هل أمسى العرب لدى "إسرائیل" مجرد ظاهرة صوتیة!!؟

بقلم محمد صالح مجیّد
جاء اغتیال "محمود المبحوح" بدبی، فی العشرین من شهر ینایر الماضی، لیؤکّد حقیقة ثابتة لکنّها غائبة عن أذهان الذین یؤمنون بالصّدفة، ویدفعون مراکب سیاستهم حسب ما تشتهی الریاح، وهی أنّ "إسرائیل" قادرة على أن تضرب فی کلّ مکان، وفی أیّ دولة عربیّة، مهما استعدّت لعدوانها وتحصّنت. وبات أکیدا أنّها تملک عملاء، على الأرض، یسهّلون عملیّات الاغتیال التی تنفّذها بدقّة وحرفیّة. وهی تختار طریقة التنفیذ، بمعزل عن الظروف الدولیّة، والإکراهات التکتیکیّة التی تفرض أحیانا على هذه الدولة العبریّة أن تُوقف مسلسل الاغتیالات وفق الأجندا التی وضعتها آلة الدولة العسکریّة وتحرص الحکومات المتعاقبة- یمینا ویسارا- على تنفیذها والبحث عن مبرّرات الجریمة ومسوّغاتها، کی تُسوّق للحلفاء وأصدقاء إسرائیل، على أنّه ردّ فعل، ودفاع عن کیانها المهدّد.
الحقیقة المرّة، إذن، هی أنّ "إسرائیل" تحدّد هدفها بدقّة، وتختار الوقت المناسب للانقضاض على الموعود بالموت. ویؤکّد تاریخ الاغتیالات أنّ الدولة العبریّة لا تفرّق، فی تنفیذ مخطّطها، بین الدول المعتدلة، والدول المستنفرة لقتالها. فقد اغتالت، فی قلب دمشق، وفی مصر، وفی بغداد، وفی لبنان، وفی الخرطوم، وفی الأردن، وفی العواصم الأوروبیّة. لکن "إسرائیل" لا تکتفی بالانتقام ممن تعتبرهم أعداءها بل ترید تصعید الأزمة، ونقلها إلى أرض العدوّ. وذلک عبر تسریبات صحفیّة تلمّح إلى تواطؤ دول عربیّة معها فی تنفیذ عملیاتها القذرة. وهی تدرک أنّها، بهذا التلمیح المقصود، تفجّر قنبلة یکون وقعها أشدّ من عملیّة الاغتیال فی حدّ ذاتها، لأنّ "إسرائیل" باتت على یقین بأن العرب أصیبوا "بالألزایمر" السّیاسی الذی جعلهم یفقدون ذاکرتهم البعیدة والقریبة، وهی مقتنعة، أکثر من أیّ وقت مضى، بأنّهم "ظاهرة صوتیّة" لا یتقنون إلّا تبادل الاتهامات، وتوزیع تهم الخیانة على بعضهم البعض، فی عملیّة جلد ذات غریبة.
وضمن مسلسل استدراج الخصم إلى نسیان الجریمة، والانغماس فی مستنقع الاتهامات والاتهامات المضادّة، نشرت صحیفة "هآرتس" الإسرائیلیّة، یوم الثلاثاء 2 فبرایر، تفاصیل عن عملیّة الاغتیال، زعمت أنّها حصلت علیها من وثیقة سرّیّة أعدّتها "حماس"!!.
وتفید المعلومات التی أوردتها الصّحیفة أنّ "محمود المبحوح" هو المسؤول عن تهریب الأسلحة إلى غزّة، وهو الحلقة الرابطة بین "منظّمة حماس" وإیران. وأشارت إلى أنّ الرجل مُطارد، إلى جانب إسرائیل، من المخابرات الأردنیّة والمصریّة. ولتأکید هذا الأمر أشارت إلى أنّ مصر قد اعتقلته سنة 2003، وأودعته السجن سنة کاملة. وهذه الروایة غیر المؤکّدة تزید اللغز غموضا، وتدفع بخبث نحو إبعاد التهمة عن إسرائیل وإلقائها على مصر.
