضوعى نستطیع أن نجد بأن مطلب إسرائیل لیهودیة الدولة إنما یعکس جذریة شعورهم بفشل المشروع الصهیونی! وخوفهم من کشف الحقیقة بأن العالم سیکشف القوى الحقیقیة الواقفة وراء إسرائیل حین سیلزم الحرکة الصهیونیة للوقوف أمام المعضلة التاریخیة من جدوى المشروع الصهیونى لحل "مشکلة الیهود فى العالم" فى صیغة السؤال: هل تجسد إسرائیل تحقیق البرنامج الصهیونى برغبة الیهود لتنفیذ هذا البرنامج أم أن إسرائیل تشکل محصلة "قوى محرقة الهولوکوست" فى بناء الدولة والحفاظ علیها، أو مثلما قال القائد موشیه فایغلین الیمینى المتطرف الذى یمثل المستوطنین فى حزب اللیکود "بأن هتلر هو الذى بنى دولة إسرائیل" وبالتالى إظهار الإسرائیلیین وکأنهم یلائمون الوصف الذى ورد فى أشعار الشاعر الصهیونى حاییم نحمان بیالک مخاطب الیهود:

"تجمهرتم فى المقابر

لتنبشوا رقاة أجدادکم

وعظام اخوتکم المقدسة

لتملؤوا بها حقائب السفر

على أکتافکم حملتوها

منطلقین فى الطرقات

لتتقایضوا بتجارتها

بکل الأسواق."

مما یدل بأن إسرائیل لا تمثل ما تمثله المعجزات وفقاً لمخیلة الرئیس الفرنسى نیقولاى سارکوزى والمتعجرفین من قادة الحرکات الصهیونیة.

ولذلک یأتى الطلب الإسرائیلى من الفلسطینیین بأن یعترفوا بأن إسرائیل هى دولة برنامج الحرکة الصهیونیة ولیس تأثیر برنامج هتلر فى بناء دولتهم.

وتعود الکرة فى هذه الأیام لتداول مسألة "یهودیة الدولة" أمام مسألة "هولوکوستیة الدولة".

ولنلاحظ هنا بأن الصراع الحقیقى المسیطر على سایکولوجیة الإسرائیلیین والغرب هو لیس بین "یهودیة الدولة" وبین "فلسطینیة الدولة" أو "دولة کل مواطنیها" بل بین "یهودیة الدولة و"هولوکوستیة الدولة".

نرى أن العالم الغربى بمجمله یقف وراء إسرائیل ویدعمها علنا أو بالسکوت لهذا المطلب. ولهذا علینا أن نعود إلى تحلیل الأسس التى تقف علیها هذه الوقاحة التاریخیة فى الطلب من شعب فلسطین اللاجئین أن یبقى فى خیامه لنجد فى نهایة المطاف بأنهم یبنون منطقهم على أسس هى أوهى من خیوط العنکبوت فیما إذا حللنا ترکیبة منطقهم هم ومبنى القوى الساندة له.

هویة الدولة – القوى الداعمة

فى 2-08-2006 نشر آکرت فون-کالدان وهو مستشار للمستشارة الألمانیة انجیلا میریکل والمسؤول على السیاسة الخارجیة فى کتلة الأحزاب المحافظة فى البوندیستاغ الألمانى مقالا فى جریدة یدیعوت أحرونوت تحت عنوان "الالتزام بجانب إسرائیل" کتب فیه ما یوضح الموقف الألمانى من مسألة یهودیة الدولة :" الإلتزام تجاه حق إسرائیل فى الوجود هو أحد المبادئ الغیر مکتوبة للدستور الألمانی. لإسرائیل الحق فى الحفاظ على هویتها کدولة یهودیة ولمواطنیها الحق للعیش ضمن حدود آمنة...".

فى 29-10-2006 نشر فولکار کاودر الذى یشغل منصب رئیس الکتلة الأکبر فى البوندیستاغ الألمانى کتلة المسیحیین الدیمقراطیین مقالا فى نفس الجریدة وذلک خلال زیارته لإسرائیل کتب فیه: "على ضوء مسؤولیة ألمانیا التاریخیة - أخلاقیة عن محرقة الهولوکوست یتوجب على مبدأ حق وجود دولة إسرائیل أن یبقى أساسى الذى لا یمکن أن یتزحزح فى السیاسة الألمانیة. لکن الحلف الألمانى الإسرائیلى لا یرتکز فقط على المسؤولیة التاریخیة...".

