قطار إدارة بوش على سکة "بیکر/هاملتون"
وما یراه الآن البعض "مفاجأة" فی مسار السیاسة الأمیرکیة بالشرق الأوسط وتجاه إیران، کان فی تقدیری أمراً متوقّعاً بعد نتائج الانتخابات الأمیرکیة "النصفیة" التی جرت فی شهر نوفمبر من العام الماضی واستتبعها إعلان توصیات لجنة بیکر/هاملتون، لیکوّنا معاً (الانتخابات والتوصیات) علامة فارقة وضاغطة فی اتجاهات السیاسة الأمیرکیة.
فانتخابات عام 2006 کانت صفعة ألیمة على وجه إدارة بوش وعلى الحزب الجمهوری، کما کانت أشبه باستفتاء شعبی أمیرکی حول الحرب فی العراق تحدیداً وعلى عموم سیاسات الإدارة، ممّا اضطرَّ الرئیس الأمیرکی إلى إجراء تعدیلات فوریة فی إدارته کان أبرزها تنحّی وزیر الدفاع رامسفیلد وإقالة جون بولتون من منصبه فی الأمم المتحدة، وهما معاً، کانا قطبین مهمّین لسیاسة أیدیولوجیة فاشلة سارت علیها إدارة بوش فی سنواتها الماضیة. واستمرّ نائب الرئیس الأمیرکی تشینی فی موقعه بحکم أنّه جاء للحکم مع الرئیس فی انتخابات الرئاسة، وسوف یذهبان معاً فی انتخابات نوفمبر فی العام القادم.
لکن الانتخابات التی کانت رسالة شعبیة سلبیة ضدّ سیاسة الإدارة تزامنت أیضاً مع إعلان توصیات "بیکر/هاملتون" التی تضمّنت بدیلاً استراتیجیاً لسیاسة الإدارة، وصدرت عن مجموعة من الأشخاص البارزین والمهمّین فی السیاسة الأمیرکیة ویمثّلون "الجمهوریین" و"الدیمقراطیین" معاً، فجاءت توصیاتهم لتعبّر عن "المصالح الوطنیة الأمیرکیة" التی تضرّرت کثیراً من النهج الذی سارت علیه إدارة بوش.
لقد کان ممکناً أن یسیر "قطار المحافظین القدامى والجدد" إلى أقصى مداه لولا إجباره على التوقّف أمام محطتیْ "الانتخابات" و"التوصیات"، ولم یکن لیردع هذه الطغمة التی حکمت أمیرکا ویلات سیاساتها فقط، إذ أنّها کانت تراهن على مزید من الحروب والصراعات، لکن حیویة المجتمع الأمیرکی ووجود مرجعیة شعبیة تراقب وتحاسب، هی التی أجبرت إدارة بوش على وقف اندفاع "قطار المحافظین"، وعلى الاضطرار إلى السیر فی سکک جدیدة، ولو فی بطءٍٍ شدید، وهی المسارات التی حدّدتها "توصیات بیکر/هاملتون".
إذن، هو مزیج من الأسباب أدّى ویؤدّی إلى تحوّلات فی سیاسة إدارة بوش. فلا "الدیمقراطیة الأمیرکیة" وحدها هی المسؤولة عن التحوّل، ولا انسداد الطرق أمام نهج الإدارة هو الدافع فقط، کلا الأمرین معاً هما وراء ما نشهده الآن من بوادر اعتماد الدبلوماسیة والمفاوضات بدلاً من نهج الحروب والتصعید فی الأزمات.
وهکذا هو السیاق فی سیاسات الإدارات الأمیرکیة السابقة، إذ أنّ التحوّل یحدث حینما یمتزج الفشل فی السیاسة الخارجیة مع مردود سلبی فی الحیاة السیاسة الداخلیة ووسط المجتمع الأمیرکی. والحرب الأمیرکیة فی فیتنام کانت خیر مثال على ذلک.
طبعاً، یبقى الأساس فی أی تحوّل بالسیاسة الخارجیة هو معیار النجاح أو الفشل فی تحقیق الأهداف (ولیس فی حجم الخسائر فقط). ووفق هذا المعیار، فإنّ إدارة بوش فشلت فی حروبها وسیاساتها فی کلٍّ من العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطین، ولم تستطع حلیفتها إسرائیل أیضاً تعویض هذا الفشل بل زادته خسارة فی أکثر من مجال. ولم ینجح الجبروت العسکری الأمیرکی والإسرائیلی فی القضاء على حرکات المقاومة ولا فی إضعاف الدول الإقلیمیة المؤیّدة لها. وکان ذلک، وما یزال، العامل الأهم فی اضطرار إدارة بوش إلى مراجعة مسار السیاسات الفاشلة.
وکانت أولى تباشیر التحوّل فی نهج إدارة بوش، هی المفاوضات المباشرة مع کوریا الشمالیة، (رغم اعتراض کتلة من "المحافظین" على ذلک)، ثمّ فی إجراء مفاوضات محدودة مع طهران ودمشق تحت مظلّة "موضوع العراق"، وصولاً إلى مؤتمر أنابولیس الذی شارکت فیه سوریا، وإلى تقریر أجهزة الاستخبارات الأمیرکیة حول توقّف إیران عن تصنیع سلاح نووی منذ العام 2003. ولم یکن ممکناً إعلان هذا التقریر ألاستخباراتی لولا موافقة "البیت الأبیض" على ذلک، وترجمة ذلک سیاسیاً تعنی أنّ الرئیس الأمیرکی حسم الآن ما کان أمامه من رؤى متضاربة بشأن الموقف من إیران. فالإدارة کانت قبل "توصیات بیکر/هاملتون" تسیر فی نهج تصعیدی عسکری وسیاسی ضدّ طهران ولم تکن فی وارد المفاوضات معها، واستمرّت هذه الرؤیة فاعلة داخل الإدارة من خلال موقع نائب الرئیس تشینی فی مواجهة رؤیة قائمة فی وزارتی الخارجیة والدفاع، تدعو إلى تنفیذ ما جاء فی توصیات بیکر/هاملتون.
ویبدو أنّ الموقف من إیران کان أشبه بمسک ختام فی سلسلة التراجعات الحاصلة فی نهج إدارة بوش، وفی کیفیّة التنفیذ البطیء الممرحل لتوصیات بیکر/هاملتون، والتی دعت إلى اعتماد أسلوب المفاوضات المباشرة مع خصوم واشنطن، وإلى إقامة مؤتمرات دولیة وإقلیمیة للتعامل مع شبکة من القضایا، وإلى تغلیب نهج الدبلوماسیة والتعاون الدولی والإقلیمی فی معالجة الأزمات المشتعلة.
وهذا التحوّل الجاری الآن فی نهج الإدارة الأمیرکیة لا یعنی برداً وسلاماً فوریاً فی أزمات الشرق الأوسط، بل إنّ صراع الإرادات سیستمرّ بأشکال مختلفة إلى حین التوصّل إلى صیغ مقبولة من کل الأطراف الفاعلة فی هذه الأزمات، لکن ما هو الآن فی حال التعطیل أو التجمید، هو الخیارات العسکریة التی کانت تُلوّح بها إدارة بوش، وهو أیضاً الرؤیة الأیدیولوجیة التی کانت وما تزال تضغط باتجاه تغییرات جذریة فی حکومات وکیانات معاً فی منطقة الشرق الأوسط.
ویراهن النهج الجدید الآن فی إدارة بوش على فرض تسویات سیاسیة تضمن المصالح الأمیرکیة والوجود العسکری/الأمنی الأمیرکی فی المنطقة بشکل اتفاقیات تفرزها هذه التسویات.
فهناک مراهنة أمیرکیة الآن على إمکان حدوث تسویة سیاسیة فی الجبهة السوریة/الإسرائیلیة خلال العام 2008 تنعکس على الجبهتین اللبنانیة والفلسطینیة، وتؤدّی إلى تحجیم التأثیر الإیرانی فی هذه الملفات، وإلى اضطرار طهران إلى القبول بهذه التسویات. وترى واشنطن أنّ النجاح فی هذا التوجّه الجدید فی ملفات الصراع العربی/الإسرائیلی سیؤدّی حتماً إلى إفرازات ونتائج إیجابیة داخل العراق وفی أوضاعه الأمنیة والسیاسیة.
وأعتقد أنّ الأولویة غیر المعلنة الآن فی التوجّه الجدید لإدارة بوش ستکون الملف السوری/الإسرائیلی ولیس الملف الفلسطینی کما هو ظاهر التحرّک الأمیرکی الراهن. فالتسویة على الجبهة السوریة/الإسرائیلیة، وما سیرافقها على الجبهة اللبنانیة، تعنی شمولیة التسویات فی کل الدول المحیطة بإسرائیل، وستؤدّی إلى إضعاف النهج الفلسطینی المعارض لقیادة السلطة الفلسطینیة، والذی یجد متنفّساً له فی الساحتین السوریة واللبنانیة. وسیکون من السهل بعد ذلک التعامل مع القضایا الکبرى فی الملف الفلسطینی والتی تعیق إعلان الدولة الفلسطینیة.
أمّا بالنسبة لإیران، فإنّ استمرار اللهجة السلبیة الأمیرکیة تجاهها، رغم ما ورد فی تقریر أجهزة الاستخبارات، فهدفه هو مواصلة الضغوط لبناء أرضیة مناسبة للمفاوضات معها عاجلاً أو آجلاً!.
ما هو مُهمَّش فی الاهتمامات الإعلامیة العالمیة حینما یتمّ الحدیث عن مخاطر الملف النووی الإیرانی، أنّ الدولة الوحیدة فی الشرق الأوسط التی تدعو إلى التصعید العسکری ضدّ إیران، هی إسرائیل التی وحدها تملک السلاح النووی فی المنطقة، وبأنّ أمیرکا التی تقود الحملة ضدّ الملف النووی الإیرانی هی الدولة الوحیدة التی استخدمت السلاح النووی فی تاریخ الحروب البشریة!.
( المقال لمدیر "مرکز الحوار العربی" فی واشنطن استلمته قدسنا )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS