أطفال العراق فی إسرائیل عار على العرب
عندما نکتب فی هذا الموضوع سوف یخرج علینا من یخرج محاولا کما جرت العادة منذ سقوط بغداد فی قبضة الاحتلال الأمیرکی تحمیل النظام العراقی السابق هذه المسألة، فی محاولة للتغطیة على کل الفشل الذی مرت به أمیرکا وأعوانها وحلفاؤها خلال سنوات الاحتلال الخمسة التی خضع فیها العراق لکل أنواع التدمیر والخراب والفساد والإفساد، ونحن عندما نقول هذا فإننا نعلم بأن الذین یحاولون تحمیل النظام السابق کل أخطاء الماضی والحاضر لن یعجبهم ما نقول، ویبدو بأنهم على أی حال استساغوا قصة تحمیل النظام السابق کل مصائب العراق واعتقد أنهم سوف یستمروا فی هذا إلى سنوات کثیرة قادمة من أجل التغطیة على عجزهم.
لا أحد ینکر بأن النظام الصحی فی العراق تراجع إلى حد کبیر خلال سنوات الحصار التی فرضتها أمیرکا على العراق منذ عام 1990 وحتى سقوط بغداد وقد ازداد الأمر سوءا خلال الفترة الأخیرة التی سبقت الاحتلال، والجمیع یعلم بأن العراق کان یعانی من شح کبیر فی کل ما یتعلق بهذا المجال، ونحن هنا لسنا بصدد نقاش أسباب ذلک وما هی الأهداف التی کانت وراء ذلک بقدر ما نرید أن نناقش موضوع الأطفال العراقیین الذین یتم إرسالهم إلى إسرائیل من اجل ما یقال بأنه العلاج.
القضیة التی أرادت الحکومة العراقیة التنصل منها أو إنکارها أصبحت قضیة مفضوحة مثلها مثل کل القضایا الأخرى فی العراق وفی العالم العربی والثالث، حیث یتم فی البدایة الإنکار وبشکل عال وبضجیج وصخب ما یلبث أن یهدأ بعد أن 'یذوب الثلج ویبان المرج'، وهذا ما حصل فی قضیة الأطفال حیث أنکرت الحکومة العراقیة الموضوع الذی ثبت فیما بعد بأنه حقیقی ومؤلم ویبعث على الغثیان والتقزز.
مجلس النواب العراقی أکد الخبر وقال بان جمعیة أو منظمة ادعى بأنها أمیرکیة تعمل فی المنطقة الخضراء تقوم بإرسال الأطفال العراقیین إلى إسرائیل من اجل العلاج، وقد اعتبر البرلمان أن هذه القضیة مسیئة للعراقیین کما ودان الخطوة وطالب الحکومة بان تحقق فی الأمر واتخاذ الإجراءات المناسبة.
هذا الذی صدر عن مجلس النواب العراقی بیان هزیل مخجل أکثر من قضیة إرسال الأطفال نفسها، لأنه کان یجری تحت سمع وبصر هذا المجلس، لا بل قیل بان بعض النواب أنفسهم متورط فیه، وهو – أی مجلس النواب – على أی حال لم یکن أکثر من بوق آخر من أبواق الحکومة وساترا فی کثیرا من الأحیان لعورتها حتى لا نتمادى فی التوصیف وبالتالی یعتبرنا البعض أننا نتجاوز حدود اللیاقة، وهذا الموقف هو ذاته الذی اتخذه المجلس فی العشرات والمئات إن لم یکن الآلاف من القضایا التی لم یتم التحقیق فیها، ونعرف کما یعرف العالم بان تلک القضایا لم تفتح ولم یقدم أحد من بعدها إلى المحاکمة، وهذا ما جعل البلد عرضة لکل أنواع السلب والنهب بحیث أصبحت من أکثر الدول فسادا فی العالم.
الأطفال العراقیین الذین یتم جلبهم إلى إسرائیل من اجل العلاج یتم استقدامهم بعد أن یکونوا قد تم استحضارهم وفحصهم وترتیب کل ما یتعلق بهم فی المنطقة الخضراء التی یوجد فیها مجلس النواب العراقی، أی أنهم لا یتم التعامل معهم فی المریخ، والقضیة لیست قضیة مفاعل دیمونا النوویی بحیث تکون محاطة بکل هذه السریة بحیث لا احد من النواب یعلم بها، ومن المعیب أن یکون هنالک العشرات من النواب الذین استوطنوا المنطقة الخضراء لخوفهم من مغادرتها ولا یعلمون بان هنالک أطفال یتم 'شحنهم' إلى إسرائیل من اجل العلاج، وهذا لا یمکن أن ینطلی على عقولنا ولا یجب أن یقال من الأساس لأن فیه إساءة للنواب انفسهم قبل ان یکون مسیئا لأی کان.
أن یذهب أطفال من العراق أو من غیر العراق إلى خارج بلادهم للعلاج فهذا أمر طبیعی وهو یحدث فی کل الدنیا، أما أن تضیق الدنیا على هؤلاء الأطفال فلا یجدون إلا إسرائیل للتوجه إلیها، فهذا فی الحقیقة أمر فی غایة الابتذال والمهانة، وهذه المهانة 'تلطخ' بدایة القائمین على الشأن العراقی وعلى وزارة الصحة العراقیة قبل أی طرف آخر ،عدا عن أن هذه المهانة تمتد لتصل کل طرف تورط فی هذا الأمر بغض النظر عمن یکون.
