النفوذ الاسرائیلی فی موریتانیا
ثمة جرائم أخرى لا تقل فی رأینا أهمیة عما یجری فی قطاع غزة الصامد, وإن کانت تسیر بصورة خفیة بعیدة قدر ما عن الضوء الإعلامی تقوم بها إسرائیل فی سریة وتکتم؛ فی محاولة لرسم خریطة المنطقة العربیة، وخلق نزاعات عربیة إفریقیة تتمخض عنها "کنتونات" تکتسب فیما بعد صفة الدولة، بدعم غربی ومعاونة إسرائیلیة؛ لتکون شوکة فی خاصرة العرب وظهیرًا موالیًا لإسرائیل والغرب.
إستراتیجیة شد الأطراف وبترها:
عند التأمل والتتبع للسیاق التاریخی سنجد إسرائیل تعمد إلى إیجاد قنوات اتصال مع بعض العرقیات فی الدول ذات الأغلبیة العربیة؛ فی محاولة منها لنزعها من الوطن الأم خصمًا کلیًا من رصید العرب، وإلحاقًا لها بالهویة الإفریقیة؛ من خلال ما یعرف بنظریة شد الأطراف، ثم بترها, والتی تقوم على محورین أساسین:
الأول: استثمار المعطیات المرتبطة بصورة العربی فی العیون الإفریقیة:
فقد استطاعت الدعایة الصهیونیة أن تبث أفکارًا ومعتقدات غیر حقیقیة عن العرب وعلاقتهم بالأفارقة, لا سیما فیما یتناول موضوع الرق والاستعباد؛ وهو ما أدى إلى إیجاد صورة نمطیة إفریقیة عن الإنسان العربی تتسم بالتشویه والکذب, فی حین رسمت صورة عکسیة للیهودی تتسم بإیجاد قواسم مشترکة مع الإفریقی.
وهذا التزییف المتعمد یمهد لبتر الأطراف التی غالبًا ونتیجة الدعایة المکثفة تتکون لدیها "القابلیة للانفصال" والتمرد على الکیان المرکزی, وهی حالة بارزة فی النموذج الموریتانی کما سنرى.
الثانی: تقدیم الدعم والمساندة لحرکات التمرد
بعد تهیئة المناخ المناسب للتمرد, والمیل نحو التعلّق بالحبل الممدود تقوم "إسرائیل" بمد ید المعاونة لتلک الحرکات حتى یقوى ساعدها فی مواجهة السلطة المرکزیة، ویتسنى لها الوصول لبغیتها المنشودة فی فک ارتباط جزء من الدولة عن الوطن الأم، وإنشاء کیان معادی یعترف بالفضل لإسرائیل.
السودان نموذجًا..
ونظرًا لأهمیة وکبر مساحة حجم الدولة السودانیة وأهمیتها الإستراتیجیة فقد جرى الترکیز علیها فی المخطط الإسرائیلی باعتبارها نقطة البدء, وقاعدة انطلاق, وتم تنفیذ الإستراتیجیة من خلال تقدیم الدعم والمساندة لحرکة المتمرد الراحل جون جارنج جنوب السودان, والآن تقدم إسرائیل کذلک دعمها لبعض حرکات التمرد الدارفوریة لتطبیق الإستراتیجیة ذاتها.
وقد برزت تفاصیل الدور "الإسرائیلی" فی أزمة جنوب السودان من خلال کتاب صادر عن مرکز دیان لأبحاث الشرق الأوسط وأفریقیا التابع لجامعة تل أبیب عام 2003، بعنوان: "إسرائیل وحرکة تحریر جنوب السودان: نقطة البدایة ومرحلة الانطلاق"، وهو من تألیف العمید موشى فرجى، وهو ضابط متقاعد من الجیش "الإسرائیلی".
ویشیر الکتاب إلى أن ما قامت به "إسرائیل" من دعم لحرکة التمرد فی جنوب السودان هو استمرار لإستراتیجیة وضعها فریق عمل ضم نخبة من أبرز المفکرین فی "إسرائیل" فی الخمسینیات، أطلق علیها إستراتیجیة "شد الأطراف وبترها", حیث سعت إلى إذکاء الصراع؛ من خلال إقناع الجنوبیین بأنه صراعهم یعتبر مصیریًا، وهو یدور فی شمال عربی مسلم محتل، وجنوب زنجی أفریقی مسیحی.
موریتانیا ..الهدف الإسرائیلی القادم
ویبدو أن الإستراتیجیة الإسرائیلیة قد نشطت فی موریتانیا لتحقیق الهدف ذاته, وخلق بؤر توتر فی نسیج المجتمع من خلال خلیة "عمل خاصة" فی سفارتها بنواکشوط، تقف وراء مطبوعات ظهرت مؤخرًا، وتتحدث بلهجة خطیرة عن العرقیات؛ بهدف تمزیق عرب البلاد وتقسیمهم على أساس "أبیض وأسود", فی مقدمة لخلق بؤرة توتر اجتماعی.
