الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الفوضى فی الحقّ لا تهزم الباطل المنظّم!

عام 1897، قال تیودور هرتزل مؤسس الحرکة الصهیونیة العالمیة، مخاطباً أعضاء المؤتمر الصهیونی الأول الذی انعقد فی سویسرا، "إنّکم بعد خمسین عاماً ستشهدون ولادة دولة إسرائیل".

وکان کلام هرتزل سبباً لاستهزاء بعض أعضاء المؤتمر، لأنّ المسافة الزمنیة التی تحدّث عنها لم تکن بنظر هذا البعض کافیةً لإحداث تغییراتٍ فی العالم وفی أرض فلسطین لتظهر، کحصیلة لهذه المتغیرات، دولة إسرائیل.

وبالفعل، فقد شهدت نهایة العقد الرابع من القرن العشرین إعلان دولة إسرائیل وبدء مرحلة جدیدة فی تاریخ المنطقة العربیة، وانتقالاً نوعیاً فی عمل الحرکة الصهیونیة بحیث أصبح للمنظمة الصهیونیة العالمیة دولة اعترفت بها الأمم المتحدة ولکن لیس لهذه الدولة خارطة تبین حدودها الدولیة النهائیة.

وفی أواسط الخمسینات تبادل بن غوریون (رئیس وزراء إسرائیل السابق) مع وزیر خارجیتها آنذاک موسى شاریت، عدّة رسائل تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دویلة على الحدود الشمالیة مع لبنان تکون تابعة لإسرائیل ومدخلاً لها للهیمنة على لبنان والشرق العربی کلّه. وکان الحل فی خلاصة أفکار هذه الرسائل: البحث عن ضابط مسیحی فی الجیش اللبنانی یعلن علاقته بإسرائیل ثمّ یدخل الجیش الإسرائیلی ویحتل المناطق الضروریة وتقوم دولة مسیحیة متحالفة مع إسرائیل.

وهذا المشروع الإسرائیلی رأى النور عام 1978 حینما أعلن الرائد فی الجیش اللبنانی سعد حداد إنشاء "دولة لبنان الحر" فی الشریط الحدودی بین لبنان وإسرائیل.

وفی شباط/فبرایر 1982، نشرت مجلة "اتجاهات -کیفونیم " التی تصدر فی القدس، دراسة للکاتب الصهیونی أودید بینون (مدیر معهد الدراسات الإستراتیجیة) تحت عنوان "إستراتیجیة لإسرائیل فی الثمانینات" وجاء فیها: "إنّ العالم  العربی لیس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجیة فی العشرینات، فهذه المنطقة قُسّمت عشوائیاً إلى 19 دولة تتکوّن کلّها من مجموعاتٍ عرقیة مختلفة ومن أقلّیاتٍ یسودها العداء لبعضها (...) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائیل لتستفید من الضعف والتمزّق العربی لتحقیق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضی المجاورة لها وتقسیم البعض الآخر إلى دویلات على أساس عرقی وطائفی".

ثمّ تستعرض دراسة أودید بینون صورة الواقع العربی الراهن، والاحتمالات الممکن أن تقوم بها إسرائیل داخل کل بلد عربی من أجل تمزیقه وتحویله إلى شراذم طائفیة وعرقیة.

وهذا المشروع الإستراتیجی لإسرائیل فی ثمانینات القرن العشرین، والذی یتصل مع خطتها السابقة فی عقد الخمسینات، جرى بدء تنفیذه أیضاً من خلال لبنان والاجتیاح الإسرائیلی له صیف عام 1982 ثمّ إشعال الصراعات الطائفیة خلال فترة الاحتلال وفی أکثر من منطقة لبنانیة.

وفی 11 آب/أغسطس 1982، أی خلال فترة الاجتیاح الإسرائیلی للبنان، قال رئیس حزب العمل الإسرائیلی آنذاک شیمون بیریز ما نصّه الحرفی: "إنّنا لا نرید وتحت أیة ظروف أن نتحوّل إلى شرطی فی لبنان، ولکن الحل الأقرب للتحقیق بالنسبة لمستقبل لبنان هو تقسیمه وإعادته مصغّراً إلى الحدود التی کان علیها قبل الحرب العالمیة الأولى أی إلى نظام متصرفیة جبل لبنان".

وفی عام 1982 أیضاً أعلن أرییل شارون أنّ نظریة "الأمن الإسرائیلی" تصل إلى حدود إیران وباکستان!

هذا العرض المختصر للمخطط الصهیونی فی المنطقة العربیة یعنی أنّه مهما طال الزمن ومهما تغیّرت الحکومات الإسرائیلیة من حیث طبیعتها وأشخاصها، فإنّ تنفیذ المخطط یبقى مستمراً حتى یحقّق أهدافه الکاملة.

فلا ترتبط الإستراتیجیات والخطط الإسرائیلیة بحزبٍ معین فی إسرائیل ولا بشخصٍ محدد، بل هناک مؤسسات وأجهزة وأدوات تتابع التنفیذ منذ مؤتمر "بال" فی سویسرا عام 1897 مروراً بتأسیس دولة إسرائیل ثم حروبها على دول المنطقة.

وما یقوله الزعماء الصهاینة عن مخططاتهم (کما فعل هرتزل) لا یعنی التنبؤ أو التنجیم الفلکی، بل هو ممارسة (الأسلوب العلمی) فی الصراع حیث هناک دائماً (حرکة یومیة) و(خطط عملیة) لتنفیذ (إستراتیجیة) تخدم (الغایة النهائیة) الموضوعة سلفاً. فکلّ خطّة فی أی صراع علیها مراعاة عنصریْ (الإمکانات المتاحة) و(الظروف المحیطة) لاستخدامهما واستغلالهما لصالح المخطط المنشود تحقیقه.

وما سبق عرضه عن المخططات الصهیونیة، لا یعنی أننا – کعرب- ننفّذ ما یرید الصهاینة أو أنّنا جمیعاً أدوات وعملاء لإسرائیل! بل الواقع هو أنّنا ضحیّة غیاب التخطیط العربی الشامل مقابل وجود المخططات الصهیونیة والأجنبیة الشاملة. فنکون دائماً "ردّة فعل" على "الفعل" الإسرائیلی أو الأجنبی الذی یتوقّع سلفاً (بحکم التخطیط العلمی) ماهیة ردود أفعالنا قبل أن تقع لتوظیفها فی إطار أهدافه.

وإذا کان التساؤل مشروعاً عن مسؤولیة بعض الأنظمة العربیة تجاه ما حدث ویحدث من نجاحِ للمخطط الصهیونی، فإنّ السؤال الخطیر هو: کیف یجوز لشعوب الأوطان العربیة أن تکون مسهِّلاً  لتنفیذ هذه المشاریع الصهیونیة؟

فاستعراض صورة الواقع العربی الراهن تؤدی إلى نتیجةٍ سلبیة للأسف، بسبب الشرخ الخطیر داخل الشعب الواحد فی أکثر من بلدٍ عربی.

وهناک طروحات وممارسات طائفیة أو مذهبیة أو عرقیة تسود عدّة بلدان عربیة بشکلٍ لم یسبق له مثیل فی التاریخ العربی الحدیث.

أیضاً، هناک ترکیز إعلامی وسیاسی على تفسیر وربط ما یحدث فی المنطقة بأمور طائفیة أو مذهبیة ثمّ توزیع المناطق والأحزاب والحرکات السیاسیة على قوالب طائفیة ومذهبیة.

إنّ المغامرة التی یقودها البعض فی عدة بلدان عربیة من أجل تحویل الطوائف والمذاهب والأقلیات العرقیة إلى کیاناتٍ سیاسیة منعزلة لن یکون مصیرها إلا إضعاف الطائفة أو الأقلیة العرقیة نفسها... وشواهد التاریخ المعاصر فی لبنان أفضل مثال على ذلک. قد یکسب آنیاً أشخاص وعملاء، لکن الثمن سیکون باهظاً جداً على حساب الشعب کله والطوائف کلها والمذاهب کلها. فلا قدرة ولا إمکانیة للحیاة لأیّة دویلة ستقوم على أساس طائفی أو مذهبی أو عرقی.

