الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

"الفتوى" المطلوبة من الأزهر والکنائس

إن موضوع الجدل السیاسی الذی یثیره الجدار الفولاذی الذی یبنیه سلاح المهندسین الأمیرکی تحت الأرض على الحدود المصریة– الفلسطینیة المشترکة مع قطاع غزة هو حصار القطاع، لکن الأزهر الشریف عندما أفتى حول الموضوع الأسبوع الماضی تهرب من الإفتاء حول الحصار بفتواه حول السیادة المصریة، وهی لیست موضع الجدل ولا موضوعه، ومثل الأزهر فعلت الکنائس العربیة عندما لجأت إلى التعمیم فی موقفها الرافض للاحتلال الإسرائیلی لکی تتهرب من التخصیص بإعلان رفضها لإحکام الحصار على القطاع بجدران جدیدة، عربیة هذه المرة.

ففی "وقفة الحق" التی أعلنتها القیادات الروحیة للکنائس المسیحیة فی الأراضی المقدسة فی وثیقتهم المعنونة "حانت لحظة الحقیقة والعمل فی فلسطین" التی أصدروها من مدینة بیت لحم، مهد المسیح علیه السلام، فی الحادی عشر من کانون الأول/ دیسمبر الماضی لم یتطرقوا إلى "الجدار الفولاذی" فی إشارتهم القصیرة التی لم تتجاوز سطرین إلى غزة و"الحصار المستمر" لها بعد "الحرب الوحشیة التی شنتها إسرائیل علیها"، وکأنما لیتجنبوا أی احتکاک بالسلطات السیاسیة الفلسطینیة والمصریة والإسرائیلیة وغیرها تحت باب ترک ما لقیصر لقیصر وما لله لله، وهو السبب نفسه الذی قاد قداسة البابا بنیدکت السادس عشر إلى إسقاط غزة من برنامج "حجه" الأخیر إلى الأراضی المقدسة مما قاد بدوره إلى احتجاج علنی شجاع لراعی الکنیسة الکاثولیکیة فی غزة الأب منویل مسلم وقاد بالتالی إلى "تقاعده" فی ما بعد.

أو ربما توقعت القیادات المسیحیة فتوى الأزهر اللاحقة فأرادت أن تتجنب أی اختلاف مع الأزهر قد یؤثر فی "حوار الأدیان" الذی تسارع الترکیز علیه فی السنوات الأخیرة فی سیاق "عملیة السلام" العربیة الإسرائیلیة، وکانت تلک الفتوى قد انتقدت معارضی بناء الجدار الفولاذی لأن "الذین یعارضون بناء هذا الجدار یخالفون بذلک ما أمرت به الشریعة الإسلامیة"، کما جاء فی البیان الذی أصدره یوم الخمیس الماضی مجمع البحوث الإسلامیة التابع للأزهر الشریف بموافقة خمسة وعشرین عضوا من علمائه الأفاضل، مدافعین فیه عن "حق الدولة "المصریة" فی أن تقیم على أرضها من المنشآت والسدود ما یصون أمنها وحدودها ومصالحها"، وهو الموقف الذی "استهجنته" فی بیان رسمی قبل یومین حرکة المقاومة الإسلامیة "حماس".

من حیث المبدأ، ووفقا للقانون الدولی، فإن ما تفعله أی دولة داخل حدودها وفی نطاق سیادتها الإقلیمیة هو قرار سیادی وطنی لها، غیر أن کثیرا من قضایا الصراع الدولی المعاصرة تؤکد بأن هذا المبدأ فی التطبیق العملی لیس صحیحا على إطلاقه، وأن ممارسة الدول لسیادتها الوطنیة لها حدود سیاسیة واستراتیجیة تقیدها، بخاصة إذا کانت هذه الممارسة تمثل خطرا أو تهدیدا حیویا یتجاوز الحدود الوطنیة، فالقانون والعرف الدولیین، وکذلک شرع الله أیا کان عنوان التوحید له، جمیعها تقید ممارسة السیادة الوطنیة بالتزامات أهمها عدم الإضرار بالدولة أو بالشعب أو بالکیان المجاور کما یمثل احترام القانون الإنسانی الدولی قیدا آخر على هذه الممارسة. وهنا یکمن جوهر الجدل الحقیقی حول قیام مصر ببناء جدار من الفولاذ على جانبها من الحدود مع قطاع غزة الفلسطینی.

ولا یحتاج الأمر إلى خبراء فی القانون الدولی أو إلى جهابذة فی الدبلوماسیة لإثبات أن ما تفعله مصر فی نطاق سیادتها الإقلیمیة هو قرار سیادی مصری، وینطبق ذلک طبعا على الجانب المصری من الحدود المشترکة مع فلسطین فی قطاع غزة. لکن "الدفاع" المصری- فی معرض تفسیر بناء جدار الفولاذ وتسویغه- عن حق مصر فی ممارسة سیادتها، وحمایة حدودها، واتخاذ کل الإجراءات اللازمة لمنع انتهاک سیادتها وحدودها، یصور الجدل وکأنما یدور حول ما إذا کان أو لم یکن لمصر الحق فی ذلک، غیر أن ذلک بالتأکید لیس موضع جدل، ولیس هو موضوع الجدل الدائر، والترکیز على هذا الحق المصری الذی لا جدال فیه إنما هو محاولة غیر موفقة دبلوماسیا لأنها فشلت حتى الآن فی التغطیة على الموضوع الحقیقی وفی التهرب منه.