وفى 07-11-2007 یعلن الرئیس الفرنسى فى واشنطن أمام مدعوّى "اللجنة الیهودیة الأمریکیة" التى منحته وسام "النور لغیر الیهود" بأن "أمن إسرائیل قریب لقلبی.. ودائما أظن بأنها معجزة.. وأن على العالم أن یضمن أمن إسرائیل وستکون فرنسا التى هى فى حلف مع الولایات المتحدة وستحارب لأجل أمن اسرائیل فى أول الصفوف وأن حل مشکلة اللاجئین یجب أن تنحصر فى حدود الدولة الفلسطینیة".

فى 25-10-2007 نقرأ فى موقع یدیعوت أحرونوت بأن الرئیس الفرنسى یمنح فى قصر الآیلیزیه وسام "فارس حرس کتائب الکرامة" کجائزة تقدیر خاصة باسم الرئاسة الفرنسیة لرئیس متحف المحرقة فى القدس الغربیة السید مئیر شلو لما یقوم به المتحف من نشر المعلومات حول المحرقة. ویخبرنا الموقع کذلک بأن سارکوزى کان قد زار التحف وأعلن فى أحد جولاته الإنتخابیة بأنه زار المتحف فى القدس الغربیة ومنذ ذلک الحین قلبت حیاته رأسا على عقب" وزاد وفقا لصحیفة هآرتس بإنها لمعجزة أن تکون دولة کهذه قد استطاعت أن تولد على أنقاض بقایا الشعب الیهودى المنقرض. وأضاف بإن ولادة إسرائیل هى الحدث الأکثر أهمیة فى القرن العشرین!

فى 3-09-2004 استطعنا أن نقرأ بأن الرئیس بوش یعلن لأحد القادة الیهود: "نعم اعرف الکل، قال لی. عملیات المذابح والمحرقة. لکننى اقول لک لا تقلق". بمعنى أنه سیقوم بالحفاظ على أمن إسرائیل بسبب المحرقة الأمر الذى نقرأه بتاریخ 17/12/2004 على لسان یوشکاه فیشر الوزیر الألمانى السابق فى وزارة الخارجیة حین أعلن لأهود أولمرط فى برلین: "استمرار الاحتلال سیؤدى بإسرائیل إلى مصیبة دیموغرافیة وإلى إنحلال أخلاقی، ألمانیا ستستمر فى دعم إسرائیل بسبب المحرقة".

لا یمکن أن نفصل طلب الإسرائیلیین والغرب الداعم لإسرائیل إلا بما یقولونه هم ویتداولونه بین أنفسهم بالاعتراف بیهودیة الدولة المبنى کله على واقعة "محرقة الهولوکست" ولربما نکون صادقین فیما إذا اقترحنا علیهم الاعتراف بإسرائیل بمصطلح "دولة محرقة الهولوکوست" ولیس کدولة یهودیة أو وطن قومى للیهود.

فلذلک علینا أن نخوض فى تحلیل معضلة "نقاش الهویات" من جواهره وأبعاده الجذریة وأبعاده السیاسیة.

فى کتابه "لننتصر على هتلر" کتب أبراهام بورغ الذى شغل منصب رئیس الکنیست ورئیس الوکالة الیهودیة ووصل لینتخب کرئیس حزب العمل الإسرائیلی، فقد حلل واستنبط بأن 90% من مرکبات هویة الإسرائیلیین تعتمد على محرقة الهولوکوست وإن إسرائیل لذلک یجب أن تعتبر "دولة هولوکوستیة" ولیس "دولة یهودیة".

وفى تحلیلاته التى اعتمدت تاریخ والده الذى شغل منصب وزیر منذ قیام الدولة وکان نشیطا سیاسیا قبل قیام الدولة والحرب العالمیة الثانیة والمحرقة وهتلر واصلا إلى الاستنتاج بأن دولة إسرائیل ولا بأى شکل من الأشکال تشکل نتاج المشروع الصهیونى التى أسماها "بالصهیونیة الکارثیة" ولا تعتمد على الیهودیة بل تعتمد على أفعال هتلر ضد الیهود. ولذلک یستطیع المرء أن یدعى بتحلیل منطق بورغ بأنها "دولة هتلریة" بمعنى أن تصرف الإسرائیلیین والغرب مبنى کله على أفعال هتلر من باب مقاومتهم لها ومن باب تأثیره على هویتهم.

هذا النقاش والتحلیل نجده عند مفکر کبیر آخر من الإسرائیلیین. لقد شرح مفهوم تأثر الیهود بالأعمال البشعة ضدهم وهو الکاتب الیهودى أ. ب. یهوشوع فى مقالة له حیث ینهیها کالتالی: "یتجلى شیء واحد؛ فى ربط العلاقات الخاصة والمرکبة بین دین معین وقومیة معینة، تختبئ معضلة الهویة الیهودیة، بما فى ذلک شکل وإمکانیة استمرار کینونتها، وکذلک معضلة علاقاتها المتبادلة مع محیطها الغریب.

کل فکرة لتصحیح الأمر یجب أن تبدأ من هناک" " نشرت فى مجلة الباییم" . لماذا یعتبر الکاتب أن ارتباط مشکلة هویة الیهود مع محیطها الغریب هو أمر مهم؟ هذا لأنه یعتبر أن "المصیر الیهودى المشترک" الذى یتمسک به الیهود وکأنه مرساة الهویة، یکون فى بعض الأحیان رغبة أکثر منه حقیقة. لذلک وُلدت علاقة خاصة تجاه اللاسامیة – من ناحیة، غضب تجاهها وخوف منها، ومن ناحیة أخرى انجذاب قوى لتداولها وتضخیمها لکى تُستعمل کالأسمنت المقوى فى بناء الهویة الیهودیة اللزجة المتسربة".

وهنا یلیق بالأمر أن نعود إلى والد الصهیونیة ثیودور هرتسل الذى کان قد بنى کل نظریته لبناء وطن قومى للیهود على الأسس المشروحة أعلاه. ففى کتابه "دولة الیهود" الذى شرح فیه کل طرحه، والذى لسببه فقدنا نحن الفلسطینیون وطننا، وفى الجملة الثانیة من المقدمة یکشف لنا أن "صوت الصراخ ضد الیهود "اللاسامیة" یعلو من أول العالم إلى آخره، وعلى خلفیة ضجیج هذا الصراخ تفیق الفکرة النائمة". ویکمل هرتسل فکرته قائلاً: "أننى أرمز، بتواضع، إلى أسنان وعجلات الماکینة التى ستُبْنى "لبناء دولة الیهود"... الأمر المهم جدًا هو القوة التى ستحرک هذا المحرک. وهذه القوة ما هی؟ إنها ضائقة الیهود. من سیتجرأ على أن ینفى هذه الحقیقة؟ سنبحث هذا الأمر فى الفصل الذى یتداول أمر اللاسامیة".

لا یلزمنا أن نفسر الماء بالماء، فهرتسل قالها على الملأ: اللاسامیة المنتهجة ضد الیهود هى القوة المحرکة لدفع الیهود لتنفیذ مشروع لبناء الوطن القومى للیهود.

الأمر واضح فى شرح دور اللاسامیة والعنف ضد الیهود فى رسم هویتهم وبذلک سیاستهم تجاه الفلسطینیین ومطالبتهم بالاعتراف ب" یهودیة الدولة".

یتوضح الأمر حین نقرأ فى مقابلة أجراها الصحافى الإسرائیلى أطیله شومبلیبى مع رئیسة حزب میرتس وعضو الکنیست الإسرائیلى السابقة شولامیت ألونی، نشر فى موقع "یدیعوت أحرونوت" الألکترونى -واى نیت- فى تاریخ 18/3/2004، تذکر ألونى القرّاء بأن "ناحوم برنیاع "الصحفى الإسرائیلی" نشر فى صحیفة یدیعوت أحرونوت أن شارون قال أکثر من مرة إن "الدم الیهودى هو اللاصق الدبق الأکثر نجاعةً للحصول على اتفاق وتعاضد قومى بین الیهود. عندما یقل الإرهاب، تطفو الأسئلة، والإنتقادات تفیض، ویتعاظم التمرد. لا جدوى من إرهاب "فلسطینی" لا یُنَفَّذ، "انه یخلق" فقط باقات من الأشواک."

إن ما یؤکده لنا المؤرخ الإسرائیلى توم سیغف فى سلسلة کتبه حول قیام دولة اسرائیل وما سبقها وخاصة کتاب الملیون السابع الذى أثبت فیه بأن المحرقة هى التى بنت دولة إسرائیل ولولاها لما قامت هذه الدولة الأمر الذى یؤکده أبراهام بورغ وبأن الهویة الإسرائیلیة هى هویة "محرقاویة" ولیست "یهودیة".

نستطیع أن نعود بأذهاننا إلى نصوص الکاتب عاموس عوز فى کتابه "على مدرجات جبل برکانی" حین وصف الیهود أثناء تسلمه جائزة "غوته " الألمانیة وکأن جرحا عمیقا فى هویتهم بسبب المحرقة لا یندمل ولا یمکن أن یندمل". والجرح یولد الألم الذى یحدد وفقا للعلوم الطبیة بأنه یوجه العقل لیترکز تفکیره بالأم ومن خلال هذا الترکیز على الألم الفرید من نوعه کألم الهولوکوست یجعل من إسرائیل وقادتها یفقدون بترکیزهم على آلام الهولوکوست قدرتهم على ارتباطهم بطبیعة الحیاة الانسانیة لیخضعوا فى نهایة الأمر للآلام التى خلقها هتلر ومن هناک خضوعهم لها. الجرح الذى لا یندمل یعیدنا إلى الوصف لهذا الجرح وتأثیره على الهویة الإسرائیلیة والوضع الفسیولوجى والسایکولوجى لأبناء هذه "الدولة" فنستطیع أن نقرأ حول رد فعل السید إیان ستافانس فى نقاشه لمحاضرة ألقاها البروفیسور الفلسطینى ندیم روحانا حول موضوع المحرقة فى 18-20 ابریل-نیسان 2001 فى مؤتمر أعدته جامعة نورثایستین – بوسطون فیقول: "أحییک "یا ندیم" على وجودک هنا وعلى صدقک وصراحتک... ولربما وأکثر من أى شیء آخر، أحیى "عاقدى المؤتمر" على عدم دعوتهم لأحد الناجین من المحرقة. أحد الأقوال الشهیرة للسید "إیرفین هاو" "فیما إذا تعرضنا لذکرى الهولوکوست نضع أنفسنا فى وضع صعب وحدودیْ. لا نستطیع أن ننتقدها کأدبیات. علینا الإفتراض بأنها جیدة وعندها نکون کالمشلولین."

الأمر الذى یؤکده کل العلماء فى العالم وخاصة الإسرائیلیین بأن العقل الإنسانى غیر قادر على استیعاب ضخامة وبشاعة وفرادة الجرائم التى مورست ضد الیهود – ابناء عمنا السامیین – فى اوروبا.

إذا نحن أمام "حالة مرضیة" التى تشیر لنا بأن تحلیل هویة الإسرائیلى لیهودیة الدولة ما هى إلى تعبیر عن عجزه تحقیق هذا المطلب بذاته ولأنه لا یؤمن بأنه یتصرف وفقا لکونه "دولة یهودیة" فهو یرى بأن العالم یتصرف تجاهه کالمشلولین عقلیا وفقا لکونه ناجى من المحرقة.

نستطیع ان نتخیل حالة الإسرائیلیین الیوم بحالة الیهود حین طلب الربّ، من موسى علیه السلام مخاطباً بنى إسرائیل لإخراجهم من مصر بقوله: "فَتَعْلَمُونَ أَنّیِ أنَا الرَّبُّ إِلهُکُم الَّذِى یُخْرِجُکُمْ مِنْ تَحْتِ أَثـْقَالِ الْمِصْرِیِّینَ... فَکَّلَمَ مُوسَى هَکَذَا بَنِى إِسْرَائِیل وَلَکِنْ لَمْ یَسْمَعُوا لِمُوسَى مِنْ صِغَرِ النَفْسِ وَمِنْ الْعُبُودِیَّةِ الْقَاسِیَةِ" "خروج 6".

هذه هى حالة الغرب والإسرائیلیین عند تفکیرهم بهویتهم، هى حالة "صِغَرِ النَفْسِ" وتحت ضغط "الْعُبُودِیَّةِ الْقَاسِیَةِ" التى خّلَّفَها هتلر وعلى هذه الخلفیة یأتى مطلب "یهودیة الدولة". وکأنهم بحاجة الى "قسم مغلق فى مشفى للامراض البوست تراوماتة" "للمجانین".

وکان الشاعر الفلسطینى أحمد فوزى ابو بکر قد وصف حالة الإسرائیلى فى قصیدته "للمعتوه القابع غرب الجدار" بعد زیارته لحاجز قلندیا بین القدس ورام الله:

لِلْمعتوهِ القابع غرب الجدار

یدان من حدید

ذاکرةٌ من نارْ

أوسمةٌ من عارْ

عینان مفقوءتان

ولیلٌ قاتمٌ مدى ...

... وغرفٌ من قیءٍ ودخانٍ لا یطیر

لیقبع المعتوه فى قسمه المحجور

فى مشفى الشاطئ المسکون

بشبح المنون

لیقبع المعتوه

فى ذاکرةٍ مقیتة الوجوه

حضورها یحطّم الأعصاب

ییبس الأفواه من رمق اللعاب".

لمواجهة ذاکرة من نوع المحرقة یتوجب علینا دراسة تجربة البروفسور یان باستیناس، فى جامعة لایدن- هولندا، بمعالجة مرضاه الناجین من الهولوکوست فى سنوات الخمسینات من القرن الماضى والذین عانوا مما یسمى "أعراض مخیمات الترکیز"، والذین وصفهم البروفسور بأنهم کالسیارة السائرة التى یراها الناس بأنها جیدة – لکنها للأسف تبلى محرکها وتدمره".

فى ذلک العلاج استعمل البروفسور أسلوب علاج بواسطة "تزویدهم بحقن المخدر "أل. سی. دی." دفعهم بواسطته إلى الاستیقاظ وشحذ تفکیرهم عن طریق مجابهتهم المباشرة لعنف أهوال ماضیهم، وذلک لیفرض علیهم أن یعیشوا مرة أخرى أحداث تعذیبهم.

 

المُخدر یُدخل المریض فى حالة "ترانس". عند وجود المریض تحت تأثیر المخدر "إل سى دی" یبدأ بالحدیث. یتم تسجیل حدیثه بواسطة مسجّل الکترونی، وفى بعض الأحیان یُصوَر بالفیدیو. بعدها یُطلب من المریض أن یُحلل ما ورد فى أشرطة التسجیل.

کان المریض، فى معظم الحالات، بحاجة الى الخضوع لعلاج من هذا النوع خمس مرات لیتمکن من أن یحیا ویواصل مسیرة حیاته بمرافقة الأحداث التراوماتیة التى مر بها أثناء المحرقة دون "أن یُبلى المحرک".

رافق العلاج الکثیر من المشاکل الأخلاقیة الطبیة السیاسیة والقانونیة. وقد حصل باستیناس على تأشیرة خاصة لاستعمال أسلوب علاجه بعد أن بعث بعض الناجین من الهولوکوست عریضة لملکتهم".

بناء على ذلک یتوجب علینا نحن الفلسطینیین أن نتعلم أسلوب العلاج هذا لنستطیع التعامل مع الغرب، ولیتسنى لنا مواجهة مطلب "یهودیة الدولة" مواجهة حقیقیة تعتمد الاعتراف بحقیقة المحرقة والوقوف بحزم ضد نافى المحرقة وضد النازیین وورثتهم.

ولا أکون مخطئا إذا ما اقترحت على الإسرائیلیین وساسة الغرب کلهم وأولهم سارکوزى استعمال أسلوب العلاج بواسطة تزویدهم بالأل سى دی، لندفعهم بواسطته إلى الاستیقاظ وشحذ تفکیرهم لنواجههم بأهوال المحرقة، وألاّ نترکهم یتخذون القرارات بشأن النکبة وإسرائیل وهم فى حالة إنکار وعدم فهم لأهوال المحرقة.