والحقیقة أنّ مثل هذه التلمیحات لیست غریبة على الدولة العبریّة. وهی تنخرط فی سیاسة إسرائیلیّة مکشوفة لاستغلال کلّ سوء تفاهم بین طرفین للالتفاف علیه، وتوظیفه لخدمة مشاریعها الانتقامیّة. وإذا کان الخلاف بین "حماس" ومصر لم یعد خافیا، بل لعلّه ازداد توتّرا بعد بناء الحاجز الأسمنتی، فإنّ ذلک لا یمکن أن یؤدّی إلى تفکیر مصر فی اغتیال ناشط من نشطاء حماس. ولم یثبت تاریخیا أنّ مصر تجاوزت الآداب الدبلوماسیة، وانتقمت من أعدائها على أرض عربیة تجمعها بقیادتها علاقة وثیقة. والأمر نفسه ینطبق على "الأردن" التی لا یمکن أن تضحّی بعلاقتها مع "الإمارة".
وإذا ما ترکنا عامل الأعراف الدبلوماسیّة التی تحرص مصر والأردن على احترامها، فإنّ "محمود المبحوح" لا یشکّل خطرا على أمن الدولتین کی تتعاملا معه بالتصفیة والاغتیال. وما یؤکّد أنّ الوصول إلى هذه النتائج البدیهیّة لا یحتاج إلى کثیر من الذکاء عند من خبر حیل هذا الکیان وخبثه، مسارعة منظّمة حماس على لسان غیر واحد من قادتها بنفی تورّط أی بلد عربیّ فی الاغتیال. وکان یراد من هذه الحیلة المکشوفة التشویش على المصالحة بین الفرقاء الفلسطینیین، وصبّ الزیت على النار لیتواصل الخلاف وتتداخل الأسباب بتحوّل مصر إلى طرف "غیر محاید".
کما أشارت الصحیفة، فی خبث، إلى البذخ الذی یعیشه أفراد "حماس" بأن کشفت أنّ النزل الذی وقع فیه الاغتیال هو من فئة "خمس نجوم"، ما یشی بالنعمة التی ترفل فیها المنظّمة ونشطاؤها. وفی هذا التلمیح ما یعید مشکلة "تمویل" المنظّمة إلى واجهة الخلافات الفلسطینیّة.
ویمکن أن تستخلص من عملیّة الاغتیال عدّة حقائق تدعمها الوقائع، لکنّ الواهمین والمنتصرین للعناد یحجبونها تحت شعارات مختلفة لم تعد تنطلی على أحد:
- الأرض العربیّة أرض مکشوفة عند الإسرائیلیین یتحرّکون فیها کما یحلو لهم، وسیان فی ذلک دول الاعتدال أو دول الممانعة؛ وهی تملک القدرة على الضرب فی کلّ مکان. فهل أنّ بقاء البعض أحیاء هبة إسرائیلیّة؟ وهل أنّ الذین لم یتعرّضوا للاغتیال کانوا فی کلّ مرّة ینجحون فی الفرار، أم أنّ إسرائیل ترید أن تبقی على حیاتهم !!؟؟
- سیاسة إسرائیل قائمة على مخطّطات وبرامج استشرافیّة تخضع للآلة العسکریّة المتسلّطة والمتحکّمة فی الحکومات المتعاقبة على اختلاف توجّهاتها وأحزابها.
- بین إسرائیل والعرب سنوات ضوئیّة لا یمکن تقلیص فجواتها بالخطب والصراخ والبکاء أمام الشاشات، بل بمشاریع اقتصادیّة واضحة، وبتوظیف علمیّ للثروات وجعلها فی خدمة الإنماء.
- إسرائیل ربحت المعرکة على الأرض وفازت بها إعلامیّا. فهی قادرة على اقتحام الرأی العام الدولیّ مجنّدة کل الطرق والوسائل.
- سیاسة التخوین وتبادل التهم التی تُبدع فیها الدول العربیّة، صناعة إسرائیلیّة عرفت کیف تسوّقها فی البلاد العربیّة ونجحت فی ضمان تداولها بین الأجیال.
- إسرائیل توظّف عملاء على الأرض من "حماس"، و"فتح"، وکلّ الفصائل الفلسطینیّة بلا استثناء من خلالهم تزرع الشکّ، وتضرب وحدة الصفّ. فهل یصدّق عاقل أنّ "إسرائیل" تُقدم على اغتیال "الشیخ یاسین" دون أن یکون واحد من المحیطین به، أو القادرین على الاقتراب منه، قد سهّل العملیّة!!؟
- إسرائیل على قناعة بأنّ العرب ظاهرة صوتیّة، لذلک ما فتئت تستنبط لهم المواضیع "الطازجة" لیتسلوا من خلالها بجلد الذات، ولیسترسلوا فی مناقشات خلافیّة.
ن/25