الاتّحاد الأوروبی یدخل على خط التواطؤ المفضوح
یتعاظم الیقین یوما بعد یوم بأن القضیة الفلسطینیة دخلت المنعرج الأخیر نحو الضیاع الذی قد یتجسّد فی "حلّ" شکلی وتلفیقی تفرضه اسرائیل وحلفاؤها یطبق تصورات الدولة العبریة ویخدم مخططاتها.. ویؤسس لذلک الیقین على الأقل معطیان متناقضان: حرکیة الطرف الآخر وتنویعه وسائل الضغط السیاسیة والمادیة على العرب والفلسطینیین، فی مقابل سلبیة العرب وجزء هام من الفلسطینیین فی مواقع السلطة والقیادة واکتفائهم بالمواقف اللفظیة التی سرعان ما یبادرون إلى أفعال تناقضها على غرار ما أقدمت علیه الجامعة العربیة مؤخرا من مبارکة للعودة إلى المفاوضات دون أن یلوح على الأرض أی لین فی الموقف الاسرائیلی بشأن مسألة الاستیطان، ولا أی شکل من أشکال الضمانات الأمریکیة.
مناسبة هذا الکلام الموقف الأوروبی الخطیر الذی صدر مؤخرا عن کریستیان بیرجر ممثل الاتحاد الأوروبی فی القدس المحتلة والذی أشار إلى نیة الاتحاد إعادة التفکیر فی حجم المساعدات الممنوحة للفلسطینیین وقیمتها 370 ملیون دولار فی المستقبل إذا لم یتم إحراز أی تقدم باتجاه السلام قریبا.
ومأتى خطورة مثل هذا الموقف أنه یحمّل الفلسطینیین –وهم الطرف الأضعف فی معادلة ما یسمى بالسلام- مسؤولیة التقدم نحو تحقیقه وکأنهم هم من بادروا إلى الحرب والاحتلال ویمتلکون أعتى الترسانات العسکریة وأقوى الجیوش فی المنطقة.
وإذا کان حدیث بیرجر قد تضمن کلاما عن "الدولة الفلسطینیة" -وهی عبارة مغریة- متسائلا "إذا لم یتمخض الأمر فی النهایة عن دولة.. فما الذی نفعله إذن بالمال؟"، فإن ذلک لا ینقص من خطورته لأن الحدیث عن دولة فی المطلق دون تحدید لعاصمتها والأرض التی ستقوم علیها والسکان الذین سیعمرونها والسلاح الذی سیُسمح لها بامتلاکه والصلاحیات التی ستمارسها، کل ذلک یجعله مجرد کلام لتسکین التوترات متماهیا مع الکلام الاسرائیلی الذی یروّج من حین لآخر عن "دولة فلسطینیة" مؤقتة الحدود، منزوعة السلاح، لیس لها صلاحیات إدارة السیاسة الخارجیة، أی أن تکون باختصار دولة بصلاحیات "محافظة" إسرائیلیة یمارس رئیسها/محافظها الفلسطینی مسؤولیة حفظ الأمن وإدارة الشأن المحلی.
هذا أحد الخیارات التی تدفع بها إسرائیل مستفیدة من استفرادها بالفلسطینیین فی ظل الغیبوبة العربیة. أما إذا لم تعجبهم مواصفات "الدولة" المقترحة والتی یساومهم الاتحاد الأوروبی على وجوب القبول بها والعمل على إقامتها حتى لا تقطع عنهم المساعدات، فأمامهم "خیار" ثان یتمثل بـ"السلام الاقتصادی"، وهو عبارة عن وصفة إسرائیلیة فی غایة البساطة، لکن فی منتهى الفاعلیة لجهة تخلیص تل أبیب من کل أعباء صنع السلام والتزاماته، وتتمثل فی "تکرّم" الاحتلال بتحسین مستوى حیاة الفلسطینیین فی ظله على أن یشمل ذلک "التحسین" السماح لهم بالعمل بشکل أوسع فی المشاریع الاسرائیلیة المتنوعة التی أقیمت أصلا على أراضیهم المغتصبة، ولیکونوا بالطبع جزءا مهمّا من السوق التی تروج بها منتجات تلک المشاریع ملتزمین بعدم مقاطعة أی منها!..
