عن تسیفی لیفنی وجرائم الحرب
لسنا من السذاجة لکی نعتقد أو نصدق تنفیذ أمر قضائی بریطانی باعتقال وزیرة الخارجیة الإسرائیلیة السابقة تسیفی لیفنی، على ضوء اتهامها وإدانتها حسب التقریر الدولی ( تقریر غولدستون) بارتکاب جرائم حرب هی وعدد من المسؤولین الإسرائیلیین على خلفیة الحرب العدوانیة التی شنتها إسرائیل على قطاع غزة فی کانون أول / 2008، فالحکومة البریطانیة وغیرها من الحکومات الغربیة، تدرک جیداً مخاطر وتداعیات تنفیذ مثل هذا القرار، فاعتقال لیفنی یعنی فتح الطریق أمام محاکمة معظم قادة أوروبا وأمریکا من أمثال بوش الأب والأبن وبلیر وثابیترو وغیرهم على خلفیة ما ارتکبوه من جرائم حرب بحق الشعوب، وتحدیداً فی العراق وأفغانستان وغیرها.
ولذلک ما أن أصدر أحد القضاة البریطانیین أمراً باعتقال وزیرة الخارجیة الإسرائیلیة السابقة، حتى ثارت ثائرة إسرائیل وصعدت من حدة لهجتها تجاه بریطانیا، وطلبت منها تغیر أوامر وتشریعات جهازها القضائی، وبما یمنع اعتقال أو محاکمة أی مسؤول أو حتى جندی أو ضابط إسرائیلی على خلفیة الاتهام أو الإدانة بتهم ارتکاب جرائم حرب. وبالفعل فوزیر الخارجیة البریطانیة ورئیس وزرائها اعتذرا لإسرائیل، وأعلنا استعدادهما لتغیر التشریعات القضائیة، وبما یحصن ویمنع اعتقال أی متهم إسرائیلی على خلفیة الاتهام والإدانة بارتکاب جرائم حرب.
وسابقاً عملت اسبانیا على تغیر تشریعاتها القضائیة، لکی تمنع إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائیلیین متهمین بارتکاب جرائم بحق الشعب الفلسطینی، کذلک فـلیفنی لیس فی اسمها ما یمت للعربیة بصلة لا من قریب أو بعید، فلو ورد فی اسمها مثلاً تسیفی محمد لیفنی فسیتم اعتقالها فوراً بتهمة الإرهاب وممارسة جرائم حرب، فالغرب وإسرائیل مارسا دعایتهما وأکاذیبهما وخداعهما عبر ماکنة إعلام منظمة عالمیاً، وفی الکثیر من الأحیان بمساعدة ومشارکة عربیة وإسلامیة على أن مصدر الإرهاب والشرور هم العرب والمسلمین.
فالغرب لم یعهر فقط القیم والمبادئ الإنسانیة من عدل وحریة ومساواة ودیمقراطیة، أو یکیل بمکیالین فیما یخص القوانین والأعراف والمواثیق الدولیة، ویتعامل معها بشکل ازدواجی وانتقائی، ویعمل على تطبیقها وتنفیذها بما یخدم وینسجم مع أهدافه ومشاریعه ومصالحه، بل وصلت المسألة حد التعهیر والازدواجیة لجرائم الحرب والإبادة الجماعیة، فالعراق الذی احتل تحت حجج وذرائع امتلاکه لأسلحة الدمار الشامل، والتی ثبت لاحقاً زیفها وکذبها، وما زال یقتل شعبه ویهجر أبناؤه وتنهب خیراته وتقسم جغرافیته على خلفیة تلک الاتهامات الباطلة، لم یحاکم أی مسؤول أمریکی أو غربی على خلفیة ارتکاب جرائم حرب بحق العراق والعراقیین، بل مثل هؤلاء القتلة والمجرمین تحولوا بقدرة قادر إلى رسل سلام ومحبة من أمثال بلیر وغیره، حتى أن الحکومة الأمریکیة ألزمت الحکومیة العراقیة القائمة بفعل الوجود والحمایة الأمریکیة بتوقیع اتفاقیة أمنیة تحظر على الحکومة العراقیة اعتقال أی جندی أمریکی ومحاکمته على خلفیة ارتکاب جرائم حرب، رغم الأدلة القاطعة والبیانات الواضحة على أن هناک جرائم حرب ارتکبت فی السجون العراقیة بحق الأسرى العراقیین، وأشهرها فضیحة سجن أبو غریب، وأیضاً ثبوت ضلوع عصابات "بلاک ووترز" الممولة والمدعومة أمریکیاً فی ارتکاب جرائم حرب بحق المدنیین العراقیین، ولکن هذه الجرائم الواضحة والبینة، بل وحتى التی أکدت لجان تحقیق دولیة محایدة وحتى منحازة غربیاً على وقوعها وارتکابها، لا تکفی من أجل اعتقال وإدانة ومحاکمة أی مسؤول أمریکی أو غربی أو إسرائیلی بتهم ممارسة وارتکاب جرائم حرب، لأن هذا البند من وجهة نظرهم خاص بالعرب والمسلمین، کما هو الحال فی امتلاک أسلحة الدمار الشامل، فإسرائیل لها الحق بامتلاک ترسانة من أسلحة الدمار الشامل، أما سعی أی دولة عربیة أو إسلامیة لامتلاک هذا السلاح، فهو ممنوع ویشکل خطراً على السلم والاستقرار العالمیین وتهدید لدول الجوار والأمن فی المنطقة. والدولة الساعیة لامتلاکه تعاقب بکل الوسائل من عقوبات ومقاطعة دولیه وحصار سیاسی واقتصادی وتجاری ومالی وغیرها، بل وحتى استخدام العمل العسکری لمنعها من امتلاک هذا السلاح، وهذا ما هو حاصل مع إیران حالیاً.
والمفارقة الواضحة والصریحة للنفاق والتعهیر الأمریکی والغربی للقوانین والمواثیق والأعراف الدولیة، ما هو حاصل مع السودان، فمن المعروف أن أوروبا وأمریکا فی إطار ما یسمى بسیاسة الفوضى الخلاقة، تعمل على تذریر وتقسیم الکیانات الجغرافیة للبلدان العربیة، وإدخالها فی أتون حروب داخلیة بتمظهرات قبلیة وعشائریة وطائفیة ومذهبیة، عملت على التدخل السافر فی شؤون السودان الداخلیة، وسعت إلى سلخ إقلیم دارفور السودانی الغنی بالثروات عن الحکومة المرکزیة فی الخرطوم، واستغلت الاشتباکات بین الجماعات الانفصالیة والمدعومة من قبل الغرب وأمریکا فی الإقلیم وبین الحکومة السودانیة، وعملت على الضغط على محکمة الجنایات الدولیة من أجل استصدار قرار یتهم الرئیس السودانی عمر البشیر بالتحریض على ارتکاب جرائم إبادة جماعیة، وبالفعل فی شهر حزیران/2008 أصدر المدعی العام لمحکمة الجنایات الدولیة" القاضی لویس أکامبو" مذکرة توقیف بحق الرئیس السودانی بتهمة التحریض على ارتکاب جرائم إبادة جماعیة.
وهذا القرار شکل تعدیاً صارخاً على سیادة السودان وتدخلاً سافراً فی شؤونه الداخلیة، وتجاهلاً لاتفاقیة جنیف لعام 1961 حول حصانة رؤساء الدول، ولکن هذا القرار المدعوم أمریکیاً وأوروبیاً یجب العمل على تطبیقه والالتزام به. والشیء المخجل والمهین أن من یبادر إلى الالتزام بمثل هذه القرارات والأوامر الغربیة والأوروبیة هم العرب والمسلمون، فالجمیع یذکر أن أیا من الزعماء العرب أثناء فرض العقوبات الغربیة والأمریکیة على العراق قبل احتلاله لم یجرؤ على خرقها، والذین بادروا لخرق الحظر والعقوبات هم من غیر العرب.
إن من یعید الاعتبار إلى القوانین والأعراف والمواثیق الدولیة، هو أن یتجاوز العرب حالة الضعف والوهن التی تعیشها الأمة، والتی جعلتها مطیة للصغیر قبل الکبیر، وهذا یتطلب تجاوز الخلافات العربیة القائمة، والعمل على تفعیل معاهدات الدفاع العربی المشترک، ومغادرة دوائر تآمر العرب على بعضهم البعض، وصیاغة سیاسة واستراتیجیة عربیة موحدتین، تقومان على التعامل مع الغرب وأمریکا على قاعدة المصالح، واستخدام کل عناصر القوة العربیة فی تلک التعاملات والمعارک، حینها فقط تصبح محاکمة لیفنی وغیرها من مجرمی الحرب الإسرائیلیین والأوروبیین والأمریکان ممکنة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS