إیران والملف النووی نظرة أوروبیة جدیدة
إیران والملف النووی: نظرة أوروبیة جدیدة؟
صدر حدیثاً عن معهد الدراسات الأمنیة التابع للاتحاد الأوربی دراسة معمقة ومثیرة عن ایران وملفها النووی والموقف الأوروبی، بعنوان "اعادة التفکیر بإیران: من المواجهة الى التعاون" (ضمن سلسلة أوراق شیلیوت التی یصدرها المعهد من مقره فی باریس، آب 2008). الدراسة المطولة والتی تصل الى ستین صفحة کتبها کریستوف بیرترام الذی کان مدیراً للمعهد الألمانی للشؤون الدولیة والأمنیة، وقبلها بسنوات مدیراً للمعهد الدولی للدراسات الاستراتیجیة فی لندن.
فی هذه الدراسة یقدم بیرترام رؤیة تخالف وفی وجهتها العامة النظرات والفرضیات الأساسیة التی تقوم علیها السیاسة الأوروبیة (ناهیک عن الأمیرکیة) إزاء ایران وطبیعة العلاقة معها ومعالجة ملفها النووی. الأطروحة الأساسیة التی یدافع عنها هی الامکانیة المُتاحة لتحویل ایران من خصم الى شریک (مع أوروبا، والغرب)، وهی ما فسرها فی القسم الأول من دراسته. وهو یرفض التهویل الغربی والمبالغات التی ترى الملف النووی الایرانی مصیر الأمن العالمی، وأن أمن الولایات المتحدة واسرائیل وأوروبا سوف یتهدد جملة وتفصیلا. لیس هذا معناه أنه یقلل من مخاطر حصول ایران على السلاح النووی من وجهة نظر غربیة، لکنه یرى السیاسة الغربیة تغلب علیها الخطابة والنبرة العالیة والاستعدائیة ولیس البراغماتیة. وهو یعود الى عدة سنوات وتحدیداً سنة 2003 وبعد أن ضمن جورج بوش ایران فی محور الشر. عندها قدمت ایران مبادرة الى الولایات المتحدة عبر سویسرا لفتح حوار مع واشنطن لحل کل الاشکالات بین البلدین، بما فیها التخصیب، والموقف من اسرائیل، ودعم "حماس" و"حزب الله".
یقول بیرترام إن ایران کانت مستعدة، عبر رئیسها وعبر مرشدها الروحی، أن توقف التخصیب، وأن تقترب من المبادرة العربیة للسلام فی ما خص الموقف من اسرائیل، وأن تعدل سیاستها مع "حزب الله" و"حماس"، لکن الولایات المتحدة رفضت ذلک کله.
نتائج السیاسة الأمیرکیة المتغطرسة قادت الى تشدد إیرانی تعزز بعد فوز أحمدی نجاد بالانتخابات الرئاسیة سنة 2004، مما قاد الى نظم العلاقة مع إیران على أساس المواجهة. والآن یقترح بیرترام التوقف عن هذه المواجهة، مع مغادرة بوش وقدوم ادارة أمیرکیة جدیدة، واستبدالها بالشراکة والتعاون. ولتدعیم أطروحته ناقش بیرترام، بل قوض، الأرکان الأساسیة للسیاسة الغربیة تجاه ایران عبر ثلاثة أقسام أخرى استعرضت مجمل أوجه السجال الأوروبی والغربی فی هذه المسألة. یرى بیرترام أن السیاسة الغربیة تضمنت الاعتماد على عدة أدوات فی نفس الوقت: التهدید باستخدام القوة العسکریة، ممارسة العقوبات الاقتصادیة، استخدام المنظمة الدولیة للطاقة الذریة من خلال سیاسة التفتیش على مواقع الاستخدامات المدنیة المعلنة من قبل ایران، ثم المفاوضات.
العنصر الأول فی تلک السیاسة وهو التهدید باستخدام القوة العسکریة لیس له صدقیة حقیقیة. فالولایات المتحدة والغرب عموماً وخاصة بعد فشل أو على الأقل تردی المغامرة الأمیرکیة فی العراق فان الشروع بمغامرة أخرى ضد ایران یقع خارج حدود المنطق والمعقولیة. وحتى لو تم استخدام القوة العسکریة، یتساءل بیرترام، فهل یعنی ذلک ایقاف أیة مطامح ایرانیة نوویة؟ وماذا عن المنعکسات التی ربما قد لا یمکن تخیلها من ناحیة اقتصادیة ونفطیة وتدمیریة فی المنطقة، وهل بالامکان معرفة أو توقع اتجاهاتها، خاصة فی ظل أزمة اسعار عالمیة غیر مسبوقة فیما خص النفط؟
یرى بیرترام أن العقوبات الاقتصادیة، العنصر الثانی فی تلک السیاسة، وهی جزئیة بکل الأحوال، لم تؤد الى الأهداف التی أرادها الغرب، بل على العکس زادت من تشدد القیادة الایرانیة وکرست من موقفها الشعبی والإقلیمی، تحت وطأة الشعور بالحصار. لکن الأهم من ذلک أن تلک العقوبات لم تکن فعّالة فی أی مرحلة من المراحل حیث افترق الموقف الأمیرکی عن الموقف الأوروبی ازاءها. بل أکثر من ذلک لم تستطع الولایات المتحدة تخفیض مستویات التبادل الاتقصادی والتجاری بین أوروبا عموماً وألمانیا تحدیداً وایران.
والعنصر الثالث وهو استخدام الوکالة الدولیة للطاقة الذریة وضمن برامج التفتیش التی تقرها معاهدة الحد من الانتشار النووی لم یکن هو الآخر ذا نتائج حاسمة فی الاجابة على السؤال المرکزی وهو مدنیة أم عسکریة البرنامج النووی الایرانی. فجولات التفتیش سمحت بها ایران للمواقع التی تقول ان برنامجها النووی یتم فیها. وبحسب الاتفاقیات الدولیة المُصادقة علیها ایران فانه من غیر المسموح للوکالة أن تقوم بجولات تفتیش فجائیة على أیة مواقع أخرى غیر معلنة رسمیاً من قبل طهران.
أما المفاوضات فهی الأخرى لم تصل بالطرفین الى النتیجة التی یریدها کل طرف: الغرب أن یتوقف التخصیب الایرانی کلیة، وایران أن یستمر التخصیب ویتواصل البرنامج النووی ضمن توافق مع الأطراف الدولیة. التمسک بالمواقف القصوى أدى الى ابقاء الفجوة الکبیرة التی عززها منطق اعتبار ایران خصماً یجب اخضاعه لمنطق الارادة الغربیة والأمیرکیة تحدیداً.
یرى بیرترام : أن الزعم الغربی بأن ایران تخطط لبناء القنبلة النوویة یظل فی مربع التکهنات ولیس هناک أدلة مؤکدة علیه. وهو یمیل، وان لم یفصح عن ذلک بشکل مباشر جدا، الى الرأی الذی یقول إن ایران مهتمة بالابقاء على "فکرة السعی نحو امتلاک القنبلة" ولیس امتلاکها. وهذه السیاسة تجبر الغرب على التحدث معها وعلى احترام مصالحها فی المنطقة. وهو یشرح، وبحذر، فیما ان کان التفکیر الاستراتیجی الایرانی مقتنعا تماماً بامتلاک السلاح النووی أصلاً. وهو یقول ان المفارقة النظریة فی السلاح النووی هی أنه، أولاً لا یُستخدم بل یوظف للردع، وثانیاً کلفة صیانته عالیة، وثالثاً هناک خرافة تقول إن امتلاکه یحقق للدولة المعنیة نفوذا ومکانة دولیة اضافیة. وهو یقول ان لایران فی الوقت الحالی ورغم کل الحصار علیها مکانة اقلیمیة ونفوذا فی أکثر من ملف من ملفات المنطقة، ولیس من المتوقع أن یتضاعف ذلک النفوذ بطریقة دراماتیکیة ان امتلکت ایران سلاحاً نوویاً.
لکن خلال سنوات الفشل المتراکم والشکوک المتبادلة بین الغرب وایران ثمة حالة نشأت فی المناخ الایرانی، سببها السیاق العام لـ"المواجهة" الایرانیة ــ الغربیة وهی نجاح "الخطاب النجادی" فی اعلاء القیمة المعنویة والسیاسیة والوطنیة لمسألة تخصیب الیورانیوم لتصبح متعلقة بالکرامة الوطنیة ولیس فقط بالمغزى التنموی والاقتصادی وغیر ذلک. فقد تمت تعبئة الجمهور الایرانی وراء هذه القضیة باعتبارها رمز صمود ایران أمام ضغوط الولایات المتحدة وضغوط الغرب، وغدت تمثل البارومیتر الذی تُقاس به الصلابة الوطنیة ومدى النجاح فی اثبات استقلالیة وقوة ایران وعدم خضوعها للاملاءات الغربیة.
یطرح بیرترام فی دراسته مقاربتین الأولى متفائلة وربما طموحة، وهو نفسه یقر بأنها تحتاج الى جهود غیر عادیة، والثانیة أقل تفاؤلا وطموحاً. فی الأولى یدعو الى استبدال المشارکة بالمواجهة فی سیاسة الغرب تجاه ایران، أی أن تتحول ایران من طرف خصم الى طرف شریک. وفی الثانیة یقترح سیاسة الانفراج المقصود (détente) حتى لو کانت من طرف واحد، أی من الطرف الغربی.
وهو فی نهایة المطاف یرید من أوروبا سیاسة جدیدة حتى لو لم تکن وثیقة الصلة بالسیاسة الأمیرکیة ازاء الملف النووی الایرانی، لأن مصالح أوروبا مختلفة عن مصالح الولایات المتحدة ونظرتها فی هذا الملف. واذا کانت أوروبا تفکر الآن بهذه الطریقة وبافتراق مصالحها الاقلیمیة فی ملف حساس کهذا عن المصالح الأمیرکیة، فلماذا لا یفکر العرب بسیاسة استراتیجیة خاصة بهم تجاه ایران، مبنیة على حقائق الأمر الواقع من ناحیة، وعلى مصالحهم معها من ناحیة ثانیة.
( بقلم الکاتب والباحث الفلسطینی فی جامعة کامبردج الدکتور خالد الحروب )
ن/25