فخ إسرائیلی للعرب.. وأوباما (صبحی غندور)
* صبحی غندور
اختیار الرئیس الأمیرکی باراک أوباما للقاهرة من أجل مخاطبة العرب والمسلمین کان مبنیّاً حتماً على أهمّیة مکانة مصر فی العالمین العربی والإسلامی، وعلى ما ترید واشنطن دعمه من سیاسة خارجیة تتّبعها الحکومة المصریة خاصّةً تجاه الصراع العربی/الإسرائیلی.
لکن اختیار الزمان أیضاً له اعتبارات هامّة. فزیارة أوباما و"رسالته" مؤقّتة زمنیاً مع ذکرى حرب 1967، وما تعنیه هذه الذکرى لعموم المنطقة کلّها. ربّما أراد أوباما فی اختیار هذا الزمان أن یذکّر العرب من جهة بهزیمتهم العسکریة، ویذکّر الإسرائیلیین من جهة أخرى بأنّ احتلالهم للأرض وانتصارهم العسکری لم یحقّق لهم رغم مرور أکثر من أربعة عقود أمناً ولا سلاماً.
أیضاً، فإنّ مخاطبة العرب والمسلمین، من أوّل عاصمة عربیة وقّعت معاهدة صلح مع إسرائیل، له مغزاه الذی تحرص علیه الآن إدارة أوباما فی سعیها لتسویة شاملة بالمنطقة.
لکن الرئیس أوباما یدرک أنّ ما یأمله العرب والمسلمون من تغییر فی سیاسة الولایات المتحدة سیکون محکّه الصراع العربی/الإسرائیلی، والقضیة الفلسطینیة تحدیداً. لذلک فإنّ اختیار القاهرة کمکان، وعشیّة ذکرى حرب 1967 کزمان، لا یکفیان وحدهما لصنع نظرة جدیدة للسیاسة الأمیرکیة.
تتحدّث إدارة أوباما الآن عن ضرورة وقف بناء أو توسیع المستوطنات الإسرائیلیة، وعن التمسّک بصیغة حلّ الدولتین. وهذا الأمر هو مدخل مهمٌّ طبعاً، لکن ماذا لو تکرّر ما حدث فی العام 1991 من خلاف أمیرکی إسرائیلی حول القضیة نفسها (تجمید المستوطنات) ومن صیغة مؤتمر مدرید الذی شهد تجاوز فکرة ما حدث مع مصر السادات من مفاوضات ثنائیة مباشرة؟!
فإسرائیل (یدعمها الموقف الأمیرکی) حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّک بأسلوب المفاوضات المباشرة بین إسرائیل وأی طرف عربی، وعلى الدعوة إلى حلول منفردة مع الأطراف العربیة؛ ممّا یشرذم الموقف العربی أولاً (کما حدث بعد المعاهدة مع مصر)، وممّا یؤدّی أیضاً إلى تقزیم القضیة الفلسطینیة وجعلها فی النهایة مسألة خلاف محصورة فقط بین الطرفین الإسرائیلی والفلسطینی؟!
ألم ینتهِ مؤتمر کامب دیفید فی مطلع التسعینات إلى هذه النتیجة العملیة بعدما کانت الفکرة الأساسیة منه هی إعداد تسویة شاملة على کلّ الجبهات، واعتماد رعایة دولیة لهذه التسویة وعدم حصرها بالمفاوضات الثنائیة؟؟ ألم یتحوّل مؤتمر مدرید إلى عذر من أجل الضغط على العرب للتطبیع مع إسرائیل قبل انسحابها من الأراضی المحتلّة؟ فما الذی نتج عملیاً عن مؤتمر مدرید غیر التطبیع حتى مع دول عربیة وإسلامیة غیر معنیّة مباشرةً بالصراع مع إسرائیل؟!
أمّا القضیة الفلسطینیة فقد جعلها اتفاق أوسلو (الثنائی) مسألة خاضعة للتفاوض فقط بین إسرائیل والسلطة الفلسطینیة التی هی أقلّ من حکم ذاتی على الأراضی الفلسطینیة المحتلّة. وقد أخذت إسرائیل من قیادة منظمة التحریر الفلسطینیة الاعتراف بها وبالتعهّد بعدم استخدام أی شکل من أشکال المقاومة، مقابل الاعتراف فقط بقیادة المنظمة ولیس بأی حقّ من حقوق الشعب الفلسطینی!
الآن تتجمّع قطع مبعثرة لتشکّل لوحة شبیهة بما حدث فی مطلع عقد التسعینات، من حیث "أوجه الخلاف" بین واشنطن وتل أبیب أو من حیث مشاریع صیغ التسویة الشاملة.