وإذا کان الأمر کذلک فإن تأکید الفلسطینیین على أن "دولة" إسرائیل تتصرف وفقا لکونها "دولة المحرقة" أو "دولة محرقاویة" والتى تتصرف وفقا لکون أبنائها یعیشون حالة بوست تراوماتیة فریدة من نوعها کفرادة المحرقة لم یستطیعوا أن یتجبروا علیها إلى الآن ومن هنا نستطیع أن نکتشف سبب الهوس فى هذا الطلب من "شعب لاجئین" الاعتراف بهم "کدولة یهودیة" والذى إن حللناه نکون قد توصلنا إلى الاستنتاج بأن الخطر الذى یحدق بالإسرائیلیین من عدم الاعتراف بهم کدولة یهودیة إنما هو الحقیقة بأن العالم سیعترف بهم کدولة محرقة ولیس کوطن قومى للیهود وبالتالى فشل المشروع الصهیونى فشلا جذریا والذى یعنى بأن إسرائیل لا یمکن أن تعتبر "دولة" بل "مشفاً للأمراض البوست تراوماتیة" فى أعقاب المحرقة أو بتعریف اخر "بیتاً للعزاء على محرقة الستة ملایین" بتأکیدنا بأن النازیین قاموا بأبشع الجرائم الفریدة من نوعها ضد الیهود فى أوروبا. هذا ما کان الشاعر محمود درویش قد لاحظه واتى علیه بنصوص کثیرة قائلاً: "عقلیة الغیتو الإسرائیلیة تقبض على هویتها المضغوطة کما تقبض على قنبلة وتخشى من اندماج محتمل بین اللا عادى والعادى وتغلق الذات على الذات خوفا من هواء الآخرین." الذی: "على شرفة فى مشفى الأمراض النفسیة تطل على آثار دیر یاسین، یجلس ملک إسرائیل الجدید ویهذی: هنا، هنا کانت بدایة معجزتی." والجبل المطل على دیر یاسین فى القدس یحوى شرفة کبیرة بنیت سنة 2005 بتکلفة 60 ملیون دولار تسمى "متحف المحرقة" هذا الذى أسماه محمود درویش "دَمٌ لا یُجَفَّفُهُ اللیلُ" یملأ المحیطات السبعة. حین خاطب الإسرائیلى قائلا:

إلى قاتل:

لو تأمَّلتَ وَجه الضحیّةْ

وفکَرْت، کُنْتَ تذکَّرتَ أُمَّکَ فى غُرْفَةِ

الغازِ، کُنْتَ تحرَّرتَ من حکمة البندقیَةْ

وغیَّرت رَأْیَکَ: ما هکذا تُستَعَادُ الهُویَّة!"

فالإسرائیلى فى هویة "غرفة الغاز" کما وصفها محمود درویش وأکدها أبراهام بورغ وعاموس عوز والتوراة وسارکوزى وبوش ومیرکیل وهم خائفون من حقیقتها وعلینا مواجهتهم بالحقیقة بأن دولتهم انما هو "دولة محرقة فى حالة مرضیة بوست تراوماتیة" ولیس "دولة یهودیة" وعلیهم التصرف هم وفقا لذلک لیس کونها معجزة کما التاریخ الحدیث وصفها سارکوزى بل کما ینص الوصف الذى کتبه شاعر الحرکة الصهیونیة حاییم نحمان بیالک "أعلاه" الذى یصف العملیة کشحاذ قطع یده لیطلب الصدقات:

تجمعتم فى المقابر

لتنبشوا رفات أجدادکم

وعظام إخوتکم المقدسة

لتملؤوا بها حقائب السفر

على أکتافکم حملتوها

منطلقین فى الطرقات

لتتقایضوا بتجارتها

بکل الأسواق.

هذه هى هویة إسرائیل وهى لیست معجزة ولیست یهودیة والأجدى بنا نحن العرب ان ندفعهم الى فهم هویتهم الحقیقیة "دولة محرقة الهولوکوست" لیفهموا بأننا فیما إذا اعترفنا کفلسطینیین "بیهودیة الدولة" وأقنعنا العالم کله کذلک لن یشکل هذا حلاً للمعضلة الأبدیة لفشلاویة المشروع الصهیونى وعدم جدواه لحل مشکلة وهمیة للیهود فى ضرورة بناء وطن قومى لهم أثبت التاریخ بأن یهود العالم لا یریدونه.

( المقال للمحام الفلسطینى خالد کساب محامید من اللجون المهجرة ــ الناصرة )

ن/25

 


| رمز الموضوع: 142645







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)