إیران عندما تبلغ سن الرشد
کروائی سویدی شکلت فترة الحرب العالمیة الثانیة وما بعدها أجزاء من مسلسل حیاته الیومیة أثرت فی معانیه الشخصیة، ثم حاکاها بعد ذلک فی سیناریو إنجازاته ودراساته الأدبیة مؤثرا فی معانیها الإنسانیة، کان من الطبیعی فی رسائله، ان یقف على قیمة الحقیقة ، لیس إدراکا فی ظل شیوع المعرفة ، وإنما حراکا صوب الجهر بها وجعلها تسم حرکتنا کأفراد وجماعات ودول، کمنهج لبناء السلام وإحلاله محل الصراع.
هذا الارتباط القائم بین الحقــــیقة والسلام الذی من شأنه ان یصهر کل التناقضات والخلافات الموقــــدة للحـــروب والنزاعات، لم نعد نجده فی القاموس السیاسی لعالم ما بعد الحرب الباردة، حین ساد نمط الأمرکة والأسرلة فی عالم الحداثــــویة والذلقـــراطــــیة. فهذا الارتباط وإن عکسه، إلى حد ما، مبدأ تنفیذ الالتزامات الدولیة بحسن نیة المنصوص علیه فی صلب میثاق الأمم المتحدة، الذی آلت دول العالم على نفسها ان تحترمه، إلا أن التجارب الدولیة وآخرها تجربة العراق فیما یتصل بأسلحة الدمار الشامل وقبلها أفغانستان وفلسطین على الدوام، کانت کفیلة بان تکشف سوء نیة المجتمع الدولی 'النخبوی' فی تعاطیه مع قضایا المجتمعات الدولیة.
فأصبح شعار واقعنا مزیدا من الشجاعة فی کتم الحقیقة، بل والجرأة والإقدام على تسویق الأکاذیب الأمریکیة والصهیونیة وإشاعة الدعایة التضلیلیة المسفهة لإدراک الرأی العالمی لتوجیهه عن الحق والحقیقة، بموجب أسلحة أکثر فتکا وإثارة للحروب والنزاعات، هی بالأساس 'أسلحة للخداع الشامل'.
بهذه الأسلحة یتم التعاطی الآن مع الملف النووی الإیرانی، وفق مرجعیة خطر الثورة الإیرانیة المعارضة لنمط الأمرکة، وبعقیدة الإسلاموفوبیا عقب أحداث 11 أیلول(سبتمبر)، وبنفس السیناریوهات الأولیة لحرب الخلیج الثالثة، ووفق هاجس الخوف على 'إسرائیل' الشریک الإستراتیجی العضوی بالمنطقة.
فی ظل هذا الواقع، نجد أنفسنا أمام المدخل مناسبا للحدیث عن البرنامج النووی الإیرانی ما له وما علیه، فی عودة إلى هاجس الحقیقة الذی ینبغی ان یسم حرکتنا، للتساؤل حول مدى مشروعیة المسار الذی سلکته الجمهوریة الإیرانیة الإسلامیة لتحقیق طموحاتها ، باعتباره الجانب الذی یمکن من خلاله ان نقیس طبیعة السلوک الإیرانی وبالتالی طبیعة أغراضه النوویة.
إن جل المشاکل التی یعانی منها البرنامج النووی الإیرانی تظل فی عالم النوایا، وإن صح التعبیر تعیش القضیة معرکة النوایا الحاسمة، حول طبیعة البرنامج النووی، اهو للأغراض السلمیة أو العسکریة؟ لکنه نزاع یظل فی محل الافتراض الذی لا یمکن منطقیا أن تبنی علیه المواقف والخیرات السیاسیة، وان کانت حشود من الرأی العام قد جند تحت شعاره. وبالتالی ینبغی أن ننزل إلى أرضیة الحقائق لنقیس بذلک السلوک الإیرانی وکیف کان تعاطیه فوق تضاریس الواقع المادی الوعرة. فأی قراءة موضوعیة لمسار البرنامج النووی الإیرانی، تؤکد على أن الجمهوریة قد استطاعت أن تبنی درعا استراتیجیا یحمی برنامجها ویجعله محل الشرعیة والمشروعیة دولیا، بناء على مستویات خمس:
المستوى الأول قانونی بالأساس، معیاره اتفاقیة منع الانتشار النووی لسنة 1968، حیث نجد الجمهوریة لا تزال إلى حد الآن ملتزمة بالشروط المتضمنة فی بنود هذا الصک، لم تعمل على اتخاذ حقها فی الانسحاب أو الخروج من المعاهدة، بل یمکن اعتبار وحی مشروعها النووی قد استمدته من جوهر المادة الرابعة من هذه الاتفاقیة التی تجیز للدول الأعضاء بناء قدراتها النوویة للأغراض السلمیة دونما تمییز. فی حین نجد 'إسرائیل' الدولة الوحیدة فی الشرق الأوسط ذات قدرات نوویة عسکریة، لم تنضم إلى هذه المعاهدة إلى الآن، فعلى من تستوجب المساءلة یا أولو الألباب !
وفق تلک البوصلة القانونیة، سلکت الجمهوریة مسارها السیاسی کمستوى ثان، حیث لا تزال إلى حد الآن فی تعاط دبلوماسی مع المجتمع الدولی، ولا تزال تقیم مفاوضاتها المکوکیة کأنها جزء من الحل الدبلوماسی ولیس العکس، کما لا تزال تقر بالتزاماتها تجاه الأمم المتحدة ، ولم تهدد فی أی نائبة انها ستقطع علاقاتها الدبلوماسیة أو حتى تعلقها، وبالتالی هذا الجنوح السلمی الذی تترجمه دبلوماسیة الجمهوریة، یجعل سلوکها السیاسی فی محل طبیعی لا یخدش النوایا.
فی المستوى الاقتصادی، باستثناء الشرکات الأمریکیة التی اتخذت موقفا سیاسیا من البرنامج، لا تزال السوق الإیرانیة مفتوحة على الشرکات الأوروبیة والصینیة ، رغم ما تعرضت له من عقوبات اقتصادیة کان من الطبیعی ان ترد علیها بسیاسة المعاملة بالمثل، لکنها فضلت ان تتعاطى بدبلوماسیة بالغة مع الوضع، وتبقی حتى ممرها الإستراتیجی 'هرمز' السیادی، مفتوحا فی وجه جل الشرکات الدولیة بما فیها الأمریکیة، وهی مواقف توضع فی محل الترحیب لا التشکیک.
على المستوى التقنی العلمی، رغم الحملات الدعائیة التی قامت بها الولایات المتحدة وحلفاؤها، فی تجاوز لکل المستویات السابقة، لتصویر البرنامج الإیرانی بأنه خطر یهدد الأمن الإقلیمی والجماعی، فإن الوکالة الدولیة للطاقة الذریّة قد کرّرت مراراً أنّه، وبالرغم من محاولات طهران التهرّب من بعض أعمال الرقابة، فلا شیء یبرهن على وجود برنامجٍ عسکریّ إیرانی بالمعاییر العلمیة، وذلک بعد جولات المراقبة المتکررة التی قام بها خبراء الوکالة3، وبعد ان قبلت مؤخرا بطرح التخصیب الخارجی کمقترح جرى تقدیمه من قبل هذه الهیئة الأممیة.
یبقى المستوى الأخیر مرتبطا بالجانب الاستعلامی الإستخباراتی، فیعد فضیحة أسلحة العراق، واهتزاز مصداقیة وکالة الاستخبارات الأمریکیة 'CIA' داخل الرأی العام الأمریکی، جاء التقییم الجدید للوکالة ، من خلال تقریر یعتبر ان إیران کان لدیها برنامج للأسلحة النوویة، لکنها جمدته فی عام 2003، الأمر الذی دفع ببعض المسؤولین الأمریکیین، وعلى رأسهم 'راند بیرس' رئیس شبکة الأمن القومی البحثیة والعضو السابق بمجلس الأمن القومی بإدارة بوش، إلى اعتبار ان التقریر یلقی بماء بارد على جهود أولئک الذین یحثون على مواجهة عسکریة مع إیران.
باللغات الخمس الإستراتیجیة، النوایا الإیرانیة لا تزال سلمیة لسلامة سلوکها الدولی، لکن من الذی جعل هذه الدولة إلى حد الآن، غارقة فی الانتقادات من قبل الرأی العام العالمی، غیر قادرة على حسم معرکة النوایا وهی صاحبة التعاطی الدولی السلیم؟
من وجهة نظری المشکلة إعلامیة دعائیة بالأساس، فالجمهوریة الإیرانیة لا یزال مجهودها الدعائی ضعیفا قیاسا بأهمیة قضیتها ومشروعیة طرحها، الأمر الذی جعل من دروعها الإستراتیجیة مغیبة عن شمس الحقیقة، بموجب ما غشاها مــــن إعلام تضلیلی مضاد استفاد من هذا الفراغ الإعلامی الإیرانی ولعب على تناقضاته لیحقق التوازن، وإن غابت عن أوراقه صــــفة الشرعیة. فکیف ذلک؟
فالخطاب الإیرانی لا یزال یستخدم فی مجهوده الإعلامی، تمایز المنابر الداخلیة، الدینیة والسیاسیة والعسکریة، لإطلاق حزم من المواقف التی تثیر التشابک واللبس فی فهم أهداف إیران. وهو بذلک یغلق الباب على نصفه، ویترک النصف الآخر للتعامل الحذر مع الرسائل المتکررة والمتناقضة فی نفس الوقت. حیث نجد فی نفس الحزمة خطابا تصالحیا مرفوقا بلغة سیاسیة باردة لا مبالیة مغطاة بهالة من العبارات التصعیدیة، وهذا التناقض فی حد ذاته یثیر شکوکا تغنی عن أی تأویل، بالأکید لغیر صالح الموقف الإیرانی.
وبالتالی فی ظل هذا التعاطی الإعلامی المتواضع، تساهم إیران فی عملیة حرق أوراقها الإستراتیجیة مجانا لصالح أعدائها، وتلزم نفسها بأن تتخد مسلک طموحاتها من بوابة الدعایة الأمریکیة الصهیونیة، بدل الحفاظ على تنوع أبواب شرعیة طموحاتها، بواسطة خطاب إعلامی دعائی متوازن، یخدم وضع القضیة على جبهة الرأی العام العالمی.
وحالما تصل إلى هذا المستوى المستقدم من الجهوزیة فی العمل، خدمة لمشروعها النووی، تکون حینها إیران على أبواب بلوغها سن الرشد، وفق أطروحة التطور البیولوجی الخلدونیة للدولة، وهو المدخل الذی تلج فیه الأمم إلى مصاف الدول الکبرى، کما ولجته الولایات المتحدة الأمریکیة بعد انتهاء الحرب العالمیة الثانیة، وهی التی تعیش الآن من جراء سیاساتها غیر المسؤولة، مرحلة الشیخوخة والأفول.
فمزیدا من المسؤولیة فی التعاطی مع هذا البرنامج الحساس، ومزیدا من التعاون مع الدول الإقلیمیة خاصة العربیة والإسلامیة من اجل تقویة مکانة الأمة، حتى تلج ألفیة ثالثة، معالمها التحرر والتقدم والریادة تنمویا.
* باحث فی القانون الدولی والشؤون الاستراتیجیة/المغرب