الثلثاء 15 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

للکاتب والمفکر المصری فهمی هویدی :الجدار حمایة لأمن إسرائیل

أخشى أن یبتذل مفهوم الأمن القومی لمصر، بحیث ینضم إلى العناوین الجلیلة الأخرى التی لحقها الابتذال، من الدیمقراطیة إلى الشرعیة والوطنیة.

من بین الإعلانات التی یبثها التلفزیون المصری هذه الأیام واحد یظهر فیه جمع من الناس یهتفون بصوت عالٍ قائلین «مصر-مصر»، الأمر الذی یهیئ المشاهد لاستقبال قرار سیاسی یهم مستقبل البلد على غرار تأمیم قناة السویس أو العبور إلى سیناء، لکنه یفاجأ فی اللقطة التالیة بصورة یظهر فیها منتج معلب لإحدى شرکات المیاه الغازیة. وهذا الإعلان الذی استنفر الحس الوطنی لدى المصریین لکی یروج فی النهایة لمشروب المیاه الغازیة لا یختلف کثیرا عن الإلحاح الحاصل الآن على فکرة الأمن القومی لتسویق عملیة إقامة الجدار الفولاذی المدفون فی باطن الأرض على الحدود بین سیناء وقطاع غزة.

عکفت الخمیس الماضی على رصد عدد المرات التی أشیر فیها إلى مصطلح «الأمن القومی» فی إحدى الصحف القومیة، فوجدت أن المصطلح ذکر 46 مرة، أکثر من نصفها (27 مرة) فی تعلیقات کتاب الأعمدة، الذین أعرف أن واحدا منهم على الأقل لا یعی الفرق بین الأمن القومی والأمن المرکزی، ویعتبر أن الأخیر هو الأصل وأن أی أمن آخر فرع عنه!

فی مساء السبت التالی شاهدت حلقة أحد البرامج الحواریة المسائیة التی أثارت موضوع الجدار. وکان المشارکون فی الحلقة ثلاثة، اثنان منهم أحدهما عسکری قدم بحسبانه خبیرا أمنیا والثانی دبلوماسی سابق، دافعا بشدة عن إقامته باعتباره من ضرورات الأمن القومی. ومن الحجج التی ساقها ما یلی:

-أن هناک خطرا من تکرار الاجتیاح الفلسطینی الذی حدث فی ینایر/کانون الثانی من العام الماضی.

-أن الأنفاق باب لتهریب البضائع والمخدرات بین القطاع ومصر.

-أن هناک عملیات لتهریب الأشخاص والمتفجرات عبر الأنفاق تستهدف إشاعة الإرهاب وإثارة الفوضى فی مصر.

لم یشر أی منهما بکلمة إلى أی خطر تمثله إسرائیل المحتلة والمدججة بالسلاح النووی، فی الوقت نفسه فإن الحجج التی ذکراها إما أنها لم تکن مقنعة، أو أنها اعتمدت على تقاریر أمنیة قدمت فی بعض القضایا المنظورة التی لم یفصل فیها بعد.

فحکایة الاجتیاح على غرابتها لم تکن لها علاقة بالأنفاق، ولکنها کانت انفجارا ضد الحصار، ثم إن الذین دخلوا عبر رفح استوفوا حاجتهم ثم عادوا أدراجهم إلى غزة، أما عملیات التخریب فی داخل مصر، بما فی ذلک ما نسب إلى ما عرف باسم خلیة حزب الله فهی مجرد ادعاءات أمنیة لم تثبت، وللقضاء القول الفصل فیها.

والقول بتهریب الأشخاص والمخدرات لا یبرر إقامة الجدار الفولاذی، فضلا عن أن هذه العملیات تحدث عبر الحدود فی کل مکان. وبالمناسبة فإن التهریب الحاصل بین مصر ولیبیا فی مثل هذه المجالات أکبر مما هو بین سیناء والقطاع. (للعلم: نشرت جریدة الدستور فی عدد الأحد 27/12 أن 31 شابا من محافظة المنیا حاولوا التسلل عبر الحدود إلى لیبیا، وأن الشرطة أطلقت علیهم النار وقتلت 14 منهم. وذکرت أن عملیات التسلل هذه تتم بصورة شبه یومیة).

من المفارقات أن الأبواق الرسمیة التی ما برحت تلح هذه الأیام على ضرورة الجدار الفولاذی لحمایة الأمن القومی المصری غضت الطرف عن أن أخبار الجدار خرجت من إسرائیل ولم تخرج من مصر، أعنى أن البلد الذی تدعی أبواقه أن أمنه یتعرض للتهدید والخطر أخفى الأمر وتکتم علیه لعدة أشهر، فی حین أنه کان بوسعه لو کان یملک أدلة مقنعة على وجود ذلک الخطر أن یعلن الأمر بشجاعة على الملأ، وهذه الملابسات لا تشکک فقط فی جدیة المبررات المصریة المعلنة، ولکنها أیضا تستدعى العدید من الأسئلة عن المقاصد الحقیقیة لإقامة الجدار، والأطراف الحقیقیة التی وقفت وراء المشروع، من حیث الفکرة والتمویل والتنفیذ.

قبل استعراض تلک الأسئلة، أذکر بشهادتین تسلطان الضوء على خلفیة الموضوع وملابساته، الشهادة الأولى مصریة للسفیر المصری السابق إیهاب وهبة، الذی نشر فی جریدة «الشروق الجدیدة» (عدد 1/2/2009) ثلاث ملاحظات على ما یجرى على الحدود، یهمنا اثنتان منها فی السیاق الذی نحن بصدده.

الأولى کانت حول انتهاکات إسرائیل المستمرة لما أوردته معاهدة السلام المبرمة عام 1979 والخاصة بصیانة الحدود واحترامها، وترکزت الملاحظة على استمرار العدوان الإسرائیلی على الشریط الحدودی مع مصر منذ وقوع العدوان على غزة، الذی یمثل تهدیدا حقیقیا لأمن مصر «حیث تقوم إسرائیل بقصف هذه المنطقة بمختلف أنواع الأسلحة والصواریخ والقنابل، التی أحدثت الکثیر من الأضرار بالمبانی داخل الحدود المصریة وروعت المواطنین، بل وأوقعت بهم إصابات مختلفة. کل ذلک إلى جانب تدمیر الأنفاق التی تدعی إسرائیل أنها تستخدم فی تهریب السلاح إلى غزة».

فی الملاحظة الثانیة تحدث الدبلوماسی المصری عن تقریر اطلع علیه صادر فی العام 2008 عن مرکز أبحاث الکونغرس (ذکر رمزه ورقمه) وکانت الأنفاق موضوعه الأساسی، حیث استعرض کل التفاصیل المتعلقة بها. وذکر التقریر الذی وزع على أعضاء الکونغرس أن لجنة الاعتمادات قررت حجب 100 ملیون دولار من المساعدات العسکریة لمصر، إلى أن تتأکد الخارجیة الأمیرکیة من أن مصر أوقفت التهریب عبر الأنفاق ودمرتها.

الشهادة الثانیة إسرائیلیة، وقد وردت على لسان عاموس جلبوع رئیس قسم الأبحاث الأسبق فی شعبة الاستخبارات العسکریة الإسرائیلیة، وهو یمینی متطرف یکن عداء واحتقارا شدیدین للعرب عامة والفلسطینیین بوجه أخص، لکنه من أشد المتحمسین لتوثیق العلاقة مع مصر، ویعتبر أن اتفاقیة کامب دیفد أهم حدث بعد تأسیس الدولة العبریة.

هذا الرجل اشترک فی برنامج حول وضع إسرائیل الإستراتیجی فی العام الجدید، جمعه مع عدد من المستشرقین وبثه رادیو تل أبیب فی 18/11 الماضی.

وکان مما قاله النص التالی:

"إن العلاقات مع مصر تمثل أهمیة کبرى لإسرائیل، والمتابع للسیاسة المصریة یلاحظ أن نظام الرئیس مبارک خرج عن طوره بسبب مباراة کرة القدم بین مصر والجزائر، حتى أصبح یهدد بقطع العلاقات الدبلوماسیة بین البلدین، لکنه ینتهج سیاسة مغایرة تجاه إسرائیل، فإلى جانب التزام النظام المصری الصمت عندما قمنا بحملة (الرصاص المصبوب) ضد غزة مؤخرا، فإنه وفر الأجواء لاستمرارنا فی الحملة، رغم سقوط المئات من الفلسطینیین، کما أنه منع أى تحرک عربی لصالح الفلسطینیین أثناء الحرب (یقصد إفشال مصر لمؤتمر القمة الذی دعت إلیه قطر).. وفی أحیان عدة یتم قتل جنود مصریین (بواسطة الإسرائیلیین) ممن تواجدوا بالقرب من الشریط الحدودی، لکن الحکومة المصریة لم تقم بأی إجراء. وهذا یدلل على وجوب تحقیق إجماع داخلی حول إستراتیجیة العلاقات مع مصر. وفی الوقت نفسه یجب أن نحث جماعات الضغط الیهودیة وأصدقاءنا فی الکونغرس، لعدم الضغط على النظام المصری فی کل القضایا الأخرى. ویجب أن یعلم الجمیع أن نظام مبارک مهم لنا، ویجب توفیر الأجواء المواتیة لضمان تشجیع کل الذین یسیرون على خطاه".

لا یکاد یجد الباحث وثیقة أو تصریحا رسمیا تحدث یوما ما عن الأنفاق کعنصر مهدد للأمن القومی المصری، فی حین کانت الرؤیة الإستراتیجیة واضحة فی أن التهدید الحقیقی للأمن المصری یتمثل فی إسرائیل وطموحاتها الاستیطانیة والتوسعیة، على الأقل فقد کان ذلک هو الوضع قبل السنوات الخمس الأخیرة، التی نجحت إسرائیل خلالها فی إقناع بعض القیادات العربیة بأن إیران هی العدو، وتفاقمت حالة العمى السیاسی حتى وجدنا من یدرج حزب الله على قائمة الأعداء، ویضیف إلیهم حماس، على نحو أحدث انقلابا فی الرؤیة الإستراتیجیة أوصلنا إلى ما نحن علیه الآن.

وفی حین ظللنا نحن نتخبط من درک إلى آخر أسفل منه، کانت إسرائیل تواصل تقدمها على أصعدة الحصار وقمع المقامة واستئصال عناصرها، جنبا إلى جنب مع الاستیطان والتهوید، بما یحقق لها التغول أفقیا ورأسیا. وکان حظ غزة أنها ظلت رمزا للمقاومة ورفض الاستسلام، لذلک استهدفها الحصار والقمع والاستئصال. واعتبر ترکیعها أحد عناصر تحقیق الأمن الوطنی الإسرائیلی.

فی عام 1994 قامت إسرائیل بإحاطة قطاع غزة بسیاج طوقها من البر، أما من ناحیة البحر فإنها وضعت العوائق والعراقیل أمام الصیادین الفلسطینیین. وفی عام 2005 قامت ببناء حاجز تحت الماء یمتد إلى البحر من حدودها على غزة، تکون جزءا منه من قوائم خراسانیة محفورة فی قاع البحر والجزء الآخر من سیاج عائم یمتد لمسافة 950 مترا، وبعمق 180 سنتیمترا تحت الماء. فی یونیو/حزیران 2007 بعد سیطرة حماس على القطاع، فرض الحصار الکامل على القطاع وأغلقت المعابر، ومنها معبر رفح بطبیعة الحال، وکان ذلک الحصار بدایة التوسع فی حفر الأنفاق، التی کانت موجودة بصفة استثنائیة من قبل وتستخدم فی عملیات التهریب غیر المشروعة (المخدرات مثلا)، ولکنها تحولت بعد ذلک إلى شریان رئیس یوفر احتیاجات القطاع من مستلزمات الحیاة الضروریة. ومن ثم أصبحت أحد أشکال مقاومة القهر والتجویع. لکن ذلک ظل مقلقا لإسرائیل وأنصارها فی واشنطن، فلم یکفوا عن ممارسة الضغوط على مصر لسد هذه الثغرة.

طوال تلک الفترة ظلت الأنفاق تدمر بجهود مصریة استجابت للضغوط حینا، وبغارات وجهود إسرائیلیة فی أغلب الأحیان. مع ذلک لم تتوقف فیها الحیاة، وبالتالی لم تتوقف الشکوى منها. إلى أن اکتشفنا قصة السور الفولاذی المدفون تحت الأرض على الحدود مع القطاع، الذی بدا وکأنه الحل الأخیر للإجهاز على ذلک الشریان الذی یسهم فی تعزیز صمود أهل غزة وتخفیف وطأة الحصار علیهم.

کشف النقاب عن المشروع سبب حرجا وارتباکا للسیاسة المصریة، التی لم تعترف رسمیا بوجوده، فی حین استنفرت الأبواق الإعلامیة للدفاع عنه وتبریره بدعوى الحفاظ على الأمن القومی، ما یستدعى أسئلة عدة، منها على سبیل المثال:

* إذا کان هناک أی تصور للمساس بأمن مصر الوطنی، فلماذا لم تلجأ مصر قبل إقامة الجدار إلى التفاهم مع حرکة حماس لعلاج الأمر، وهى المسیطرة على القطاع وتحفر تلک الأنفاق بعلمها.. وإذا کانت مصر قد تدخلت لوقف إطلاق الصواریخ من غزة نحو المستعمرات الإسرائیلیة، ألم یکن الأجدر بها أن تتدخل لدى حماس لوقف ما تتصوره مساسا بأمنها؟

* إذا کان السور دفاعا عن الأمن القومی المصری، فلماذا تنهض به الولایات المتحدة وفرنسا وغیرها من الدول الأوروبیة، ولماذا تلک الحفاوة الإسرائیلیة المشهودة به، ومنذ متى کانت تلک الأطراف مشغولة بالدفاع عن أمن مصر والوطن؟

* منذ متى وبأی معیار موضوعی یمکن أن یشکل قطاع غزة تهدیدا لأمن مصر؟ وهل یعقل أن یقام الجدار الفولاذی مع القطاع، فی حین تظل منطقة الحدود المباشرة بین مصر وإسرائیل (فی طابا مثلا) من دون أیة احتیاطات أمنیة، ویرتع فیها الإسرائیلیون کیفما شاؤوا؟

* ألیس الحصار هو المبرر الوحید للتوسع فی حفر الأنفاق، وإذا کانت مصر حریصة حقا على أمنها الوطنی، فلماذا لا تکثف جهودها وتمارس ضغوطا لرفع الحصار، بدلا من أن تتورط فی التصدی للنتائج المترتبة علیه؟

* ما مدى سلامة الموقف القانونی المصری إذا اتهمت أمام المحاکم الدولیة -ناهیک عن محکمة التاریخ - بأنها انتهکت القانون الدولی الإنسانی وأحکام اتفاقیة جنیف الرابعة، وأسهمت فی حرمان الشعب الفلسطینی من أسباب عیشه الخاصة، الأمر الذی یعتبر اشتراکا فی ارتکاب جریمة ضد الإنسانیة.

* إزاء الحفاوة الإسرائیلیة بالموافقة المصریة على بناء الجدار، هل یمکن القول إن تطابقا حدث فی الرؤیة بین الأمن الوطنی الإسرائیلی والأمن القومی المصری؟

* لا خلاف حول حق مصر فی الدفاع عن أراضیها والحفاظ على أمنها، لکن ألا یستحق المساس بالأرض أو تهدید الأمن إجماعا وطنیا، بحیث یعرض على مجلس الشعب على الأقل، بدلا من أن یحاط الشعب المصری علما به من إحدى الصحف الإسرائیلیة؟

حین یفکر المرء فی إجابة تلک الأسئلة فسوف یدرک أن إقامة الجدار لا علاقة لها بأمن مصر، وإنما هی فی حقیقتها استجابة لدواعی أمن إسرائیل، فرضتها السیاسة الأمیرکیة وقامت بتنفیذها تحت أعیننا، ولکننا أغمضنا وسکتنا، إلى أن قامت الصحافة الإسرائیلیة بکشف المستور وفضح المسکوت علیه.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 141304







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)