الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

هل القضیة الفلسطینیة قضیة العرب المرکزیة؟

باستثناء قلة قلیلة جدا، لا یوجد أحد فی الوطن العربی إلا ویعتقد أو یقول إن قضیة فلسطین هی قضیة العرب المرکزیة. لقد قیل هذا منذ عقود کثیرة، وقاله کل من تناول قلما لیکتب به، أو وصل إلى کرسی الحکم، فقد قال الأول إن قضیة فلسطین هی أو یجب أن تکون قضیة العرب المرکزیة، ووعد الثانی قبل الحکم بتحریر فلسطین من البحر إلى النهر، وتنکر بعده لوعوده، وإن ظل یقول بمرکزیة قضیة فلسطین، التی لم تعد تعنی شیئا ملموسا، رغم أن لها معنى هائل الخطورة والدلالة، قلما فکر فیه القائلون بمرکزیتها، أو کتبوا عنه وبحثوا فیه.

ماذا یعنی أن تکون قضیة ما مرکزیة؟ إنه یعنی ببساطة رؤیة کل شیء بدلالة هذه القضیة، ووضعه فی خدمتها، وطیه تحت جناحها، وجعلها أولیة لا تعلو علیها أو تدانیها أیة أولیة أخرى، بما فی ذلک السلطة والکرسی ومغانمهما. بترجمة هذا الکلام إلى واقع، تعنی مرکزیة قضیة ما ربط وجود السلطة والدولة بها، والتضحیة بکل غال ورخیص فی سبیلها، والإقدام على بذل کل ما تتطلبه من جهود، وعلى تخصیص کل ما یلزم لها من موارد بشریة ومادیة وروحیة، فلا تکون عندئذ مجرد قضیة بین قضایا، أو قضیة تابعة لأیة قضیة أخرى، أو قضیة للتجارة والمزایدة وبیع الکلام والأوهام، فهی قضیة تتطلب أعلى أشکال الوحدة داخل الدولة التی تؤمن بمرکزیتها، وتلزم بتکریس کل الطاقات لها، لأن على حلها یتوقف مصیر البلاد والعباد، ویرتبط المستقبل الشخصی للمواطنین، فلا سبیل إلى اللعب فیها أو الاستهانة بتأثیرها على کل شیء، من علاقات السلطة مع شعبها، إلى علاقاتها مع جوارها، إلى علاقاتها الدولیة، ومواقفها فی المحافل العالمیة.

هذا، باختصار شدید، معنى أن کون قضیة ما مرکزیة بالنسبة إلى بلد أو أمة. فهل کانت قضیة فلسطین حقا قضیة مرکزیة بالنسبة إلى السیاسات العربیة خلال سنوات ما بعد نکبتها، أم أن هذه السیاسات فعلت المستحیل کی لا تصیر القضیة الفلسطینیة مرکزیة. أما السبب فیرجع إلى حقیقة جوهریة هی أن الشعب العربی یراها بهذه الطریقة أو بکیفیة قریبة منها، وأن مرکزیتها بالنسبة له هی عنصر یثوره ویدفعه إلى موقف نقدی من أوضاعه وسیاسات حکوماته، فلا سبیل إلى منع هذا النمط من التفاعل بینه وبین القضیة الفلسطینیة غیر الأخذ بأحد أمرین أو بهما کلیهما: منع الشعب من التفاعل مع القضیة بالترهیب والقمع، أو تضلیله وتضییعه والمزایدة علیه، بحیث یستکین إلى وجود من یقوم بواجبه حیالها ویتخذ موقف المتفرج منها، کما یحدث فی أیامنا، ومنذ وقت غیر قصیر.

لیس هناک بلد عربی واحد تعامل مع القضیة الفلسطینیة کقضیة مرکزیة، أو کقضیة مقدسة، کما یزعم لسان عربی سائد یستهتر بالحقیقة ویستهین بعقول وذاکرة ووعی المواطن العربی حین یکرر فی کل مناسبة، ومهما کانت تافهة: قضیة فلسطین هی قضیة العرب المقدسة أو المرکزیة أو الاثنین معا. لو سألنا الآن عن تفاصیل هذا الادعاء، وتابعنا الوقائع فی ملموسیتها، لوجدنا أنه لیس هناک من أخضع مصالحه لأولیة القضیة الفلسطینیة أو من رآها بدلالتها. ولیس هناک من اعتبرها قضیة تعلو وتتقدم على أیة قضیة سواها، تتفرع عنها ومنها - بین ما تتفرع عنه ومنه - جملة مسائل وقضایا السیاسة والمجتمع فی بلاده ودولته، فلا ترجح علیها أو تطبعها بطابعها، بل تتعین هی بها وتحمل صبغتها. ولیس هناک من رسم سیاساته الاقتصادیة والاجتماعیة والتعلیمیة والتربویة والثقافیة والأمنیة على ضوئها، ومن أعد بلاده من سائر الجوانب والنواحی لتلبیة متطلباتها، وأن سیاسات العرب أبقتها هامشیة، وجعلتها قضیة برانیة بالنسبة إلى الإنسان العربی ومجتمعاته ودوله، کما بالنسبة إلیها هی نفسها، بل وجعلت التعاطف والتفاعل معها جریمة یعاقب علیها القانون، بینما أشاع القائلون بمرکزیة القضیة وقدسیتها أجواء جعلت شعب فلسطین مسؤولا عن ما أصابه من تشرید وقتل وتشتیت، فهو باع أرضه وجاء یبیع أرض الدول العربیة، التی تستضیفه، وهو لم یقاوم العدو بل سلمه الأرض والدار، وهو خطر على أمن وسلامة العرب، یجب إبقاؤه تحت العین ومنعه من التحرک بحریة، لأن مقاومته تخز العدو بدبوس لا یؤثر فیه، وتدفعه إلى الرد علینا نحن العرب بصاروخ مهلک یدمرنا. والغریب أن هذه اللهجة التخوینیة تسود البلدان الأکثر کلاما حول مرکزیة القضیة وقدسیتها، والتی ترید الاستئثار بها لتستخدمها ورقة فی صراعاتها مع غیرها من العرب، ولیس لاستعمالها ضد العدو الصهیونی، الذی یسلم جمیع طالبی التسویة السلمیة معه بأن أرض فلسطین صارت له، ویعلن استعداده العلنی للاعتراف بهذا قانونیا وواقعیا، وبضمانة أمریکیة ودولیة، فهل یستقیم القول بقدسیة القضیة ومرکزیتها مع الاستعداد للاعتراف بضیاع وطنها، وماذا یبقى منها أصلا بعد اعتراف کهذا؟.

لیست قضیة فلسطین مرکزیة أو مقدسة بالنسبة إلى أیة حکومة أو مجتمع عربی. عندما ستصیر کذلک، سیفکر الصهاینة بالأمر وسیحزم عدد کبیر منهم حقائبه ویبدأ بالرحیل عنها، من حیث جاء، لأنه سیعلم، أو سیشعر، أن وطن غیره لیس له، وأن مرکزیته وقدسیته بالنسبة لأی بلد عربی ستکفی لقلب موازین القوى لصالح فلسطین وشعبها، إن لم یکن الیوم فغدا.

تنوعت وتعددت الحلول، التی اقترحت خلال القرن الماضی کعلاج لمشکلة فلسطین. وقد فشلت جمیعها لأن العالم والعدو یعرفان عدم جدیة العرب فی الموضوع، ویعیان أنهم لا یعاملون القضیة الفلسطینیة کقضیة یرون کل شیء داخل بلدانهم وخارجها بدلالتها. من هنا، یکثر اللعب والتلاعب بفلسطین، رغم ما قدمه شعبها من تضحیات عزیزة فی سبیل عروبتها. وسیستمر اللعب والتلاعب بها، وسیبقى الفشل مصیر أی حل یقترح لمشکلاتها، ما دامت قضیة ثانویة فی دنیا العرب السیاسیة والمجتمعیة. عندما ستصیر مرکزیة بالفعل لا القول، سیسارع الأمریکیون والصهاینة إلى عرض حلول منصفة، إنقاذا لما یمکن إنقاذه من الکیان الغاصب. إلى أن یحدث ذلک، ستبقى فلسطین قضیة ثانویة ومنسیة ومهملة، یغطی الکذبة الذین یفرطون فیها مواقفهم بحدیثهم الممجوج عن مرکزیتها وقدسیتها، بینما یقضمها العدو مترا بعد متر وشبرا بعد شبر!. لو کانت فلسطین قضیة العرب المرکزیة لما قامت إسرائیل أصلا، ولما سادت ومادت واحتلت وتوسعت وأذلت الأمة طیلة نیف وقرن!.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 141314







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)