هناک اختلاف کبیر طبعاً بین ظروف الحاضر والماضی وبین إدارتیْ جورج بوش الأب (وبعده کلینتون) وبین إدارة أوباما، لکنْ هناک تشابه کبیر بین واقع الحال العربی الآن وبین ما کان علیه منذ عقدین من الزمن. الأمر نفسه ینطبق على الطرف الإسرائیلی أیضاً. فأسلوب التصلّب الإسرائیلی یتکرّر مقابل أسلوب التنازلات العربیة!! وهاهی الآن حکومة نتیاهو ترفض تجمید بناء المستوطنات وتوسیعها حتى یصبح هذا الأمر هو القضیة، وحتى یکون التنازل الإسرائیلی عنه مقابل ثمن باهظ تدفعه واشنطن مساعداتٍ عسکریة ومالیة، ویدفعه العرب والفلسطینیون بمزیدٍ من التنازلات السیاسیة.
ما أسخف الحدیث الأمیرکی والدولی الآن عن ضرورة وقف بناء المستوطنات "غیر القانونیة" و"غیر الشرعیة"، فکل المستوطنات هی أصلاً غیر شرعیة وغیر قانونیة لأنّها تحصل على أراضٍ محتلّة حسب الوصف "القانونی" و"الشرعی" الدولی. فالمستوطنات هی إفراز لحالة احتلال وهذا ما یجب الحدیث عنه. القضیة الأساس هی قضیة الاحتلال ولیس المستوطنات، ومن یرفض المستوطنات علیه رفض الاحتلال أولاً، ومعاقبة المحتل إذا لم یُنهِ احتلاله، کما علیه دعم من یقاوم هذا الاحتلال. هذه هی الشرعیة الدولیة، وهذا هو قانون وسیرة الاحتلال فی أیّ زمان ومکان. فهل ستتعامل إدارة أوباما مع قضیة المستوطنات على أنّها جزء من حالة احتلال؟
إنّ ما یحصل الآن من ترکیز على موضوع المستوطنات فیه شیء من التبریر لما قد یحدث من ضغوطات أمیرکیة ودولیة على الأطراف العربیة لکی تباشر خطوات التطبیع مع إسرائیل ربّما لمجرّد إعلان حکومة نتیاهو عن تجمید المستوطنات وعن استعدادها لدراسة فکرة حل الدولتین من خلال استئناف المفاوضات مع الفلسطینیین، بحیث یتزامن ذلک مع انعقاد مؤتمر دولی یسعى لتسویات على الجبهتین السوریة واللبنانیة، ویؤدّی إلى التطبیع العربی والإسلامی الشامل مع إسرائیل.
ولا أعلم کیف سیکون مصیر الدولة الفلسطینیة المنشودة أو القدس أو حقّ العودة أو حتى مصیر حدود الدولة الفلسطینیة ومدى سیادتها على أرضها، إذا تحقّقت فعلاً تسویات شاملة على کل الجبهات المحیطة بإسرائیل، وإذا حصل التطبیع مع کل الحکومات العربیة، وفی ظل سلطة فلسطینیة ملزمة بمنع أی ظاهرة مقاومة للاحتلال الإسرائیلی؟!
ما یملکه العرب والفلسطینیون من وسائل ضغط على الاحتلال الإسرائیلی ومؤیّدیه یکمن فی عدم الاعتراف بإسرائیل أو التطبیع معها، إضافةً إلى أسلوب المقاومة. وهاهی مسیرة التسویات مع إسرائیل، منذ معاهدة کامب دیفید، مروراً باتفاقیة أوسلو ووصولاً إلى المؤتمر الدولی القادم، تنزع من الفلسطینیین والعرب کلّ "أسلحتهم" بما فیها بالحدّ الأدنى "سلاح" وحدتهم الوطنیة.
مشکلة الفلسطینیین والعرب لیست فقط مع "الخصم والحکم" بل هی أصلاً مع أنفسهم، فالطرف الفلسطینی أو العربی الذی یقبل بالتنازلات بلا مقابل، هو الذی یشجّع الآخرین على طلب المزید ثمّ المزید.
وحینما تضغط واشنطن الآن، وقد فعلت ذلک فی إدارات سابقة، من أجل التطبیع مع إسرائیل ووقف ظاهرة المقاومة قبل التسویات النهائیة، فما الذی یبقى للفلسطینیین والعرب کی یضغطوا فیه على إسرائیل؟!
إنّ الرئیس أوباما یشیر دائماً إلى مزیج القیم والمصالح الأمیرکیة کمرجعیة له، فعسى أن یدرک الآن حجم التناقض الکبیر بین دعم إسرائیل وبین قیم الحرّیة والعدالة، کما مسؤولیة هذا الدعم عن الأضرار الکبیرة الحاصلة فی المصالح الأمیرکیة.
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS