الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

ما الحکمة من إسقاط خیار المقاومة المسلحة؟

بقلم معن بشور

یروی مقربون من الرئیس الشهید یاسر عرفات فی معرض الحدیث عن الطریقة التی کان یدیر فیها أبو عمار الصراع مع العدو الصهیونی بعد اتفاقیة أوسلو إنه کان یواجه ضغوطاً إسرائیلیة وأمریکیة لاعتقال أحد أبرز مجاهدی "حماس" فی الضفة الغربیة، وأن الرئیس الأمریکی السابق جورج بوش کان یتصل به یومیاً، وبل أکثر من مرة فی الیوم الواحد، لإلقاء القبض على المجاهد المذکور.

وفی أحدى اللیالی، وحین کان أبو عمار یجلس فی مکتبه فی "المقاطعة" وحوله عدد من معاونیه، دخل إلیه أحد ضباط الأمن یبلغه أنه قد حدد مکان المجاهد "المطلوب"، وأنه جهّز دوریة لاعتقاله. أبدى أبو عمار، کما یقول الراوی، أمام معاونیه وبینهم بعض "المتعاونین"، إرتیاحه الظاهری لما أبلغه أیاه ضابط الأمن، ثم خرج لبرهة من المکتب داعیاً أحد الرجال الذین یثق بهم لیبلغه بصوت خافت: حاول أن تعرف من الضابط مکان وجود المجاهد "الحمساوی"، وأسرع إلیه قبل وصول الدوریة إلیه لدعوته إلى تغییر مخبئه. وهکذا کان..

تذکرت هذه القصة لا لکی أذکّر بالتوازن الذی کانت تقوم علیه سیاسة القائد الفلسطینی التاریخی بین مفاوضات یجریها مع المحتل الصهیونی، ومقاومة یرعاها أو یحمیها ضد قواته، وهی سیاسة، کلفته على ما یبدو حیاته "وهو الذی حمل روحه على راحتیه طیلة أیام کفاحه" حین نجح العدو فی تسمیمه بعد محاصرته فی المقاطعة لأکثر من عامین ونصف إنتهت بالإجهاز على حیاته. وفرضیة تسمیم عرفات تبقى الأقوى حتى یثبت عکسها وخصوصاً بأننا أمام لجنة تحقیق أعلن مؤتمر "فتح" الأخیر عن تشکیلها منذ أشهر وما زلنا ننتظر نتائجها..

أتذکر هذه القصّة فی کل مرة أسمع بها السید محمود عباس، خلیفة أبو عمار فی رئاسة السلطة الفلسطینیة، یعلن فیها عدم إیمانه "بالمقاومة المسلحة" فی سیاق سیاسة معروفة لأبی مازن بدأها منذ رفضه قبل سنوات ما أسماه "بعسکرة الانتفاضة"، بل فی إطار مناخ عام تعبر عنه سیاسة النظام الرسمی العربی منذ سنوات القائمة على التنکر لخیار المقاومة، والتحریض على المقاومین، والسعی لمحاصرتهم دون أن یقدم هذا النظام بدیلاً مقنعاً لمواجهة التعنت والاحتلال والعدوان الصهیونی.

ولعل فی تصریح عباس الأخیر، الذی تزامن مع إعلان عدد من کوادر فتح فی نابلس عن استقالات جماعیة، ومع اغتیال الموساد لأحد قیادی حماس "أبو العبد المبحوح" فی دبی، ومع الإعلان عن عملیة عسکریة تفذتها مجموعة من کتائب أبو علی مصطفى "الجناح العسکری للجبهة الشعبیة لتحریر فلسطین الشریک الفاعل فی اللجنة التنفیذیة لمنظمة التحریر" ضد مجموعة صهیونیة شرق قطاع غزّة، ما یحتاج إلى نقاش عمیق وصریح وجریء تشهده الساحة الفلسطینیة عموماً، والحوارات الجاریة داخل حرکة "فتح" خصوصاً.

ولن یکون نقاشی الیوم مع منطق أبی مازن منطلقاً من منطلقات حرکة "فتح" التی أعلنت قبل 55 عاماً رصاصاتها الأولى، وتبنت فیها منطق الکفاح المسلح لتتمیّز عن غیرها من فصائل العمل الوطنی الفلسطینی آنذاک، ولتتقدم بسببها الساحة الفلسطینیة والعربیة والعالمیة، ولتتسلّم زمام الأمور فی منظمة التحریر الفلسطینیة نفسها.

کما لن یکون نقاشی مع هذا المنطق معتمداً على ما إقره مؤتمر فتح الأخیر ذاته الذی دعا إلى اعتماد خیار المقاومة بکل أشکالها، بما فیها المقاومة المسلحة بالذات، تأکیداً على فکرة العودة إلى "المربع الأول" وقد تردد مؤخراً على لسان عدد من مسؤولی فتح کمصطلح إستراتیجی یشیر إلى الکفاح المسلح...

النقاش هنا سینطلق من سؤال بسیط: إذا کان طریق المفاوضات بات مسدوداً "حسب تصریحات کبار المفاوضین الفلسطینیین، بمن فیهم عباس نفسه الذی یهدد کل یوم بالاستقالة بسبب التعنت الصهیونی"، فلماذا لا تترک السلطة الفلسطینیة ورئیسها الباب مفتوحاً على جمیع الخیارات؟ ولماذا تسقط السلطة کل "الأوراق" التی بیدیها، لاسیّما "الورقة" الوحیدة التی یخشى العدو استخدامها؟ ثم هل دفع منطق التخلی عن المقاومة المسلحة "الذی راج فی بعض الأوساط الفلسطینیة والعربیة منذ سنوات، بل عقود"، العدو إلى تقدیم تنازلات، مهما کانت محددة، أم أنه أدى بالعدو إلى المزید من التعنت وإدارة الظهر لکل الحقوق والضغوط، بل إلى المزید من الحصار والعدوان والتهدید من غزة إلى القدس مروراً بکل الأرض الفلسطینیة.

وإذا کان السید عباس دعا إلى المقاومة السلمیة بدیلاً للمقاومة المسلحة، علماً بأنهما متکاملان وغیر متعارضین، فأین هی هذه المقاومة السلمیة التی یفترض أن تمتلأ بها یومیاً کل المدن والبلدات والمخیمات الفلسطینیة لاسیّما فی الضفة الغربیة التی فاخر الجنرال الأمریکی دایتون فی شهادته أمام الکونغرس الأمریکی قبل أشهر أن خطته نجحت فی "منع انتفاضة شعبیة فی الضفة الغربیة انتصاراً لغزة أبّان العدوان علیها قبل عام"، بل قال "أن الحاکم العسکری الإسرائیلی للضفة الغربیة خلال الحرب على غزة، لم یجد ما یحول دون غیابه عن مقر قیادته فی الضفة لمدة أسابیع لإطمئنانه إلى هدوء الأوضاع فیها".

فهل ما یجری فی القدس من تهوید وتهجیر وهدم منازل وأحیاء وحفریات وتدنیس مقدسات إسلامیة ومسیحیة تمهیداً لإزالتها هو أمر یخص المقدسیین وحدهم دون إستراتیجیة فلسطینیة- عربیة وعالمیة تضعها القیادة الفلسطینیة وتسعى لتنفیذها، وهل استمرار الصهاینة فی بناء جدار الضم والقضم العنصری شأن یعنی الأهالی الشجعان فی بلدات بلعین ونعلین ومعصرة بیت لحم ومعهم بعض المتضامنین الأجانب الشرفاء دون غیرهم، بل ودون تحرک فلسطینی- عربی شامل لتفعیل قرار محکمة العدل الدولیة بإزالة الجدار، وهل قضیة الآف الأسرى والمعتقلین فی سجون الاحتلال هی قضیة هؤلاء المعتقلین وذویهم الذین یعتصمون ویتحرکون دون وجود آلیة استنهاض فلسطینی وعربی ودولی تحول قضیتهم إلى قضیة ضمیر عالمی یتم من خلاله محاصرة العنصریة الصهیونیة.

فأین هو برنامج المقاومة السلمیة إذن، إذا سلمنا جدلاً بالمنطق الخطیر الداعی إلى وقف المقاومة المسلحة؟ ثم هل یمکن لأبی مازن أن یقدم لشعبه ولأمته مثلاً واحداً عن حرکة تحریر وطنی نجحت فی إنجاز التحریر والاستقلال عبر إسقاط خیار المقاومة المسلحة؟ هل فعل الفیتنامیون ذلک، وقد کانت أعنف جولات قتالهم على أرضهم متزامنة مع جولات المفاوضات فی باریس؟ وهل رضی الجزائریون بالعرض الفرنسی بوقف القتال قبل المفاوضات؟، وهل ألقى الإیرلندیون السلاح قبل الوصول إلى اتفاق یحترم حقوقهم؟ وهل تخلى المصریون عن فدائییهم قبل إنجاز اتفاقیة الجلاء؟ وهل رأینا فی إفریقیا وآسیا وأمریکا اللاتینیة بلداً تنازل عن مقاومته المسلحة قبل نیل الاستقلال؟ وهل حرر الصینیون بلادهم بغیر المقاومة المسلحة، وکذلک الفرنسیون الذین یفاخرون بمقاومتهم المسلحة، والأمریکیون الذین یحتفلون حتى الیوم بحرب الاستقلال قبل قرنین وربع القرن، ناهیک عن المقاومة الروسیة والیونانیة والیوغسلافیة ضد النازیة؟..

وإذا تطلع أبو مازن حوله إلى تجربة المقاومة اللبنانیة وما أنجزته، وإلى المقاومة الفلسطینیة التی دحرت المحتل فی غزّة بعد أن تمنى لو تسقط فی البحر، وإلى المقاومة العراقیة التی فرضت على الجیش الأکبر فی العالم جدولة انسحابه.

قد یستشهد دعاة "المقاومة السلمیة" بتجربة المهاتما غاندی فی الهند ویرون فیها نموذجاً یمکن اعتماده رغم الفارق الکبیر بین ظروف قارة کبرى کالهند تضم کماً کبیراً من الأثنیات والأدیان والقومیات، وبین بلد صغیر کفلسطین، بل بین انتداب بریطانی آنذاک مرتبک واستعمار صهیونی عنصری تزداد شراسته مع الأیام. ولکن لهؤلاء نقول: حتى المهاتما غاندی نفسه، رغم ابتداعه لنموذج المقاومة اللاعنفیة، لم یسقط یوماً خیارات أخرى أمام شعبه، وربما کان یهدف من تصعید مقاومته السلمیة إلى توحید شعبه لینتقل به إلى مرحلة أعلى إذا لم تنل الهند الاستقلال.

فی لقاء أخیر لی مع أبی مازن فی بیروت، هدفت من خلاله إلى دفع مساعی المصالحة الفلسطینیة أساساً، سألت رئیس السلطة الفلسطینیة: ألا تعتقد أن وصول المفاوضات إلى طریق مسدود، وإلى الفشل الذریع، کما یقول کبیر المفاوضین صائب عریقات "الذی کان حاضراً" یحتم علیکم مراجعة المسار التفاوضی برمته، وأن هذه المراجعة تفرض أمرین أساسیین، المصالحة الوطنیة وتذلیل ما یعترضها من عقبات، والمقاومة بکل أشکالها والتی کانت مبرر وجود "فتح" برمتها؟

قد لا یکون أبو مازن فی وضع یسمح بمثل هذه المراجعة، لکن ألیس من مسؤولیة قادة فتح وکوادرها، وفصائل منظمة التحریر جمیعاً، وکل فصائل العمل الوطنی الفلسطینی السیر على طریق المراجعة التی هی عربة یقودها جوادان: المصالحة والمقاومة، بل مصالحة رکیزتها المقاومة، ومقاومة تعزز روح المصالحة.

ن/25


| رمز الموضوع: 139779







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)