ورغم تفاهة مثل هذا العرض، فإنا نجزم بجدیة الإسرائیلیین فی العمل على تمریره، بل لعلهم دخلوا فی تفاصیل إعداد الکادر البشری الفلسطینی المناسب للقیام علیه بالشروع فی النفخ فی صورة شخصیة فلسطینیة یعرف عنها أنها بلا رصید نضالی، وبلا تجربة سیاسیة، دخلت مدارج السلطة الفلسطینیة من بوابة الاقتصاد بعد تجربة العمل بالبنک الدولی وارتبط اسمها وثیقا بعبارة "تکنوقراط"، وهذه مواصفات "رئیس" مثالی لسلطة فلسطینیة یکون همها الوحید القیام بـ"أعباء" السلام الاقتصادی.
لقد کان من الطبیعی أن تبادر السلطة الفلسطینیة إلى رفض هذا الخیار معتبرة أنه "مجرد ثرثرة للتهرب من التوصل لاتفاق سلام حقیقی"، لکن السؤال هو إلى أی مدى یمکن أن تتمادى فی هذا الرفض، وأیة مقومات تملکها للصمود فی وجهه وهی الفاقدة للسند الفعلی العربی والمشدودة من عنقها بحبل المساعدات الخارجیة التی یبین الموقف الأوروبی الأخیر أنها لا تمنح إلا على قدر "اجتهاد" الفلسطینیین فی الاستجابة لشروط "السلام" حتى وإن تنازلوا عن أبسط حقوقهم وآخر ثوابتهم.. وهی أخیرا –وهذا الأخطر- من ساهمت فی حرق کل أوراقها التفاوضیة وعلى رأسها خیار المقاومة حین انخرطت فی التصدی لها وکف أیادی الشعب الفلسطینی عنها، بل فی التأکید بصریح العبارة على لسان رئیس السلطة محمود عباس على أنه "إذا لم ننجح فی الوصول إلى حل من خلال المفاوضات فهناک بحث جرى فی الجامعة العربیة وهو کیف یمکن أن نذهب إلى مجلس الأمن، وهنا أسیء فهم هذه القضیة وقیل إن الفلسطینیین یریدون من طرف واحد إعلان دولة فلسطینیة ونحن نقول إذا فشلنا إلى من نذهب؟ هل هناک غیر مجلس الأمن لنذهب الیه؟ أما الخیارات الأخرى فأنا غیر موافق علیها إطلاقاً کخیار الکفاح المسلح"؟..
ویکاد یکون ملخص مثل هذا الکلام أنه لا بدائل لنا کعرب وفلسطینیین فی حال فشلت الحلول التفاوضیة مع إسرائیل –وهی فاشلة لا محالة- سوى مزید الارتهان لقوى حلیفة للعدو ومرتبطة معه بمصالح حیویة، وفی أحسن الأحوال لهیئات أممیة عاجزة عن تنفیذ قرارات کثیرة اتخذتها من قبل فی شأن القضیة الفلسطینیة، ثم غدت الیوم عاجزة أصلا عن اتخاذ مثل تلک القرارات بفعل "فیتو" أصدقاء إسرائیل.
کل هذا مما دفعنا إلى التنبیه لخطورة المنعرج الذی دخلته القضیة الفلسطینیة، لکن دون فقد الثقة أوالتقلیل من جهود الفلسطینیین الذین تمسکوا بخیار المقاومة وبعض العرب المستعدین لمساعدتهم بما یمتلکون."افتتاحیة صحیفة العرب العالمیة".
( العرب اون لاین )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS