الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

رحلة إلى العریش

فی العریش .. کما لم تشرق الشمس صباحها بهذه الحریة المغموسة بلون الفقر والهم .. والطریق السوداء أصبحت طویلة للغایة بنظر من استلّ حقائبه الفارغة من الحاجیات للذهاب إلى العریش للتسوق .. وفی روایة أخرى " لسد حاجة الحصار " .

أطفال بلا ضحکة بریئة یفترشون الأرضَ ینتظرون الذهاب لشراء حاجیاتهم الصغیرة ، وکأن العریش أصبحت " کتکبیرة العید عند الصباح " کلما سمعوا اسمها ضحکوا وفرحوا وراحوا یرکضون دون أن یعرفوا مصیرهم النهائی وسط الحصار .. أما الشباب المتلهفون للذهاب للعریش وکأنهم ذاهبون إلى باریس تناولوا النکات والضحکات الساخرة، فمنهم من رثت ثیابه بفعل المشی وآخرون من صنعوا لأنفسهم طریقاً بعیداً عن الزحام .. تماماً کما عانى التجار من نساء غزة " بخصام الأسعار " ، لحین أن شعرنا أنهنّ لو أردنَ السلع الغذائیة والتموینیة دون مقابل لما وفرّن ذلک ..

انتفاضة الزحام الغزیّة التی قادها عشاق الحریة لم تنتهی بانتهاء المواد التموینیة أو السلع الغذائیّة ، فالفلسطینیون باتوا أکثر حاجةً لشمس غیر شمس غزة ، وماءٍ على ماءها ، وتراب غیر ترابها ، حتى وجوه غیر وجوهها .. لکنهم لم یفلحوا کما قال وسام مرتجى من منطقة الزیتون ، لأنّ غزةَ ومن فیها انتقلت للعیش فی العریش .. فأصبحوا متشابهون بکلّ شیء إلا " البیوت " ، لأنها غیر بیوتهم ، فإما أن یناموا فوق الأرصفة أو إما أن یتسامروا فی الأسواق حتى الصباح ، أو یعودوا أدراجهم للون الحصار الذی أصبح بلا حصار.

تماماً عندما اندهش محمد الشافعی من منطقة النصیرات وراح یشیر بإصبع السبابة من یده الیمنى بلهفة اتجاه نور إحدى اللمبات فی المحال التجاریة عندما اشتعلت وقال بشوق " الکهربا اجت "، وسرعان ما لکمه أحد الشباب الغزیین على کتفه ممازحاً وقال " ما بدک تطلع من جو غزة الممل ".

المسکین محمد الشافعی .. لقد نال غیاب الکهرباء عنه فی غزة .. ما جعله یحلم بها فی العریش .. وفی وضح النهار .

وعند مرورنا فی إحدى شوارع العریش تفاجئنا بصالونات الحلاقة قد امتلأت عن بکرة أبیها فأصبحت کالحصار .. نظرنا بغرابة وعیوننا تأکلها التساؤلات .. هل انقرض حلاقو غزة ؟ أم أن القصّات الشبابیة الجدیدة لم تعد فی غزة بفعل التجویع وإغلاق المعابر ؟ ، فیما رجّح أحد الأصدقاء بأنه لربما أغلق الحلاقون محالهم وذهبوا کغیرهم لرحلة العریش ..

کلّ هذهِ التساؤلات أجاب عنها أحمد الریخاوی من مدینة رفح فقال بسخریة " أی خلونا نغیر جو ، زماااان ما حسیت بهادی النعنشة " .. ضحکنا على إجابته ورحنا نسیر ونحن فی حیرة من أمرنا ، ماذا أصاب شعب غزة ؟

الشوارع تبدو محتفلة .. کل هذه الجماهیر الغزیة التی تواجدت کانت تبحث عن ثمّة حریة مطلقة تتحدى خلالها ظلم الحصار .. فالإنسانیة وبکل لغاتها لم ولن تحتمل هذا العدد الهائل من الفلسطینیون الذین حضروا لمواکبة انتصار الکهرباء على الحصار .. فأدمعت وراحت تندی بکلماتها الشعریة .. علّ أسیاد الأمم المتحدة وحکام العرب والمسلمین ومجلس الأمن والشعوب أن یحرکوا ساکناً أمام عبور غزة إلى المجهول .. ونوم سکانها فی الظلام ..

فرحلتنا هذه أثبتت أن العریش عروس الاقتصاد الأولى فی العالم ..

" أم بلال " .. هکذا عرفت لنا سیدة مصریة نفسها .. لربما لم تصدق کل هذا الزحف الغزی الغریب .. لکنها باتت تدرک أن ثمّة جرح یؤلم غزة جعلها تمضی بهذه الأعداد التی فاقت بکثیر کل حدود الوجع .. فقالت لنا والتنهیدة کادت أن تتحول إلى دمعاً " لم یتبقَّ شیء .. لقد أخذ الفلسطینیون کل أمتعة وأغراض أسواق العریش .. حتى أطقم النوم لم تعد متوفرة هنا "

وسرعان ما اتجهت أنظارنا إلى بعض شباب یستمعون لأغانٍ وطنیة کنّا قد سمعناها فی غزة کثیراً .. لقد کانوا یجوبون أسواق العریش وهواتفهم النقالة تصدح طرباً بأغانی حرکة فتح .. فابتسم أحدنا وقال لهم " احذروا .. التنفیذیة هنا " .

الأسواق ضیقة ومتزاحمة .. وصوت الباعة والضجیج طغى تماماً على صوت الحصار فقط " بشیکل .. أو بجنیه .. إن لم تکن دولاراً " ، الناس یجوبون لا یعرفون ماذا یریدون على وجه الخصوص .. لکنهم کلما وجدوا سلعة یقل سعرها عن أسعار غزة قاموا بشرائها حتى وإن کانت شبشب " أکرمکم الله " .. البنایات العالیة فی العریش لم تخلو قط من سکانها المصریون .. لربما باتوا فی غرابة مما یحدث .. فترکوا التلفاز وأعمالهم وأجهزتهم وکل ما یخصهم واستمروا لفترات طویلة یتابعون عن کثب عبر نوافذ البیوت والبرندات تحرکات الشعب الغزی المجنون الذی نال من کلّ شیء .. کلّ شیء ..

فالبهائم والخِراف ، والجِمال ، وأطقم النوم ، والدراجات الناریة ، والزیت ، وحتى الصحون والملاعق .. أصبحت جمیعها وسائل جدیدة یتحدى بها الشعب المکلوم ظلم الحصار .. بینما حکام العالم لا زالوا یفیقون من غیبوبة الشیاطین التی أرقصتهم مذلةً وهواناً یوم أن حاصر الغرباء حدود غزة .. وأصبحت الکرامة لدیهم بلا ثمن .

( الکاتب  عمر فارس ــ جمعیة أفنان )

ن/25


| رمز الموضوع: 139403







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)