وظهر آخر المناشیر الأربعاء (27/02/2008)، وحمل عنوان: "الحراطین یتحدثون عن 50 سنة من التهمیش والإقصاء", وتحدث عن "أن القراءات المعاصرة قد عمدت إلى تحریف الحقائق وتغیرها بغیة التضلیل، فی حین أن المعطیات التاریخیة أثبتت بما لا یدع مجالاً للشک أن السکان الأصلیین لموریتانیا هم من السود.. وعلى الرغم من هذه الحقائق التاریخیة التی لا تدع مجالاً للشک، فإن مثقفی نظام البیضان العنصری یتعمدون تجاهلها، معتمدین بدل ذلک المصادر الشفهیة المفبرکة", ویسرد المنشور بعض ما یعتبره ممیزات فی ثقافة "الحراطین" تمیزهم عن العرب البیض.
وقد أکد مصدر أمنی موریتانی أن وراء المناشیر ناشطون سیاسیون على صلة مباشرة بسفیر "إسرائیل" بنواکشوط، وهؤلاء یمارسون دورًا خطیرًا یهدف إلى نشر دعوة للفصل بین عرب البلاد السمر والبیض، ودفعهم نحو التخلی عن عروبتهم، والبحث عن أصول إفریقیة.. وساق عدة دلالات على وقوف "إسرائیل" وراء تلک الأحداث، منها ما کان فی نهایة عام 2007، حیث فوجئ الوفد الموریتانی لدى الاتحاد الأوروبی بوثیقة تصف العرب الموریتانیین بأنهم "أقلیة إقطاعیة وعنصریة تحکم قبضتها على البلاد بالقوة وتهمش الأفارقة"، وحملت الوثیقة إحصائیة غریبة تقول إن أفارقة موریتانیا یمثلون 70% من المجتمع الموریتانی, أعدتها "ماری آن اسلیر بیغان"، النائبة الأوروبیة التی قادت بعثة الاتحاد الأوروبی لمراقبة الانتخابات الموریتانیة فی الفترة الانتقالیة. وحاولت النائبة الدفاع عن نفسها معتبرة أن الوثیقة لیست للنشر، وأنها أُعدت من طرف مساعدة لها (کرواتیة) قامت باستنساخ بیانات منشورة على الإنترنت من قِبل حرکة "تحریر الأفارقة الموریتانیین" (أفلام), لکن اکتشف بعد ذلک أن سفیر إسرائیل فی نواکشوط هو من سلّم النائبة الأوروبیة هذه الوثیقة إبان حملة الانتخابات الأخیرة.
حرکة "أفلام" ودولة ""الوال والو"
شهدت البلاد حرکة مسلحة (أفلام)، والتی تأسست بتاریخ 14/3/ 1983؛ بهدف تحریر الأفارقة فی موریتانیا، وإقامة دولة "الوال والو" الأفریقیة على أنقاض موریتانیا العربیة.
وقامت الحرکة سابقًا بإعداد مخطط عسکری للإطاحة بنظام الرئیس السابق ولد الطایع، تم اکتشافه قبل الشروع فیه بعدة أیام, حیث کان موعد انطلاقة العملیات لیلة 13/8/1987, وکانت الحرکة تهدف إلى أبعد من الاستیلاء على السلطة وقیادة البلد، بل إلى إقصاء عنصر العرب والقضاء علیه من خلال تنظیم مذابح جماعیة ضدهم، وإقامة دولة زنجیة، کما یبدو من المخطط (إغلاق الحدود، مدة أربعین یومًا لتمریر الإبادة الجماعیة للعرب بعیدًا عن أنظار العالم، وتغییر اسم الدولة من الجمهوریة الإسلامیة الموریتانیة إلى جمهوریة الوال والو الأفریقیة".
وهذا الانقلاب کما یقول الباحث توفیق المدینی فی مؤلفه عن الانقلاب ومحدودیة التغییر فی موریتانیا انکشف من طرف ضابط فرنسی؛ بعد أن اطلع على تفاصیله فی مقر الاستخبارات الفرنسیة التی لم تشأ التدخل فی الموضوع.
وتمکنت بقایا تنظیم "أفلام" داخل الجیش الموریتانی من إعادة ترتیب شئونها بعد تلک الضربة, وخطط منسقو خلایا التنظیم العسکری لتنفیذ "نسخة منقحة" من انقلاب 1987؛ وذلک بالانقضاض على ولد الطایع مساء 27 نوفمبر سنة 1990 خلال الحفل الذی سیقام بمناسبة احتفال عید الاستقلال الوطنی فی القصر الرئاسی، وذلک باستخدام سلاح الطیران وشن هجوم جوی على القصر وتدمیره، وإبادة کل من یضمهم الحفل المقام بمن فیهم الرئیس الطایع وکبار معاونیه من قادة الأرکان والوحدات الأساسیة فی العاصمة, ومن ثم الاستیلاء على المواقع الحساسة بواسطة فرق مکلفة بذلک لتکتمل السیطرة على العاصمة نواکشوط، وآل مصیر الانقلاب إلى الفشل کسابقه.
وإن کانت العلاقة ما بین إسرائیل وحرکة (أفلام) لا یوجد ما یعضدها سابقاً إلا أن ما یدور فی الساحة الموریتانیة من تأجیج للنواحی العرقیة حالیًا، والذی تقف من ورائه "إسرائیل"، یؤکد التلاقی على ذات الأهداف والإستراتیجیة, ویؤکد أن البلاد محل الاستهداف من قِبل إسرائیل، وقد تکون حرکة (أفلام) رأس الجسر الذی تعبر علیه لتمزیق المجتمع الموریتانی.
ب/ن/25