إن مجموعة من الأسئلة التی وجهتها إحدى جماعات المقاومة لکاتب هذا المقال ربما تعبر عن "الموضوع" الحقیقی للجدل الدائر حول بناء هذا الجدار. سأل المکتب الإعلامی لألویة الناصر صلاح الدین: فی أی سیاق یأتی بناء الحکومة المصریة للجدار الفولاذی؟ وهل یساهم بناؤه فی الحصار على القطاع؟ وهل یعتبر بناؤه مقدمة لحرب عدوانیة جدیدة على غزة؟ وهل یمثل بناؤه ضربا لسیاسة التضامن العربی المعلنة مع الشعب الفلسطینی أم أن غزة خارج سیاسة التضامن الرسمی؟ وهل یؤثر بناؤه فی أداء المقاومة الفلسطینیة؟ وهل تتضرر سمعة مصر جراء بنائه؟

ومن الواضح أن القلق الفلسطینی من بناء جدار الفولاذ مشروع من الناحیتین الإنسانیة والوطنیة، فبناؤه إنسانیا یقطع شریان الحیاة الوحید المفتوح من أجل البقاء، وهو وطنیا سیغلق المنفذ الوحید المفتوح لامتلاک الحد الأدنى من وسائل الدفاع عن النفس. وفی الحالتین یتحول بناؤه إلى ممارسة للسیادة المصریة تتجاوز حدودها السیاسیة والاستراتیجیة والإنسانیة الحدود الإقلیمیة لمصر، خلاصتها إحکام الحصار على القطاع من المنفذ العربی الوحید الذی ما زالت الآمال معقودة علیه کباب خلاص وحید ممکن من الحصار الإسرائیلی المطبق على القطاع، وفی الحالتین یمثل بناؤه تهدیدا حیویا لمن یعیشون على الجانب الآخر من الحدود، ومن المؤکد أنه لا یوجد أی دولة أو شعب فی العالم لا یعتبر مثل هذا التهدید عملا حربیا عدوانیا، اللهم إلا إذا وفرت مصر بدیلا شرعیا فوق الأرض لشریان الحیاة غیر الشرعی المفتوح تحتها والذی یندرج تحت باب "الممنوعات تبیح المحظورات" وینطبق علیه المثل القائل إن "الحاجة أم الاختراع".

ومن الواضح کذلک أن بناء الجدار لم یأت فی سیاق ممارسة مصر لسیادتها فقط، بل جاء فی سیاق "مذکرة التفاهم" الأمیرکیة- الإسرائیلیة التی وقعت بعد العدوان الإسرائیلی على القطاع- الذی یعیش أهل غزة ذکراه السنویة الأولى المشؤومة هذه الأیام- فی السنة الأخیرة من عهد إدارة جورج بوش الأمیرکیة السابقة، والتی استهدف توقیعها تحقیق الأهداف التی فشل ذاک العدوان فی تحقیقها، والتی لم تتحقق حتى الآن بعد توقیع المذکرة ویأمل موقعوها أن یقود بناء الجدار الفولاذی تحت الأرض إلى تحقیقها.

ویجد الفلسطینیون فی القطاع أنفسهم أمام خیارین أحلاهما مر، فإما أن یتصدوا لمشروع الجدار الفولاذی "المصری" أو یعودوا إلى تصعید المقاومة ضد الجدران المدرعة "الإسرائیلیة" التی تحکم الحصار على القطاع لفتح ثغرات فیها تعوض عن الثغرات التی فتحوها تحت الأرض من أجل البقاء على قید الحیاة ویجری إغلاقها الیوم، وهو ما لا ترفضه مصر وحدها بل کل المعنیین باستئناف "عملیة السلام".

ویجد المصریون أنفسهم فی مأزق مماثل یمزقهم بین صلة الرحم القومیة والأخوة الإسلامیة التی تجعل قلوبهم ضد الجدار ومع المتضررین منه على الجانب الآخر من الحدود وبین قیود معاهدة السلام التی تلتزم حکومتهم بها مع دولة الاحتلال الإسرائیلی التی تجعل سیادتهم غیر مکتملة على کامل حدودهم مع فلسطین، سواء "الفلسطینیة" مع القطاع أم "الإسرائیلیة" مع النقب، وقیود التزام حکومتهم بـ"عملیة السلام" التی تتذرع بها لعدم ممارستها للسیادة المصریة بفتح حدود مصر مع قطاع غزة کمخرج وحید ممکن من المأزق الراهن الذی یجد المصریون أنفسهم فیه، ویزجون الفلسطینیین فیه.

ن/25


| رمز الموضوع: 141306







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)