وعندما یتفجّر الصراع الطائفی والعرقی، تتوقف فوراً الصراعات الاجتماعیة، بحیث یتقاتل الفقراء مع بعضهم البعض على أساس انقسامهم الدینی أو العرقی.. وتتوقف أیضاً المعارک التحرّریة والوطنیة، لأنّ العدو سیکون فی الطائفة الأخرى أو المذهب الآخر... فالدرس الذی تعلمه الأعداء جیداً، هو أن التقسیم الجغرافی والسیاسی، قد یقیم الحواجز والحدود بین الدول، لکنه لا یمنع وحدة الشعوب، بینما التقسیم الدینی والعرقی یقیم حدوداً مرسومة بالدم الأحمر لا بالحبر الأزرق!.

إنّ مسؤولیة التصدّی لهذه المشاریع تبدأ عند کلّ فرد عربی بـأن یعیَ ما یخطَّط لمستقبله وضدّه، وهی مسؤولیة کلّ عائلة فی أن تفرِّق خلال تربیة أولادها بین الإیمان الدینی وبین التعصّب الطائفی والمذهبی الذی یرفضه الدین نفسه. وهی مسؤولیة أتباع کلّ طائفة أو مذهب، بأن یدرکوا أین تقف حدود هذه الانتماءات وأین تبدأ حدود الأوطان، فلا نرد على الحرمان من إمتیازاتٍ سیاسیة واجتماعیة، أو من أجل التمسّک بها، بتحرّکٍ یحرمنا من الوطن کلّه بل ربّما من الوجود على أرضه...

والمسؤولیة تشمل أیضاً الحکومات والمنظمات التی استباحت لنفسها استخدام الإختلافات الدینیة أو العرقیة فی صراعها مع بعضها البعض أو من أجل تحقیق مکاسب سیاسیة آنیة لها.

إنّ المعرفة الأفضل لکلٍّ من الدین والعروبة، والعرض السلیم لهما من قبل المؤسسات الدینیة والثقافیة والإعلامیة، سیساهم بلا شک فی معالجة الإنقسامات الطائفیة والعرقیة فی المنطقة العربیة.

کذلک، فإنّ البناء الدستوری السلیم الذی یحقق العدالة والمساواة بین أبناء الوطن الواحد ویضمن الحریات العامة للأفراد والجماعات، هو السیاج الأنجع لوحدة أی مجتمع.

الملفت للانتباه هنا، أنّ تاریخ نشأة المنظمة الصهیونیة، کان متزامناً مع ظاهرة الکفاءات العربیة والإسلامیة آنذاک التی کانت مضطرّة إلى العیش خارج أوطانها وتطمح إلى نهضة عربیة وإسلامیة جدیدة (مثال جمال الدین الأفغانی ومحمد عبده فی فرنسا، والرابطة القلمیة فی أمیرکا الشمالیة.. الخ).

لکن الفارق بین الطرفین أنّ صاحب دعوة الحق (النهضة) اعتمد فقط على أحقّیة دعوته بینما کان الطرف الآخر (رغم بطلان دعوته وعدم أحقیتها فی اغتصاب وطن شعب آخر) أکثر تنظیماً وأفضل تخطیطاً لمراحل التغییر المطلوب على الأرض، إضافة طبعاً إلى توفّر ظروف دعم ومساندة ضخمة من قوى عالمیة کبیرة.

نحن العرب المعنیون الأُول، ماضیاً وحاضراً ومستقبلاً، بکل ما تخطط له وتفعله المنظمة الصهیونیة العالمیة، حتى لو سیطر علینا السأم والملل من تکرار هذا الکلام.

نحن العرب لا نحتاج إلى إدراک مخاطر ما تفعله المنظمة الصهیونیة والقوى الکبرى الطامعة بأرضنا وثرواتنا، حتى نتحرک وننهض ونصحح أوضاعنا السیئة فی أکثر من مجال لا علاقة له بالوجود الصهیونی أو التآمر الأجنبی!.. لکن نحن العرب نحتاج إلى الأخذ بالأسلوب العلمی فی عملیة النهوض والتصحیح، تماماً کما أخذت به المنظمة الصهیونیة ـ ولم تخترعه ـ یوم تأسّست وخطّطت ثم نفّذت.

 ( المقال للدکتور صبحی غندور مدیر "مرکز الحوار العربی" فی واشنطن استلمته وکالة قدسنا  )

ن/25

 

 

 


| رمز الموضوع: 140893







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)