إن توجیه الاتهام إلى منظمة أمیرکیة بأنها وراء هذا العمل، وأنها أتت إلى العراق وأنها تقیم فی المنطقة الخضراء إنما یدلل على أن الحکومة العراقیة والبرلمان العراقی لا یعلم ما الذی یجری فی العراق فی أبسط المسائل وهذا ما یتنافى مع کل ما یقال عن أن الحکومة العراقیة هی صاحبة قرار مستقل وان البلد ذات سیادة وإرادة حرة لیس سوى جعجعة فارغة.
إن ما قیل عن دوافع إنسانیة فی الموضوع یمکن تفهمها ونحن هنا نحاول أن نجد الأعذار التی یمکن أن تدفع الأهل لفعل ذلک والموافقة على إرسال أطفالهم إلى إسرائیل من اجل العلاج، برغم عدم توفر القناعة الکاملة لدینا حول ذلک، ونحن لا نرید أن نخوض فی مجال المشاعر الإنسانیة هنا بقدر ما نحاول أن نتساءل عمن یقف وراء ما یحدث، وما هی الأبعاد الحقیقیة لذلک، خاصة وأننا لا یمکن ولا بأی حال من الأحوال أن نجد أی بعد أنسانی وراء الموضوع بالنسبة إلى إسرائیل التی لا تتردد فی قتل وجرح وإعاقة وسجن عشرات الأطفال الفلسطینیین فی کل شهر، وهی التی لم تتوان عن قتل عائلات بأکملها، وتنفیذ مجازر منظمة بحق أبناء الشعب الفلسطینی واللبنانی، وهی التی ارتکبت المذابح بحق الأسرى المصریین ومدرسة بحر البقر وغیرها، وهی التی تقف وراء عشرات حالات الإجهاض للنساء الفلسطینیات على الحواجز العسکریة الإسرائیلیة من خلال منعهن من التوجه إلى المستشفیات، ولا یمکن أن یکون لذلک أی بعد إنسانی بالنسبة لدولة الاحتلال التی تغلق المعابر حول القطاع وهذا ما تسبب بموت ما یزید على 170 فلسطینیا بسبب هذا الإغلاق حتى کتابة هذا المقال.
الموضوع لا علاقة له بالإنسانیة أو البعد الإنسانی لا من الناحیة الإسرائیلیة أو الأمیرکیة، فلا یمکن أن تکون أمیرکا التی تسببت بمقتل أکثر من ملیون طفل عراقی خلال سنوات الحصار، وهل من الممکن أن تکون أمیرکا تبحث عن تخفیف آلام الأطفال العراقیین بعد ان ساهمت بتدمیر کل المستشفیات العراقیة وتسببت بهجرة الکفاءات العراقیة فی کل المجالات، وهی التی تسببت بکل الدمار للعراق.
أما عربیا وإسلامیا وهذا هو المهم، فان من العار أن یکون هنالک کل هذا العدد من الدول التی تقول بأنها عربیة أو إسلامیة ولا تتدخل فی مثل هذه القضیة ' ونسال هنا عن قصة المرأة التی صرخت وامعتصماه إذا ما کان العربان سمعوا بها أم لا، وأخشى أن نسال مستقبلا عما إذا کانت فعلا حصلت أم لا' ونتساءل هنا عن کل هذه الملیارات التی تدخل میزانیات الدول العربیة المنتجة للنفط بشکل خاص، والتی تضاعف دخلها خلال أقل من خمسة سنوات إلى أربعة مرات بسبب ارتفاع أسعار النفط، هل هنالک مشکلة فی تخصیص ولو 1% من الزیادة التی طرأت على أسعار النفط من اجل علاج لیس أطفال العراق فحسب بل وأطفال العالم، خاصة وان هذه النسبة لن تؤثر على مدخولاتهم، عدا عن أنها تشکل ملیارات من الدولارات التی من الممکن أن تکون کافیة لعدم تعرض هذا الطفل العراقی وأهله إلى هذه المهانة بالتوجه إلى حیث لم یکن لیعتقد ولو للحظة بأنه سیکون مضطرا لذلک فی ظل هذا الواقع العربی 'الرذیل'.
أما أن یتحول العراقی أو الرأی العام العراقی کما أشارت بعض التعلیقات 'ضد العرب' التی أثیرت حول الموضوع، فهذا متوقع فی ظل التآمر الذی مارسه العربان على العراق، وفی ظل فرض الحصار علیه بأید عربیة، وفی ظل إدارة الظهر له بعد أن وقع فریسة للاحتلال الأمیرکی وفی ظل فتح الأجواء والمیاه والأرض العربیة من اجل ذبح العراق، ثم لماذا یجب أن نتوقع من الإنسان العراقی أن لا یدیر الظهر للعربان وهو الذی وقف إلى جانبهم فی کل ملماتهم ودافع عن بلادهم بینما قاموا هم بذبحه من الورید إلى الورید.
ذهاب الأطفال العراقیین للعلاج فی دولة إسرائیل لیس سوى حلقة من حلقات الضعف العربی فی هذا الزمن البائس، کما انه مهانة من المهانات الجدیدة تلحق بأمة العرب قبل أی جهة أخرى، وهو عار کذلک فی هذه الحالة یلحق لیس فقط بالمؤسسات الرسمیة العربیة متمثلة بالأنظمة والحکومات، لا بل هو یمتد لیصل إلى المنظمات العربیة غیر الرسمیة والى المنظمات الإنسانیة العربیة والحقوقیة ونقابات الأطباء وکل من له علاقة بهذا المجال، وبدلا من کل هذا الضجیج والصراخ، على هذه المنظمات أن تتعامل مع الموضوع بشکل جدی وان تبادر إلى الفعل والعمل بدلا من التباکی على استباحة أطفال العراق بهذا الشکل المهین.
( للکاتب والباحث الفلسطینی رشید شاهین من بیت لحم )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS